الشــــــــــــــــــرارة
روى البلاذري قال: لما استشهد الإمام الحسن بن علي{ع} اجتمعت الشيعة .. أي أنهم يشكلون عددا معينا بسبب ما نزل بهم ....ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ وأم جعدة هي أم هانئ بنت أبي طالب – شقيقة الإمام علي بن أبي طالب {ع} هؤلاء أبناء عمة الحسين {ع} ...اجتمعوا في دار سليمان بن صرد، فكتبوا للحسين كتابا بالتعزية وقالوا في كتابهم:{ ان الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك} ..
يظهر أن أبناء عمة الإمام كانوا يشكلون حلقة الوصل بين شيعة الكوفة , وبين الحسين {ع} وان هناك ممن بقي على خط الولاية الذي يمثله الإمام علي وأبناءه عليهم السلام ..وهؤلاء لا يمثلون الأغلبية للمجتمع الكوفي ..
وكتب أليه بنو جعدة يخبرونه بحسن حال رأي أهل الكوفة فيه وحبهم لقدومه وتطلعهم أليه وان قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يرضى هديه ويطمأن إلى قوله ويعرف نجدته وبأسه، فأفضوا أليهم ما هم عليه من شنآن ابن أبي سفيان والبراءة منه، ويسألونه الكتابة أليهم برأيه.هذه نواة الشرارة التي اقتدحها موقف الشيعة , ومراسلتهم للإمام الحسين {ع} ..
فكتب الحسين{ع} أليهم: إني لأرجو أن يكون رأي أخي - رحمه الله - في الموادعة ورأيي في جهاد الظلمة رشدا وسدادا،" فالصقوا بالأرض واخفوا الشخص واكتموا الهوى واحترسوا من الاظناء ما دام ابن هند حيا، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله ( ).. وفي كلام له{ع} مع محمد بن بشر الهمداني وسفيان بن ليلى الهمداني: ليكن كل امرئ منكم حِلسا من أحلاس بيته ما دام هذا الرجل حيا، فإن يهلك (ونحن) وانتم أحياء رجونا أن يخير الله لنا ويؤتينا رشدنا ولا يكلنا إلى أنفسنا، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( )..
للإنصاف نقول : إن الذين كاتبوا الحسين {ع} في تلك الظروف , صدقوا الله بعهدهم , فقد نال الشهادة منهم معه في كربلاء يوم عاشوراء عام 61 هجرية , ومنهم من سجن وبعد خروجه , بعد شهادة الحسين {ع} سار على نهج الثورة الحسينية وصدق وعده , ونال الشهادة في سبيل عقيدته ونصرة دين نبيه , من خلال نصرة آل بيته عليهم السلام ...
عيون الاستخبارات التي تراقب حركة الحسين {ع}
روى ابن قتيبة والكشي: أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية (وهو عامله على المدينة آنذاك ):. أن رجالا من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي {ع} وانه لا يؤمن وثوبه. وقال: {وقد بحثت عن ذلك فبلغني انه يريد الخلافة.} ( ).
يتبين من هذا النص .. إن الشرارة كانت موجودة , والمعارضة قائمة ضد معاوية , تحتاج إلى تنسيق وتعبئة وإعداد للثورة من قبل الحسين {ع} ... بالمقابل هناك جهد استخباري كبير يلعبه مروان من خلال دس عيونه في صفوف المتعاطفين مع الثورة الحسينية , وما يؤيد هذا , قوله لمعاوية في الرسالة المشار لها أعلاه : " وقد بحثت عن ذلك فبلغني "
يكون لدينا استنتاج واقعي , عن حجم الإعداد الذي تتخذه السلطة الأموية لإجهاض الثورة وتفريغها من محتواها الإعلامي والسياسي والعقائدي , وهذا ما لعبته الأجهزة الإعلامية بعد شهادة الإمام الحسين {ع} لتستكمل حلقة الإجهاض على رسالة أهل البيت {ع} المتمثلة برسالة السماء , وتهيئة البديل الديني لرسالة محمد بن عبد الله {ص} هذا هو الشعار المركزي للسلطة الأموية " تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكره , والذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار "...
في رواية البلاذري: وكان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين عليه السلام , يجلونه ويعظمونه ويذكرون فضله, ويدعونه إلى أنفسهم , ويقولون إنا لك عضد ويد، ليتخذوا الوسيلة أليه... ، وهم لا يشكون في ان معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين أحدا، فلما كثر اختلافهم أليه.... أتى عمرو بن عثمان بن عفان , إلى مروان بن الحكم وهو عامل معاوية على المدينة، فقال له :قد كثر اختلاف الناس إلى الحسين{ع}، والله لأرى أن لكم منه يوما عصيبا.
من المؤكد أن عمرو بن عثمان بن عفان , ليس من المترددين على مجالس الحسين {ع} التي يحضرها شيعته , ولا يمكن أن يثق به الحسين {ع} يوما ما , ولكن النص الذي ذكره البلاذري يبين أن مروان بن الحكم انتدب هذا الرجل لمراقبة تحركات الحسين {ع} وشيعته ..!
بناء على المعلومات الخطيرة التي وصلت للوالي مروان من عناصر الاستخبارات , كتب بذلك الى معاوية.يعلمه تحركات الشيعة , واختلافهم على الحسين {ع} وان المدينة المنورة أصبحت بؤرة لثورة يراها الأمويون من خلال تحركات شيعة أهل البيت {ع} ..
فكتب أليه معاوية: أن اترك حسينا ما تركك , ولم يظهر لك عداوته , ولم يبد لك صفحته واكمن له كمون الشرى .. أي راقبة في الخفاء , ودس له العيون , وكن على حذر من شيعته ومواليه ..
وكتب معاوية الى الحسين{ع} : قد انتهت إلي أمور عنك إن كانت حقا فاني ارغب بك عنها، وإن كانت باطلا فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ وبعهد الله توفي، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة أليك. فمتى تنكرني أنكرك ومتى تكدني أكدك، فاتق الله في شق عصا هذه الأمة وان تردهم الى فتنة...! {{ هذه رسالة تهديد واضحة من معاوية للحسين {ع} وقوله لا تحملني على قطيعتك والإساءة أليك , فيه تهديد علني بالقتل والتصفية الجسدية ... ويعرف الحسين {ع} كلام الطواغيت أمثال معاوية وأذنابه , وانه ليس هو فقط المعني بالرسالة , بل شيعته ومواليه سيلحقهم ما يلحقه من أذى وتعسف الطواغيت الاموين }} ..
فكتب أليه الحسين(ع) : أما ما ذكرت انه رقي أليك عني فأنه إنما رقاه أليك الملّاقون المشاؤون بالنميمة..أي العيون التي تراقب أبناء رسول الله {ص} عدوك التقليدي ..
ما أردت لك حربا , ولا عليك خلافا , واني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن الأعذار فيه أليك والى أوليائك الفاسقين الملحدين حزب الظلمة.{ هذه وثيقة مهمة من وثائق الثورة الحسينية زمن معاوية , والرد على تهديداته الفارغة } ... ثم يقول {ع} : ألَست القاتل حجر بن عدي أخا كنده وأصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة.. جرأة على الله واستخفافا بعهده.
أولَـست القـاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله {ص}، العبد الصالح الذي ابلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه، فقتلته بعدما آمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟
أوَلَست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد بن ثقيف، فزعمت انه ابن أبيك وقد قال رسول الله{ص} : ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، فتركت سنة الرسول تعمدا وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل أعينهم ويصلبهم على جــذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.
أولَست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم أنهم على دين علي {ع} ، فكتبت اليه: ان اقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمه{ص} الذي كان يضرب عليه أباك وضربك عليه وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه...
وقلت فيما قلت :انظر لنفسك ودينك ولأمة محمد{ص} واتق شق عصا هذه الأمة وان تردهم الى فتنة، واني لا اعلم فتنة على هذه الأمة أعظم من ولايتك عليها ..!!! ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد أفضل من أن أجاهدك، فأن فعلت فانه قربة الى الله تعالى وان تركته فأني استغفر الله لديني وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت فيما قلت :إني إن أنكرتك تنكرني، وان أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فأني أرجو أن لا يضرني كيدك وان لا يكون على احد اضر منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلك وتحرصت على نقض عهدك.
ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوك ونقضوا عهدك، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا. فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا. فابشر يا معاوية بالقصاص وأيقن بالحساب...
وليس الله بناس لأخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك إياهم من دورهم الى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث يشرب الشراب ويلعب بالقرود ( ).
هاتان الرسالتان المتبادلتان بين الحسين {ع} ومعاوية , وضحت أي لبس واشتباه أن الثورة بدأت بعد موت معاوية , هي وثيقة أولية من وثائق الثورة الحسينية , وتبين عدم اهتمام الحسين {ع} وشيعته بالتهديد والتصفية والقتل , ووضعت السلطة الأموية أمام مسؤولية تاريخية ودينية وأخلاقية , وبيان رأي المرجعية الدينية المتمثلة بالإمام الحسين {ع} من الحوادث السياسية التي تمارسها السلطة وأتباعها , وهو الذي يحمل الحسين {ع} وشيعته القيام بالثورة .
***
على اثر تلك الرسالة اتخذت السلطة الأموية إجراءات احترازية لتطويق الثورة , وعدم اتساعها في الأوساط الشعبية من غير الشيعة ,ومن تلك الإجراءات , منع وصول عامة الناس الى الحسين {ع}, ومنع اللقاءات والمقابلات الشعبية التي يقوم بها بعض المقربين لأهل البيت {ع} فقام الوليد بن عتبة يحجب أهل العراق خاصة عن الحسين بعد سنة 57 هجرية: وهذا يدلل أن شيعة العراق من البصرة والكوفة كانوا يشكلون ثقلا وخوفا على السلطة الأموية ..!!.
روى البلاذري عن العتبي قال: حجب الوليد بن عتبة بن أبي سفيان , أهل العراق عن الحسين، فقال له الحسين{ع} : يا ظالما لنفسه عاصيا لربه، علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقي ما جهلته أنت وعمك؟ ...!! فقال الوليد: ليت حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا أليك فجناية لسانك مغفورة ما سكنت يدك، فلا تخطر بها فنخطر بك ..( ).
وتطورت الحوادث بعد تأزم الموقف , بين السلطة الأموية والشيعة في الحجاز والعراق , في ظل قيادة أبي عبد الله {ع} في رأس المعارضة , حينها وضحت علنية الثورة وبدايتها في زمن معاوية , وتبلورت اللقاءات والاجتماعات الى مستويات شيعية متقدمة , عكس ما يذكره المؤرخون أن الحسين{ع} كان يمنعهم من الإعلان والبوح حتى يموت معاوية ..!!.
المؤتمر العام للثورة الحسينية زمن معاوية
وصلت الثورة الشيعية الى مراحل تنظيمية, علنية تجاهر بالعلن موقفها من سلطة بني أمية وال سفيان , وتدعوا لإسقاط شرعية النظام الأموي الذي يمثل خروجا على العقيدة ..
فعقد المؤتمر الأول في موسم الحج في مكة المكرمة عام 59 , قبل هلاك معاوية بسنة واحدة ,وقد حضر المؤتمر قائد الثورة ومفجرها الحسين بن علي {ع} .. وكان معه عدد كبير من الشيعة , وشخصيات من بني هاشم مثل ,عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر،وعدد كبير من الهاشميين فجمع الحسين {ع} بني هاشم ثم رجالهم ونساءهم ومواليهم, ومن حج من الأنصار ممن يعرفه الحسين وأهل بيته(ع) ، ثم أرسل رسلا: لا تدعون أحدا حج العام من أصحاب رسول اللّه{ص} المعروفين بالصلاح والنسك إلا اجمِعوهم لي، فاجتمع أليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي {ص} فقام فيهم خطيبا:
حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:....أما بعد فان الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم واني أريد أن أسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني, وان كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا فاني أتخوف أن يُدْرس هذا الأمر ويذهب الحق ويُغلب، واللّه متم نوره ولوكره الكافرون.( )..
فما ترك شيئا مما انزله الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره، ولا شيئا مما قال رسول الله{ص} في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه... وفي كل ذلك يقول أصحابه، اللّهم نعم وقد سمعنا وشهدنا ويقول التابعي: اللهم قد حدثني به من أثق به وائتمنه من الصحابة فقال: أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه ..
كان هذا المؤتمر ثمرة من ثمرات الحراك الشيعي الذي قاده الحسين {ع} وشيعته الذي فدوا دمائهم ومهجهم في وصول الثورة الى العلن , وفي موسم الحج , وكان المؤتمر ردا على تخرصات السلطة الأموية الغاشمة التي زيفت رسالة السماء , وبدلت قوانين القران ,وولغت في دماء المسلمين , ومن جانب آخر تحديا للسلطة الاستخبارية والحصار الإعلامي الذي ضربته الدولة الأموية ضد حركة الحسين {ع} في تقويض السلطة الأموية في زمن معاوية بن أبي سفيان , الذي عجز عن إيقاف تنفيذ الاجتماع في مكة المكرمة وفي موسم الحج .
قرار الزمرة الأموية في تصفية الشيعة
اتخذت الأجهزة الأمنية الأموية قرارا بتصفية المعارضة الشيعية بلا رحمة، وتصاعدت لهجة العداوة بحدة في لعن الإمام علي (ع) وتكفيره على المنابر، علما أنهم لم يلعنوا لا الخوارج ولا أفراد أي حزب معارض آخر.تركوا جميع المعارضين , وناصبوا العداء لال الرسول {ص} وال بيته الكرام وشيعتهم ....
ويستلزم البحث في «دور الأمويين في تصفية المعارضة الشيعية» كتابة ما لا يقل عن مقدمتين، الأولى في كيفية استيلاء الأمويين على الخلافة،وصراعهم مع علي {ع} وشيعته , وقتل جميع العناصر التي يمكن ان تؤثر على هيكل النظام الشيعي العام ...
والثانية نشوء المعارضة الشيعية. وسيكون الحديث عن قيام الدولة الأموية طويلاً؛ الأمر الذي لا يسمح به المقام. ومع ذلك لا بدَّ من توضيح بعض النقاط حتى نفهم خلفيات بطش أجهزة القتل الأموية واستخباراتهم بممثلي المعارضة الشيعية بلا رحمة ...
التاريخ الإسلامي يبين أن المعارضة المركزية لرسالة السماء جاءت من قريش , وقد تزعم الأمويون معارضة قيام الإسلام، وكانوا أشد الناس عداوة للنبيّ(ص) ولآله. قتل بعضهم في بدر على أيدي الإمام علي(ع) وعمه حمزة(رض)، وأسلم من ظلّ حيا منهم يوم فتح مكة لا عن طواعية وقناعة. وخططوا بالسر والعلن , وبالمؤامرات, وصلوا إلى السلطة عن طريق ولاية الشام ذات المواريث المسيحية البيزنطية، تذرعوا بكلِّ عذر للانتقام، معهم رجال إدارتهم ,فاستباحوا الحرمات في كربلاء والحرة وحصار مكة وغير ذلك من الحوادث التي طرزت الأرض بالدم ...
المقدمة المهمة في هذا البحث معرفة الآراء حول تاريخ نشوء المعارضة الشيعية ومتى ومن أنشأه، وأين نشأ، والأدوار التي مرّ بها خلال التاريخ. وكيف تعرضت للتصفية ..
يمكن القول: «إن أول من وضع بذرة التشيّع في ارض الإسلام الذي زرعها محمد ابن عبد الله {ص}( ). باعتبار الدعوة الإسلامية مثلت في مكة حركة معارضة للنظام الذي سيطر عليه تجار بني أمية وغيرهم من سادة قريش....
والتشيع ارتبط بالإمام علي بن أبي طالب(ع)، وتوسع المفهوم في المدينة المنورة من الأحاديث التي كان يقولها رسول الله {ص} بحق علي وال بيته عليهم السلام ( ) ..
ولد مع هذا المفهوم مفهوم آل البيت،{ع} وعرف الناس النبي {ص} سيد الأمة ورأس آل البيت المقدس المطهر ، والإمام علي(ع) الثاني بعده في آل البيت.وهو النموذج الكامل للشخصية المسلمة. من الطبيعي أن يتعلق به بعض المسلمون، لأنهم يرون فيه استمرار الرِّسالة، بعد انتقال النبي(ص) إلى الرفيق الأعلى.
ولما كان النظام الأموي والقرشي الذي كان يتحكم بمكة، قد هزم يوم فتحها، لكنه لم ينتهي , ولم يذوب في رحم المجتمع المسلم ,بل حافظ على اعتباره واندس ببراعة داخل صفوف الدولة الناشئة التي احتاجت إلى كوادر إدارية لقيادة الأراضي الجديدة آلتي فتحت آنذاك .
من هذه الناحية عاد الاموين لاستلام السلطة وكسب الناس لصالحهم بالمال والمصالح التي بأيديهم , في الإدارة كسبوا المال والجاه فتهيأت لهم الفرص للوثوب على السلطة واغتصابها.
وقد استثمر الحزب الأموي الحوادث التي أعقبت وفاة النبي {ص}وتقدم زعيمهم ليثير فتنة كبيرة تؤدي إلى حرب شعبية حين طلب من الإمام علي {ع} ان يبايعه خليفة لرسول الله {ص} بعد أن فلتت منهم الرئاسة ..( )..
مخطوط كتاب «أنساب الأشراف» فيه أرقام كبيرة لحجم الثروات التي تجمعت في أيدي رجال الطبقة الحاكمة الجديدة. ومن أخبار هذا الكتاب ومصادر أخرى رأيت أن جميع ولاة عمر بن الخطاب وقادته قد اتهموا باستغلال موارد الدولة وتصرفوا بها، ولم يملك الخليفة على صرامته وحزمه حسب ما كتب عنه , سوى سلاح العزل أو مقاسمة الثروة أو المصادرة. وقد فعل هذا مع كثيرين، ولم ينج منه حتى خالد بن الوليد حين قتل مسلما وزنى بزوجته ( ).
وبدا يظهر في الأفق بوادر الدولة الأموية داخل الدولة الإسلامية , واغتيل عمر بن الخطاب، واجتمع رجال الشورى . وبعد مناورات سياسية جرى اختيار عثمان بن عفان خليفة ، ووصف ابن عباس ولاية عثمان وسيرته بقوله: «فعمل بعمل صاحبية ستاً لا يخرم شيئاً إلى ست سنين، ثم إن الشيخ رق وضعف فغلب على أمره» ( )..
* * *
يقول ابن الأعثم الكوفي: «لما صار الأمر إلى عثمان بن عفان، أرسل إلى عمال عمر بن الخطاب، فأقرهم على أعمالهم ، ثم إنه بعث إليهم فعزلهم ، وجعل يقدم أهل بيته وبني عمه من بني أمية، فولاهم الولايات،… ثم كثر المال عليه، فكان كلما اجتمع عنده شيء من ذلك يفرِّقه على بني عمومته ,حتى كان يأمر للرجل بمائة ألف درهم، ثم قدم عليه عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص فوصله بثلاثمائة ألف درهم، ثم بعث إلى الحكم بن أبي العاص فرده إلى المدينة، وهو طريد رسول اللَّه{ص} ، ثم وصله مائة ألف درهم من بيت المال ، وجعل له خمس إفريقية»( ).
هذه الأموال لم تعطى سدى , بل وزعت وصرفت لتثبيت أركان دولة قادمة تحمل شعار تلقفوها يا بني أمية ( ). وتوزعت كوادر الحزب في البلدان الإسلامية , مدعومة من العاصمة الإسلامية , وقد ذكرنا فصلا عن تأسيس أول خلية تجسس في الكوفة من قبل الوالي الوليد بن عقبه , وأخوه عماره , وكيف تمكنت تلك الخلية الاستخباراتية من نقل معلومات عسكرية واجتماعية إلى الشام , وكيف تغلغلت الاستخبارات إلى بيت علي بن أبي طالب {ع} من قبل خادم في بيته , تمكن أن يوصل معلومة تفيد بتعيين مالك الاشتر {رض} واليا في مصر ,وتمكنت الخلية نقل الخبر بسرية تامة للشام ونجحت في اغتيال القيادي الشيعي مالك الاشتر {رض} .. والخبر الآخر الذي وصل الشام عن أخبار القتال بين الإمام {ع} والخوارج ..تحدد على أثره القيام بالغارات على المدن الموالية للإمام علي {ع}..
وباتت موارد الأمة وثرواتها نهباً بين رجال بني أمية وأجهزتهم ، ولم يتورع والي العراق عن القول: إن سواد العراق بستان قريش. وجهر المسلمون بالشكوى، مثلها بالشام أبو ذر الغفاري، فكان نصيبه الطرد من الشام، ثم نفيه إلى الربذة. وظهرت بوادر للعصيان في مصر، واضطربت الأحوال بالكوفة لأسباب كثيرة تصدرها إقدام عثمان على إلحاق ولاية الجزيرة بمعاوية بن أبي سفيان ، وبذلك جعل موارد جند الكوفة رهن تصرف معاوية.( ).
الكوفة مدينة تأسست مع نجاح حركة الفتوحات الإسلامية في العراق، قامت في البداية على شكل معسكر للجند، على شكل مضارب خيم وأكواخ لقبائل الجند، وكان ذلك قبل سنة 17 هـ ..
نصف الجند الذين استقروا بالكوفة من القبائل القيسية والبقية من القبائل التي ساندت الإمام علي(ع). ... فاتخذت القبائل القيسية موقفاً معادياً من الإمام {ع} ، والتحق بعض زعمائها بمعاوية، ونخص هنا بالذكر زُفر بن الحارث زعيم قبائل كلاب.
ومن خلال دراسة الصراع بين اليمانية والقيسية، أن نفهم أن حركات المعارضة الشيعية خلال العصر الأموي، كانت وراء الحيلولة بين الإمام علي(ع) وإحراز النصر في صفين، ثم في إخفاق التحكيم، وفي قيادة حملة جديدة ضد معاوية إلى حادث اغتياله في مسجد الكوفة.!
وقد شهدت الكوفة الحركات الشيعية التي استهدفت تغيير السلطة الأموية بقوة السلاح، ولا شك أن هذه الحركات قد طورت حزب الشيعة وحوّلته من حركة سياسية محصنة لها أسبابها الاقتصادية والاجتماعية , إلى حركة معارضة ذات محتوى عقائدي وديني.
هنا يظهر جليا إن المعارضة الشيعية كانت تعاني من قوة السطوة الأموية , وتحكمها بالمال والمسؤولية الحكومية حين مسك عثمان السلطة , وتم التنكيل بكل صوت يرتفع ضد سياسات الاموين . كما جرى لأبي ذر الغفاري {رض} ..لذلك تيسر للسلطات الأموية الاطلاع يوميا على مختلف تفاصيل الحياة في الكوفة، ومعرفة أوصاف جميع الغرباء الذين وفدوا على المدينة مع أماكن استقرارهم وأسماء الذين التقوا بهم حتى أنهم عرفوا تفاصيل الأحاديث والنوايا..
ومنح هذا حكام بني أمية القدرة على رصد تحركات الشيعة بكل دقة , ووضع الشيعة وقياداتهم تحت العيون الاستخباراتية , لهذه الأسباب ولعوامل أخرى يلاحظ أنَّ الثورات التي تفجرت في الكوفة كانت معروفة , والجهات التي تقودها , ومن جانب آخر كان الشيعة يتحركون غالبا في الأوقات التي تضطرب الأحوال في بلاد الشام بسبب موت الخليفة ..( )..
جميع الحوادث التي وقعت تلك الفترة , كانت مضللة بأقلام الكتاب الذين دونوها, في وقت رجحت كفة الحزب الأموي من جانب , وتحرك الثورات الشيعية من جانب آخر , عمدت السلطة الأموية أولا إلى القضاء على كل تحرك سياسي وعسكري , ولا بد أن يصاحبه تحرك أعلامي يوحي للأجيال عدالة السلطة الأموية , وضعف ووهن تلك الحركات العسكرية , وإظهارها بمظهر التي لا قدرة لها على قيادة الأمور , وإفراغ شرعيتها في الحركة , وان قتلهم حماية للشرعية وانتصارا للدين ... لذا يجب قتل هؤلاء الفوضويين هكذا ألصق ما يمكن إلصاق التهم فيهم ..( ).
دور الجواسيس في اللعبة السياسية
استطاعت السلطة الأموية أن تنقل واجبات ومحورية الجنود الإسلاميين من الدفاع عن ثغر الأراضي والمدن الإسلامية , إلى واجبات بوليسية جديدة لم تكن معروفة من قبل في الوسط العسكري , وكانت المعسكرات تسمى حاميات كونها تحمي المدينة أو المجتمع .( ).
واتسعت الدوائر الاستخبارية بشكل يوحي إن الدولة تحولت إلى منظومة عسكرية , ومما يؤيد هذا القول , إن عبيد الله بن زياد , قبل التحاقه للكوفة , لما كان واليا على البصرة , كانت تصل أليه تقارير حركة الحسين {ع} والشيعة عامة , وشيعة البصرة خاصة , وكانت التقارير ذات أهمية أمنية , فأمر بتشكيل فوج طواريْ تابع للدولة لبسط الأمن , وزرع المناظر { مديرية امن } وضم أليها قوة مسلحة تابعة للقوات الأمنية في البصرة , بقيادة زجر بن قيس الجعفي , وكانت القوة بما يعادل اليوم فوجا عسكريا كقوة طواريْ .
وأول مسؤولية لجهاز الأمن في البصرة , قطع الطريق عن المجاهدين الشيعة الذين يريدون الالتحاق بالحسين {ع} ,وفعلا نجحوا في الحد من ظاهرة الالتحاق بالثورة ... وتذكر المصادر التاريخية إن الأجهزة الأمنية امتدت من البصرة إلى الكوفة , وعملت مسلحة " سيطرة " على الصراة , وكان عدد الجند الأمنيين يزيدون على خمسمائة فارس .. ومن المجاميع التي اصطدمت بهذه القوة , مجموعة عامر بن أبي سلامة بن عبد الله بن عرار الدالاني , حين اشتبكت القوة مع المسلحة وأدى إلى قتل أفراد من الطرفين . ووصل الباقون إلى كربلاء , ونالوا الشهادة مع الحسين {ع} ..( ).
يتبين من هذه الرواية , ان السلطة الأموية لم تكن كما صورها الطبري وأمثاله إن ابن زياد يأتي لوحده يدخل الكوفة , وبيده عصا من حديد وهو ملثم ويسلم على الناس , وهم يردون عليه قدمت خير مقدم يا ابن رسول الله {ص} .. هذه خرافات الكتاب الأمويين والعباسيين كالطبري وابن حجر , وابن كثير وبقية كتاب البلاط ..
ومن جانب اخر , جميع من قاتل الحسين {ع} واشترك في قتاله ليس من الشيعة , وسنأتي لاحقا بروايات تؤكد ما ذهبنا اليه في دفاعنا عن موقف شيعة العراق , وموقفهم من ثورة الحسين {ع} وما قدموه من شهداء ودماء في نصرة ابن بنت رسول الله {ص} ..
مقالات اخرى للكاتب