في أواخر القرن التاسع عشر استحدث احد ابرز رجالات علم النفس الحديث وليام جيمس 1842-1910 علم النفس الديني (religion psychology) بعد ان لاحظ هووالباحثون التأثير العميق للأديان والأنبياء على الحضارات والمجتمعات الإنسانية ليتخذوا الايمان والاعتقاد أسلوبا حديثا في العلاج النفسي تحت هذا المسمى.
وأسست مدينة شيكاغوالأمريكية في عام 1965 مركزا للعلاج النفسي باسم الدين والعلاج النفسي (religion and psychotherapy of chicago ) لإشراك الدين والقوى الروحية في عملية علاج المرضى وهذا يعد تحولا كبيرا في مسار التجربة الإنسانية الغربية التي تتسم بالطابع المادي.
بيد إن أروع من وصف هذه العلاقة ودورها في تاريخ البشرية استاذ علم الاجتماع الديني الدكتور علي شريعتي بقوله (( ان الأنبياء حكام القلوب بلا منازع ،لقد امتطوا وحش التاريخ الجامح واخذوا بعنانه ليدفعوا ركب الإنسانية العظيم الى الامام …واننا لا نتحدث هنا عن الايمان اوعدمه ولكن من يعرف التاريخ يدرك جيدا اين تعلم الانسان ،وفي اي مدرسة ،ومن هم الذين قاموا بتعليمه وتربيته ،لا مناص له من الاعتراف بان التاريخ هواشد موجودات هذا العالم تدينا والصقها بالاديان)).
وقد صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني عام1981 إعلان خاص بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أوالمعتقدات ،وتعني أي تمييز أواستثناء أوتقييد أوتفضيل يقوم على أساس الدين أوالمعتقد ويكون غرضه أوأثره تعطيل أوإنقاص الاعتراف بحقوق الأنسان والحريات الأساسية أوالتمتع بها أوممارستها على أساس من المساوة وللتعصب أشكال مختلفة اهمها التعصب الديني والتعصب اللاديني وهوموضع بحثنا الحالي .
وفقا للدراسات العلمية الحديثة ينبع التعصب اللاديني من التطرف الفكري لدى الملحدون واللادينيون الذي يدفع إلى غض الطرف عن الحقائق والانجازات التي حققتها الأديان والأنبياء للحضارة الإنسانية منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا والتركيز على الهفوات والاخفاقات التي رافقت العمليات الكبرى للتحولات الإنسانية العظيمة التي قادها الأنبياء على مر التاريخ ،ولكن إذا أردنا أن نمعن النظر في تاريخ الأديان المتعاقب لوجدنا وجها رائعا جميلا لم يقع عليه الطرف إلى يومنا هذا ،فانه ليس من قبيل المصادفة إن يجتمع المحرومون والعبيد حول الأنبياء ليواجهوا أهل القوة والجبروت والطغيان. فنرى في صورة رائعة يحمل فيها إبراهيم (ع) فأسا ويتوجه الى بيت الأصنام ويعلق فاسه على الصنم الأكبر بعد ان يحطمها وهكذا يبدا ثورته ضد الجهل والخرافة ويعلم الإنسانيةَ المنطقَ والتفكير. اما نوح (ع) فقد علم البشرية ارتياد الماء بسفينته بعد ان انقذ قومه من الغرق ،فارتادوا من بعده الانهار والبحار .وسليمان (ع) الذي بنى السدود ليحمي الملايين من الغرق وليثبت للعالم اجمع ان الانبياء هم صناع الحضارات بشقيها المادي والمعنوي.وهذا يوسف (ع) يعلم سكان الارض ،تخزين الطعام ,ليوفره للملايين بعد ان كانوا يموتون في المجاعات . اما موسى يبداء مسيرته بعباءة ممزقة وعصا متوجها الى قصر فرعون ليعلن حربه وحرب المظلومين على الفراعنة لتحريرهم من الرق والعبودية وانشاء مجتمع حر تسوده العدالة الانسانية.اما عيسى الشاب اليتيم يبدأ مسيرته بالوقوف امام إمبراطورية القياصرة المتوحشة والمتعطشة للدماء ليتحمل انواعاً مختلفة من العذاب لإرساء دعائم المحبة والاخوة في ذلك المجتمع و((يدعوجلادي روما وجنودها المتوحشين ان يغسلوا سيوفهم من الدماء على شاطئ بحر المحبة)) .
وقد حشد المسيح كافة قواه لمحاربة العبودية والظلم واراقة الدماء ودعا الى المحبة والسلام ،وبذلك قدم عيسى (ع) في فترة زمنية قصيرة اكثر بكثير من ما قدمته الإمبراطورية الرومانية التي استمرت لقرون متعاقبة ،والكلام لـ( شريعتي) ((فقد حول عيسى (ع) ارض (كلادياتور ونيرون) التي لا يسمع تحت سمائها إلا أنين الأسرى هدير الأباطرة ومصاصي الدماء إلى مهد لتربية الروح وتطهيرها لتصبح ارض القديس بول والقديس اراس والقديس جنيوا. اما محمد (ص) فقد شيد الحضارة الكبرى في العالم على اسس العلم والأخلاق والاقتصاد والسياسة والحقوق والحدود.
ان محمد (ص) مزيج من عيسى وموسى (ع) ففي آن نراه في طليعة أصحابه الذين يتشوقون للشهادة وآن أخر نراه في حالة أكثر لينا من المسيح ،يمر امام دار ذلك اليهودي الذي يلقي عليه الرماد فلا يرى الرماد ولا صاحبه ،يسال بلهجة العارف ،أين صاحبنا وحينما يسمع بمرضه يذهب لعيادته وفي مكان اخر وفي أوج قدرته عندما تدخل جيوشه مكة تلك المدينة التي ذاق فيها أصنافا مختلفة من العذاب والاضطهاد وفيما تلمع حوله عشرة ألاف سيف تريد ان تثأر من قريش … يسال قريش ماذا تروني فاعل بكم اليوم ؟ يجيبون ( اخ كريم وابن اخ كريم ) فيقول ( اذهبوا …انتم الطلقاء)). ولوان التعصب اللاديني والإلحادي لم يغض الطرف عن هذه الحقائق لرأى صورا رائعة من الإنسانية لم يصدقها أحد أن نرى مثلها في عالم الواقع.
فالاديان أغنت الحضارات الانسانية بالعلم والثقافة والجمال والخير والمحبة وما نعاني اليوم من آلأم وعيوب وحرمان ما هي الا نتيجة لابتعادها عن اصل وروح الاديان التي جاءت لانقاض البشرية ،ليصبح الالحاد المذهب العام للمتنورين في عصرنا الحاضر وأضحت نسب الجنون والانتحار ترتفع بشكل طردي يوما بعد يوم.
ويقول الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي د.فرانتوفانون ( تعالوا ايها الاخوة لنكف عن تقليد الغرب التــــــــــقليد الذي يذكرنا بالقرود ،علينا ان لا نصنع من افريقيا واســـــــيا ،اوربا ثانية ،ان العالم لتكفيه تجربة امريكا).
وهنا ليس المقصود البحث عن الانحرافات التي واجهتها الاديان وانما الحديث عن اصل الاديان التي لم تخرج عن جادة الصواب ،كما يجب ان ننظر للاديان من زاوية علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والسياسة لفهم عمقها ودورها في تشيد الحضارات الانسانية.
فالالحاد وفقا للدراسات الحديثة يرجع الى اسباب نفسية عميقة وتربوية واجتماعية نجد اثارها في سلوكيات بعض رواد الالحاد في العالم ،كـ(فولتير) الذي انكر والده بشدة لدرجة اختار لنفسه لقبا غير اسم والده وفرويد الذي يصف والده جاكوب فرويد بانه شخصا ضعيفا ومنحرفا جنسيا وهاجمه في اكثر من مره في كتاباته … واذا أمعنا النظر في معظم الملحدين البارزين لوجدنا لديهم كراهية شديدة اتجاه ابائهم وفرويد نفسه لاحظ ان الشباب يميلون الى فقدان ايمانهم اذا فقد ابائهم سلطتهم الابوية عليهم.
على الرغم من ان الالحاد يبدومسالة عقائدية ودينية الا ان الابعاد النفسية والعائلية والاجتماعية هي المحرك الرئيس للسلوك الالحادي بطريقة غير شعورية لان الفرد يحاول ان يختزل كل صراعاته ومعاناته ومشاكله في الاطار اللاديني ليحقق من خلاله توازنه النفسي ولذا في الكثير من الحالات لا تجدي الحوارات الدينية والفكرية نفعا مع الملحدين لان اصل المشكلة ليس دينيا بل نفسيا.
مقالات اخرى للكاتب