قال الرسول صلى الله عليه وعلى اله وسلم:(افضل الجهاد قولة حق امام سلطان جائر)
والمتمعن يرى ان الصفات التي يتصف بها (السلطان الجائر ) لاتنحصر فقط بالملوك والسلاطين والمتنفذين , بل تتعداها لتشمل المجتمعات المنغلقة التي يسيّرها عقل جمعي يرفض اي منطق يخالف ماتعودوا عليه.
ولعل سيرة النبي المصطفى الامين تشير لنا بوضوح مدى ماتعرض له في مكة حين اعلن دعوته المباركة(قولة الحق) امام مجتمع قريش وماناله من جورهم في رفض دعوته فكان المجتمع المتخلف هنا هو(السلطان الجائر) .
سقت هذه المقدمة للتعبير عن ان المجتمعات تكون احيانا هي السلطان الجائر الذي يرفض في لحظات الشد اية تعبيرات منطقية , وتتهور في الحكم على دعوات نبيلة , وتنعتها بكل صفات القبح والسوء , مما يجعل الكثير من المثقفين يعيشون في ازدواج في الطرح , اوعلى اقل تقدير يكون لهم نوعان من الاحاديث , احدهما حديث علني حذر يبتعد عن اية جملة او تلميح يُشتم منه اساءة او تشكيك بشخوص او احداث او مناسبات مقدسة ,واخر سريّاكثر شفافية ومنطق وتطابق مع الذات مقتصر على النخبة وعلى من يثق انهم لن يحملوا كلامه على محمل سيء .
وهذا مايجعل المثقف العراقي دائم التوتر في اللقاءات العامة التي تختلط فيها المشارب , وتلتقي فيها صنوف الانتمائات , وكذا في مجالاته الابداعية ومنتجه الثقافي والفني , فتراه ينزع الى الرمزية في طروحاته الخلافية , ولعل هذا ماجعل ازدهار الرمزية محتما في الانظمة الدكتاتورية والمتزمتة خلافا لحال المثقف الغربي الذي لايحتاج الى تغليف عباراته او استدعاء الرموز الابداعية , مما يضعف عنده استخدام الرمزية كغلاف لما يطرحه .
فالمثقف الغربي والفنان هناك , يعيش فضاءات تتيح له ان يتناول المقدس باريحية واحيانا بوقاحة دون ادنى شعور بتأنيب الضمير, لعلمه ان مايتاح له فهو متاح لخصمه بشكل متوازي ومتوازن, ولشعوره بالافلات من اية قيود تواجه منتجه , فلا يحتاج الى كثير من التفكير والتوتر لينتج افلاما عن الانبياء بدءا بنبيه .
كما ان الفنان والكاتب الغربي (المسيحي غالبا بالهوية او بالاعتقاد ) يجد انه مادام لايتوانى في بلده عن انتقاد المسيحية في تناوله الفني برغم ان معظم المتلقين هم من هذه الديانة , فانه لايتورع في التعامل مع الاديان الاخرى بذات الاندفاعات بلا قيود, ويقع من جراء ذلك في اشكالات تُدخله في كثير من الاحيان في صراع الاديان , فيبدو , حين يتناول رمزا اسلاميا , وكأنه مدفوع بخلفية الصراع الديني الى التقليل من الاسلام , بل ان تناوله يُعامل دوما على اسوأ محمل بلا اي تدقيق , فيما ان الامر عنده سيان , مممممسواء كان انتقاده لدينه الذي ولد عليه , او الاديان الاخرى.
وهنالك نقطة جوهرية اخرى علينا ان نأخذها بنظر الاعتبار , وهي ان هنالك انطباعات سلبية قد اخذها المثقف الغربي عن الاسلام تحديدا كان الذنب فيها ذنبنا نحن لاهو , فحين رسم رسام دنيماركي رسوم اعتبرت مسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم , فان الملامين الحقيقيين نحن لاهو , فهو قد رسم صورة للنبي الكريم بعمامة تحوي صواريخ وعبوات وادوات للقتل , وهي صورة صادمة للمسلمين ولاشك ,ولكن السؤال الذي يكمن وراء هذه الرسوم هو سؤال اكثر صدما , فالصورة التي رسمها هذا الرسام كانت نابعة من ثلاثة جوانب رئيسة هي :
الاول : اننا لم نفكر يوما بتشذيب تاريخنا وانتقاد ظلماته وسيئاته وصرنا نمجد كالببغاوات العصور المظلمة العباسية والاموية والعثمانية وغيرها مما لحقنا بها من عار الظلم والفتك بالناس والاعراض وارتكاب الفضائع والسبي والرق وازهاق الارواح والسلب والنهب ,وكلها تمت بغلاف الفتوحات الاسلامية المجيدة , ومادمنا نمجد بعصور الظلام ,فهذا يعني اننا كمجتمعات اسلامية موافقون ومتوافقون معها وفخورون بها .
والثاني : ان الكتب الفقهية على الكثير من المذاهب قد حوت من الفضائح والبلاوي والاباحة للقتل , وبدلا من ان يتصدى رجال الدين لنقضها وانتقادها , صيروها للمجتمع الاسلامي على انها كتب مقدسة تمثل الاسلام المحمدي الاصيل , فصارت هي الاسلام وصار المسلم بها سلابا فاتكاً غازيا محاطا بالجواري , ومكفرا كل ماعداه ومهتما بادخاله في سقر اكثر من اهتمامه بطلب المغفرة لنفسه .
والثالث : اننا لم نقف عند حد اعتبار التراث الذي ورثناه مقدسا كتراث , بل برزت طوال تاريخنا زمر وتيارات وعصابات , استلهمت المناطق الظلامية في التاريخ والفقه الاسلاميين واعتبرتها سنة السلف الصالح وعملت بها وطبقتها عمليا وبالحرف وبالمسطرة والقلم , فصار عندهم من ثابت الدين ان خالد بن الوليد هو سيف الله المسلول حتى لو ذبح مالك بن نويرة وجعل رأسه مسندا لقدر الطبخ (ثالثة الاثافي )ودخل بزوجته في نفس الساعة (بلا اكمال عدة ولاهم يحزنون ) , واقتبسوا بالحرف كل حديث عن زواج القاصرات وعن تكفير الاخرين وتنجيسهم واستحلال دمهم وعرضهم ومالهم , سواء كان هذا الاخر من دين آخر او من مذهب داخل ذات الديانة ابتداءا من الخوارج ومرورا بالوهابيين الذين دمروا المراقد المقدسة , وصولا الى الحركات الارهابية كالقاعدة وداعش وسواها .
فاذا كنا نحن اتباع الدين الاسلامي قد شوهت عقول اجيال كاملة لدينا بكتب الحديث التي حوت الغث والسمين , وفيها مافيها من تلفيق على الرسول الاكرم , واذا كنا الى الان نكفر بعضنا البعض ولانعترف به ولا بحصته من المقدسات ونسخر من شعائره , ولانمحص في معتقداتنا التي تسللت الى عباءة القدسية , فباي حق نطالب رسام اجنبي ان يمحص التاريخ ويستخرج منه صورة ساطعة للرسول الاكرم نحن شوهناها وسمحنا للاخرين منا ان يشوهونها , هل يصح ان نطالب الرسام بما تقاعسنا وعجزنا نحن عنه وهو ديننا والنبي نبينا ؟.
لو قال لنا الرسام ان احاديثكم التي تعدونها متواترة في طبعتموها في كتبكم بطبعات انيقة الى اليوم تتحدث عن القتل والدمار , واني هكذا فهمت دينكم وهذا نبيكم , واني ارى ان قتلتكم وذباحوكم الى الان يقتلون وخلفهم راية الاسلام , وانهم يفتتحون مجازرهم التي ينشرونها على مواقع التواصل وفي الاعلام بآيات من قرآنكم , فهل يسوغ لنا ان نكفره ونسعى الى مقاطعة الاجبان الدنيماركية , ام ان الاصح ان ننبذ كتب الحديث , او على الاقل ننقحها وندين احاديثها الضعيفة التي شوهت صورة الاسلام وبني الاسلام , ام اننا نستسهل فقط تكفير الاخر والحديث عن مؤامرة ضد الدين الاسلامي وضد العرب .
لقد كان لافتاً تباين ردود الافعال فيماحدث للصحفيين الفرنسيين الاسبوع الفائت من اعتداء على صحيفة شارلي ابيدو لنشرها رسما كاريكيتيريا , التي اراد بها االرسام (في العموم) ان يجمع فكرتين ايجابيتين في عمل فني (كما تصور) هما نبذه للارهاب وتبرئة الاسلام ونبي الاسلام من افعالهم .
ان وقفة هادئة (بعيدة عن حمق التسرع)امام العمل الفني الكاريكاتيري الذي تسبب بالحادث الاجرامي , لكفيلة بان تنسف كل ماقيل حول تعدي الرسام على رسولنا الكريم , بل ان الامر يتعدى ذلك , حتى ان التدقيق في الرسم يعبر بالضبط وبطريقة واضحة وصريحة عن بعد نظر الرسام ومدى فهمه لحقائق الامور, وهو ذات الفهم الذي نريد للاخرين ان يروه ويقتنعوا به عن الاسلام , بل والانكى من ذلك انه يطرح كاريكاتيرا يحث فيه ابناء جلدته من المتطرفين الاسلاميين الغربيين على ان يرفعوا الغشاوة عن عقولهم , وان يعلموا ان الاسلام لايرضى لهم ان يذهبوا ليقاتلوا في سوريا والعراق .
الرسام رسم صورة للنبي الاكرم اسيرا بملابس بيضاء ناصعة مكتفا وباركا على الارض وبملامح غاضبة وخلفه ارهابي (يفترض انه من جماعة داعش ) ملثما في بملابس عسكرية سوداء وبيده سيف ومتهيء لحز رقبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .وكتب الرسام في اعلى الكاريكاتير " إن محمدا) عاد إلى الحياة "
وفي الرسم فان الاسير المعرض للذبح وهو هنا يشبهه بالرسول الكريم يقول للارهابي : أنا رسول الله يا أحمق!
الذابح (الارهابي )يقول : أسكت يا كافر!
فاذا اردنا ان نتمعن في الرسم فاننا لانجد فيه تفسيرا سوى ان الرسام الفرنسي اراد أن يوصل رسالة من هذا الكاريكاتير ، أن داعش والجماعات الارهابية الأخرى لا تمثل الاسلام ، حتى أن محمد(ص) لو اعترض عليهم سيقتلوه !
كما انه تعمد ان يجعل ملابس ماصوره على انه الرسول الكريم بالابيض وهي علامة الدعة والسلام , فيما صور الارهابي بملابس سوداء تعبيرا عن السوداوية والرعب وصور النبي صلى الله عليه وسلم اسيرا بملابس مدنية , فيما صور الارهابي آسرا بملابس عسكرية ميليشياوية.
وصور الرسول الكريم غاضبا مستنكرا للفعل الارهابي الذي يقترف باسمه وباسم الاسلام , فيما صور الارهابي سيء الاخلاق لايرعوي على ان يخاطب نبي الرحمة (نبيّه)بالكفر, متناسيا انه يقتل باسمه وباسم الدين ,عدا عن انه صور النبي الاكرم شجاعا والسكين في رقبته ولايتوسل بطلب الرحمة بل يغضب من الفعل الارهابي .
اسئلة جريئة لمن تشمت بقتل الرسام وزملاءه بالاعتداء الارهابي :
1- هل يكون القتل وتاييد القتل جزاء فنان يرسم ملابس الرسول الاكرم بيضاء ناصعة , الا يعبر ذلك عن ارادتناوعما نقوله صدقا من انه نبي الرحمة وان الاسلام دين الاخاء والمودة والسلام؟
2- هل يكون القتل وتاييد القتل لرسام يكتب في الكاريكاتير محادثة من سبعة كلمات بمجموعها تصور غضبة الرسول واستنكاره للافعال الارهابية ويصور لنا غطرسة الاهابي واستخفافه بالدين وبالرسول الكريم وتكفيره له ولكل من يخالفه , ويفصل بكل وضوح بين الاسلام كدين سلام ومحبة وبين مدعي الدين من الارهابيين ؟, وهل يخالف ذلك مانقوله للعالم دوما بان الاسلام براء من العنف والارهاب الذي يفعل مايفعل باسمه ؟
3- هل يكون جزاء الرسام ان نقتله على عمل ينزه فيه الرسول الكريم من افعال الارهاب الخسيسة ويدين الارهاب؟
3- هل من صورة ابلغ من اسير شجاع لايهاب الموت ولايغضب لنفسه كمحمد بن عبد الله وانما يغضب لرسالة السماء كونه نبي الاسلام , ولايظهر مرتعبا بل غاضبا مما وصل له حال الاسلام على يد التكفيريين ؟ فهل يكون جزاء هذا الرسام القتل والتاييد بالقتل؟
4- لو ان الرسام رسم كاريكاتيرا يصور فيه الرسول الاكرم يطلب الرحمة باذلال (حاشاه) , او انه صور محادثة تظهر فيها تاييد الرسول للاعمال الارهابية , او صوره بشكل وحشي لايرحم (حاشاه), الم يكن هذا مدعاة لغضبنا واستنكارنا ؟ فكيف تكون لنا ذات رد الفعل على فعلين متعاكسين؟
5- كيف نوفق بين استنكارنا للرسام الدنيماركي الذي صور الرسول الكريم ارهابيا (حاشاه), وبين استنكارنا لرسام صوره نابذا للارهاب؟
ان العمل الارهابي الذي استهدف الجريدة الفرنسية كان غضبة من ارهابيين قتلة استشعروا خطر الفن في اظهار الفرق بين افعالهم وبين صحيح الاسلام , وهو مااثار غضبهم ؟ اما قولهم في تصوير الفيديو انهم انتصروا للرسول الكريم فهذه كذبة فاضحة وتدليسا ذكيا تسرب الى عقول الكثير من المسلمين حتى الواعين منهم مع الاسف
اما اشكالية تناول الرسول بالرسم والتشخيص الفني فمردودة , لان الجاهل فقط هو من لا يعرف ان التصوير الاسلامي قد صور الرسول الكريم في صور عديدة منها صورة شهيرة يظهره الرسام منحنيا للامام علي عليه السلام , والامام يعلوه ليحطم الاصنام في فتح مكة , ولم يعترض احد , والصور مبثوثة في كتب كثيرة اهمها التصوير الاسلامي ,بالاضافة الى ماتقدم من ان الغربي لايرى بأسا في التصوير للانبياء وابرزها الافلام عن السيد المسيح عليه السلام , والامر ليس مقصور عليهم بل ان الايرانيين لهم مسلسل طويل عن نبي الله يوسف ووالده النبي يعقوب , ولاعلاقة لنا بجمال وجه نبي دون اخر فالجمال جمال الروح .
نعم , انا اؤيد انزعاج الكثير من العراقيين لردود الافعال الواسعة على الحادث مقابل مايطال الاف العراقيين على يد الارهاب الغاشم , ولكن علينا ان نجير ردود الافعال هذه بالضد على من يخلطون بين افعال الارهابيين واقوال القران والرسول الكريم , لاان ننزعج عن توالي ردود الافعال الغاضبة , والتي هي (ضمنا ) تنفعنا في الادانة العالمية للارهاب , وترسخ الفصل بين الاسلام والوحوش البشرية التي تفتك بالبشر باسمه .
مقالات اخرى للكاتب