العنوان قد يبدو غريبا حين نتحدث عن بلد نفطي وتعداد شعبه محدود مثل العراق، لكن الغرابة تتبدد حين يطلع القارئ على قوائم المرتبات الشهرية لموظفي بعض الوزارات، بعض ارقامها يصعب تصديقها، الراتب الاسمي لبعض الموظفين من غير الحاصلين على شهادة 140 الف مضافا اليها نسبة 15% اي 20 الف، بجمع هذا المبلغ مع الزوجية والاطفال، لا يصل بمجمله عند بعضهم 230 الفا . حكمت أصحاب الحل والعقد رأت ان 10 الاف كافية للطفل الواحد، وهنا تحضرني عبارة قالها محامي الخصم لاحد المطلقين وهو يطالبه بزيادة نفقة أطفاله و يرد على الزوج حين قال: ان الحكومة لا تمنحه سوى 10 الاف عن كل طفل، رد عليه المحامي قائلا" أن 10 الاف لا تكفي لمعيشة دجاجة شهر كامل"، المحامي كان محقا، فماذا يمكن ان تفعل 330 دينار للدجاجة في اليوم الواحد .
(سلم الرواتب الجديد) الحل المنطقي ولد ميتا، كان من المؤمل أن ينصف شريحة كبيرة من المهمشين، ويردم الفجوات الهائلة بين المرتبات، أنتظره الكثيرون، انتظار الغريق لمنقذه، وما زاد انتظارهم صعوبة ان بعض والوزارات عملت به، والمفارقة العجيبة انها افضل حالا من التي لم تعمل به، ومنذ أعوام يتقاضى موظفوها مخصصات لا يعرف شكلها ولونها المنتظرون .
في الآونة الاخيرة برزت مشكلات زادت من معاناتهم وأضحى طينهم أكثر بللا، من بينها الاجراءات التي شملت البنك المركزي ما احدثت تذبذبا في سعر صرف الدينار العراقي وما نجم عن عنه من تأثير سلبي من خلال زيادة اسعار المواد المستوردة – التي صارت اليوم تشكل اليوم غالبية عظمى من محتويات اسواقنا- وإجراءات أخرى في طريقها للتطبيق وا لتي تشمل العمل بالتعرفة الجمركية التي ستمثل ضربة موجعة للفقراء، ما يزيد من حيرتهم وتقشفهم الذي بدأوه قبل هبوط اسعار النفط بأعوام، بإدارة مرتبات شحيحة بطريقة محيرة للعقول وهي تبحث عن تفسر كيفية إكمالهم الشهر بهذا المرتب، فهؤلاء اذا كانوا يعتبرون (خط الامبيرية) للمولدات الاهلية غير ضروري، ومثله الفواكه والعصائر، وان ملابس (البالات) قادرة على ستر اجسادهم، فكيف بالمأكل والمشرب كان الله في عونهم.
قبل ايام خنقتني العبرة وانا استمع لطفلي يتحدث عن احد ابنائهم هو زميل له في مدرسته حيث قال:" سألني عن طعم الشكولاتة التي آكلها، لم استطع اكمالها لوحدي، تقاسمتها معه (بابا خطية)"، عبارته فجرت بداخلي ثورة لم تهدأ حتى الساعة، قد يكون هذا المقال جزء من التنفيس عما احمل، فليس من المعقول ان يشعر بهم طفل لم يبلغ التاسعة فيما يتجاهلهم المعنيون. في وجبة غداء حضرها قبل ايام بعض المسؤولين، فاتورة حسابها كبيرة ومفرداتها تصرخ ببذخ غير المبالين، ما كان يلفت الانتباه فيها ان مبلغ الحلويات التي حلا بها المسؤولون كان يعادل ضعف راتب ابي الطفل، الا يستحي هؤلاء وهم يتحدثون على التقشف صباح مساء ، متناسين عن عمد مأساة آلاف الموظفين، ان خبراء اقتصاد العالم يعجزن عن ايجاد تفسير للطريقة التي يناورن بها لتوصلهم شبه المرتبات نهاية الشهر.
وأنا اكتب هذه الكلمات يتملكني ياس كبير من استجابة اصحاب الشأن، سيعد أكثرهم مطلبي هذا تخاريفا وعدم شعور بالمسؤولية، فقد توفرت لهم مبررات لكتابة يافطة عريضة وكبيرة يمكنهم الاحتماء بها والاختباء خلفها عنوانها كبير وصادم يقول " ايها العراقيون أصبروا وشدوا الاحزمة والسلاسل على البطون بلدكم اليوم في حالة تقشف".
مقالات اخرى للكاتب