تعتبر الاحصائيات والبيانات العناصر الاساسية لأي تخطيط تنموى، وبدونها لا يمكن تحقيق تنمية على أرض الواقع، ومن المهم توافرها لصانعي القرار لكي يتمكنوا من اتخاذ القرار المناسب والصحيح، كما ان توفرها يساعد المواطنين على فهم اهمية القرارات العامة وإشعارهم بالمسؤولية وإشراكهم في النقاش العام.
وبقدر ما يهم القاعدة العلمية والتكنولوجية في العراق تتوفر عبر الشبكة العنكبوتية احصائيات وبيانات ومعلومات ذات اهمية كبيرة حول مسارات التطور والإحباط في التعليم العالي والبحث العلمي، نعتبر في مراجعتها ودراستها اهمية كبيرة لتوضيح الصورة الحقيقية لواقع الانتاج العلمي خصوصا وان الادبيات المرجعية تؤكد على ان قطاع التعليم العراقي حتى اوائل العقد الثامن من الألفية الماضية، كان من افضل انظمة التعليم في المنطقة (وكيبيديا العربية). وإذا افترضنا وجود علاقة بين نظام التعليم والانتاج العلمي، وهي فرضية صحيحة، فاننا في العراق لابد ان نتفوق في مؤشرات العلوم والتكنولوجيا والإبداع والابتكار على دول المنطقة. اتوقع ان يخالفني عدد كبير في هذا الاستنتاج بالنسبة للواقع الحالي للعراق ولكنهم لن يختلفوا معي حول الماضي، وهذا الاختلاف يعود الى اننا تعودنا على ترديد عبارات من قبيل ان العراق كان يملك افضل واكثر العقول والعلماء في المنطقة.
لغرض الوصول الى استنتاجات دقيقة وصحيحة وللتعرف على اتجاهات التطور منذ بدايات فترة دخول العلم الحديث للعراق مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة، اتجهت صوب دراسة البيانات التي توفرها مؤسسة (Scopus) و (SCImago Journal & Country Rank) واستخلاص بعض النتائج المهمة منها.
تظهر قاعدة البيانات النتائج العامة التالية:
1- اعلى عدد من النشريات في المجلات والادبيات العلمية العالمية هو 1697 نشرة في عام 2013.
2- اعلى معدل للنشر تم في مجلة (Saudi Medical Journal) وهو 270 نشرة (بحث).
3- تفوقت جامعة بغداد بأعلى نسبة من النشر وهي 2760 نشرة في كل تاريخها. تبعتها جامعة الموصل (1640) وجامعة البصرة (1277).
4- اكثر بلد مشارك مع العراق في تأليف البحوث هي ماليزيا.
5- لا توجد إلا مجلتين عراقيتين ذات معامل تأثير (IF) وهي: Iraqi Journal of Veterinary Sciences ومعامل تأثيرها هو (0.15) ومجلة New Iraqi Journal of Medicine ومعامل تأثيرها هو (0.03).
6- من بين 16 دولة شرق اوسطية تبوأ العراق المرتبة السابعة لغاية 1990 والمرتبة 12 منذ 1991 ولغاية 2003 وبقى في نفس المرتبة منذ 2004 ولغاية اليوم.
الانتاج العلمي العراقي منذ 1919 ولغاية اليوم والذي بلغ عدده 12778 ما بين بحث ورسالة ومقالة القيت في مؤتمر وفصل في كتاب يظهر تصاعدا مستمرا فيما عدا فترة الحصار وبلغ اقصاه 5930 نشرة وفي الفترة منذ 2010، كما هو مبين في الجدول ادناه:
نُفاجأ بضعف انتاجية الباحث العراقي عند الاخذ بنظر الاعتبار عدد التدريسيين والباحثين الهائل. بما ان عدد أعضاء الهيئة التدريسية في عام 2013 هو (39445)، وعدد طلاب الدراسات العليا في نفس العام هو (27540) لذا فالعدد الكلي للعاملين في المجال البحثي هو (66985) وبما ان عدد النشريات في نفس العام هي (1697) فان نسبة انتاجية الباحث العراقي هي تقريباً 40 تدريسي وباحث لكل نشرية. من الضروري التأكيد ان سبب ضعف هذه النسبة تعود بقدر ما الى تفضيل الباحثين العراقيين في نشر بحوثهم بالمجلات المحلية والتي لا تظهر في الاحصائيات الدولية. سبب هذا الاقبال على النشر في المجلات المحلية يعود الى ايام الحصار حيث اتجه الباحثون وبتوجيه من الدولة نحو البحوث "التطبيقية" اي النقلية وغير الاصيلة مما ادى الى ازدياد العزلة العلمية واستمر هذا التوجه الى يومنا هذا بسبب سهولة هذا النهج وعدم احتياجه الى تقنيات حديثة باهظة الكلفة، كما ان انعدام "الرقابة" العالمية التي يفرضها "استعراض الاقران" ساعد في انتشار الفساد العلمي وتزوير البحوث.
وبالرغم من ان جامعة بغداد احرزت المرتبة الاولى في عدد النشريات العالمية، الا انه عندما نأخذ بنظر الاعتبار عدد التدريسيين في الجامعة تفقد هذه الصدارة. تظهر، على سبيل المثال، نتائج عام 2013 لمعدل الانتاج العلمي لكل تدريسي تفوق الجامعة التكنولوجية تليها جامعة كركوك ثم البصرة والكوفة، وجاءت جامعة بغداد في المرتبة الخامسة وجامعة الموصل في المرتبة التاسعة والمستنصرية في المرتبة الثالثة عشر بين الجامعات العراقية.
وبنظرة سريعة على المجلات المفضلة لنشر البحوث العراقية (الجدول ادناه) يتبين ضعف معامل تاثيرها، وبكون معظمها مجلات تهتم بنشر البحوث الطبية، وخصوصا الحالات الطبية النادرة وغير المشخصة سابقا.
ويبدو ان اكثر باحث علمي ذو انتاجية علمية معترف بها عالميا هو محمد المندلاوي. يتضمن الجدول ادناه العشرة علماء الاوائل في حجم النشر العلمي والتي تتراوح معدلات انتاجيتهم من 141 الى 42 نشرة علمية:
من المهم الاشارة الى نوعية المنشورات فهي ليست بالضرورة بحوثا أصيلة وإنما تشمل ايضا اوراق القيت في مؤتمرات عالمية ورسائل و (Reviews) وفصل كتاب ومسح مجتمعي او بيئي. تبوأت البحوث العلمية اعلى نسبة حيث بلغت عددها ومنذ 1919 والى غاية اليوم 9869 نشرية، اما اوراق المؤتمرات فبلغت 1596 ولم ينشر العراق الا 45 فصل في كتاب و 5 كتب مدرجة في بيانات المؤسستين.
وتظهر البيانات حجم التعاون المشترك في اجراء البحوث بين مؤلفي البحوث المدرجة في خانة البحوث العراقية فتبين ان باحثي دولة ماليزيا كانوا من اكثر الباحثين المشتركين مع باحثين عراقيين في اصدار البحوث تبعتها بريطانيا والولايات المتحدة والاردن واستراليا والهند والصين والمانيا ومصر واخيرا ايطاليا. لا تظهر هذه الارقام حجم التعاون الحقيقي في اجراء البحوث وانما تظهر لربما في اغلبيتها عدد البحوث التي اجراها الطلبة العراقيون في الجامعات العالمية والتي نشرت مشتركة باسم الطالب وجامعته التي ارسلته للدراسة في خارج الوطن واسم مشرفه في الجامعة المضيفة للطالب. ولذلك يمكن الاستنتاج ان كثيراً من البحوث الاصيلة التي ادرجت في خانة العراق هي بحوث لم تجرَ اصلا في مختبرات عراقية.
وتحتل البحوث الطبية والهندسية اعلى معدلات النشر تليها بحوث الكيمياء والفيزياء والمواد وعلوم الحاسبات. ومن الغريب في بلد يعتمد على الطاقة كمورد رئيسي ان نجد بحوث الطاقة تحتل مرتبة متأخرة بعدد 667 منشور فقط. كما انه ليس من المستغرب ان نجد البحوث الانسانية والاقتصادية والأدبية في المؤخرة لان معظمها تنشر محليا وباللغة العربية.
هذا ونجد ترتيب العراق ضمن 16 دولة شرق اوسطية مؤلما فقد احرز العراق المرتبة 10 في الترتيب المعتمد على معدل النشريات منذ 1919 ولغاية اليوم (الجدول ادناه). تصدرت تركيا الترتيب بأكثر من 400 الف نشرية، تلتها اسرائيل ثم ايران بحوالي 300 الف نشرية. اما العراق فلم ينتج الا اقل من 13 الف نشرية في تاريخه وهو معدل اعلى بقليل من عُمان وقطر.
وكمعدل للإنتاجية العلمية منذ 1919 الى 1964 تبؤا العراق المرتبة السادسة متفوقا على ايران والسعودية الا ان مستواه تراجع الى المرتبة السابعة في الفترة 1965 والى 1990 وبنسبة 2.08% من معدل الانتاج العلمي للدول الستة عشر وتبوأت اسرائيل المرتبة الاولى بمعدل 64.95% من المعدل الاجمالي تبعتها مصر ثم تركيا. في خلال الفترة من 1991 الى 2003 نزل معدل الانتاج العلمي العراقي الى المرتبة 12 وبنسبة 0.42% من مجموع انتاج دول المنطقة فيما بقت اسرائيل في الصدارة بينما تمكنت تركيا من دفع مصر الى المرتبة الثالثة. وبالرغم من بقاء العراق في المرتبة 12 خلال الفترة 2004 الى يومنا الحالي إلا ان نسبة النشر العلمي ازدادت الى 0.82% من مجمل انتاج الدول الستة عشر. استطاعت قطر خلال هذه الفترة ان تتخطى انتاج العراق بينما بقى فقط كل من انتاج سوريا وفلسطين والبحرين واليمن متخلفا عن الانتاج العراقي.
اما بالنسبة الى H-Index وهو المؤشر الذي يقيس كل من الإنتاجية ودرجة الاقتباس (الاشارة) للأعمال المنشورة للعلماء فقد نزلت مرتبة العراق الى الدرجة الرابعة عشر ولم يبقى إلا البحرين واليمن بمعدل ادنى.
استنتاجات عامة واقتراحات
لم يستطع العراق ولغاية اليوم النهوض من كبوته العلمية والمعرفية والتي ابتدأت في سبعينات القرن الماضي، وبينما تمكنت إيران، والتي كان انتاجها العلمي لغاية 1990 لا يختلف كثيرا عن الانتاج العلمي العراقي، من احراز المرتبة الثانية في الانتاج العلمي لدول المنطقة في العشر سنوات الماضية تراجعت مرتبة العراق 5 درجات الى المرتبة 12. ولو قارنا التطور السنوي لدول المنطقة منذ 1996 لوجدنا ايران في مقدمة الدول في تحقيقها لأعلى معدلات الزيادة النسبية تليها تركيا واسرائيل ومصر والسعودية.
تظهر البيانات المنشورة ليس فقط ضعف حجم الانتاج العلمي العراقي على مر تاريخه الحديث بل ضعف نوعية الانتاج حيث اظهر مقياس النوعية حصول العراق على 46 درجة مقارنة بنوعية البحوث الاسرائيلية التي قاربت 460 درجة. ولم تتعدى مجمل الاشارات للبحوث العراقية 21 الف اشارة مقارنة ب 36 الف اشارة لسوريا و 1,135,790 اشارة للبحوث الايرانية.
وبالرغم من تأكيد هذه البيانات على ضعف الانتاج العراقي في البحث العلمي فأن بوادر نهضة علمية حقيقية تلوح في الافق وتؤكدها نفس البيانات عبر تسجيلها لزيادة هائلة في الانتاج المنشور في خلال السنوات الاخيرة بالرغم من ان معظمه كما يبدو هو نتاج بحوث طلبة الدراسات العليا خارج العراق.
بما ان كثير من الانتاج العلمي العراقي ينشر محليا باللغة العربية او بلغة انكليزية سيئة، وليس له اي تاثير ملحوظ محليا وعالميا ويمكن ان يوصف بانه انتاج ردئ لذا يصبح من المهم اعادة النظر في سياسة النشر العلمي لتتبنى مهمة الغاء المجلات العلمية العراقية التي تصدرها الكليات والجامعات وتشجيع حركة الترجمة الى الانكليزية لبحوث التاريخ والاقتصاد والاجتماع والاداب وغيرها من الدراسات الانسانية لغرض نشرها في المجلات العالمية. يجب ان نتبنى فلسفة جديدة تبنى على اساس ان البحث الذي لا يمكن نشره في مجلة عالمية حقيقية لا يستحق النشر في مجلة محلية.
خلاصة الرأي، اننا نحتاج الى ثورة علمية تتبناها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة العلوم والتكنولوجيا، وتدعمها الدولة بكل وسائلها وإمكاناتها المالية والبشرية، تهدف الى مضاعفة الانتاج العلمي في كل سنتين على أقل تقدير، وتؤكد على النشر في المجلات والأدبيات العالمية، وتشجع البحث والإنتاج العلمي المشترك مع الباحثين في خارج العراق لغرض الاسراع في دمج البحث العلمي العراقي بمنظومة البحث العلمي العالمي.
مقالات اخرى للكاتب