وا لهفتاه يا قـُبّة ّالإسلام , وفـُرضة البلدان.. !
البصرة الفيحاء , المدينة الزاهرة في الأعوام الغابرة , ثغر العراق الباسم ووجهه للقادم, وإنْ لم تكنْ في يوم من الأيام عاصمة سياسية للآنام , كحاضرات حضارات ما بين النهرين البائدة.. أكد سرجون وبابل حمورابي... , ومن ثم مدائن العراقيَن وحيرة اللخميين ,وعواصم خلافات وولايات الدول الإسلامية الصاعدة , من كوفة الجند , وواسط العِقد, وبغدادالرُشد, ربما يعود السبب لتطرف موقعها , وخطورة مأمنها , ورعناء جوّها ! ولكن كما نـُعتت من قبلُ , هي هي أم العراق , وخزانة العرب , وعين الدنيا , ذات الوشامين , وملتقى النهرين الخالدين ,شكلت مع توأمها الكوفة المصريَن , وإنْ تماهيت بها عليك بالبصرتين , والبصرة شغلت الناس بجذور تاريخها وأصول تسميتها, داروا حولها وبحثوا عنها , إبتداءَ من ( باب سالميتي ) المأخوذة من الأكدية , وتعني ( باب البحر الأسفل ) , ووصلوا الى سنحاريب الملك الأشوري (695 ق م) وحروبه البحرية , وانطلاقه من مينائها الذي كان يطلق عليه طريدون ( تريدون ),وحوله العرب تدريجيا بمرور الزمن الى (تدمر ) , بفذلكات هذه فذلكتها , لذلك أوردها الزبيدي في (تاج عروسه ) , وزيد بن علي في ( مسنده ) كناية عن البصرة ,وأرجع الدكتور جواد علي في (مفصله ) كلمة ( الأبلة ) - وهي من اسماء مينائها وأحد مناطقها الهامة - الى إصول أكدية لقبائل حاربها سرجون الثاني , وانتصر عليها تدعى ( أوبولم ) , ووصل اسماء بعض مناطقها قبل الإسلام ,كما ذكرها الإمام علي في خطبته التي نقلها الحموي في ( معجم بلدانه ) الى (الخريبة ) و (السبخة ) و (البصرة ) , و ( البصيرة ) بالتصغير ,و حتى ( البصرة العظمى ) , و (أرض الهند ) , كلها مناطق لأجزاء منها , تطلق عليها من باب إطلاق الجزء على الكل , والطبري واضح في (تاريخه ) ,عندما يسرد هذه الجزئية في أحداث سنة 14هـ , وبما معناه , لما وصل عتبة بن غزوان ( المازني) الخريبة ,وشاهد القصب , وسمع نقيق الضفادع ,توقف قائلاً: إن أمير المؤمنين - ويقصد الخليفة عمر بن الخطاب - أمرني أن أنزل أقصى البر من أرض العرب , ,وأدنى أرض الريف من أرض العجم , فنزل الخريبة , وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها , وكانت مرفأ السفن من الصين وما دونها , فسار عتبة فنزل دون الإجانة , ثم فتح الأبلة من بعد بثلثمائة رجل , ووزع الغنيمة عليهم , فنال كل واحد منهم درهمين , ومن كلمة ( الصين وما دونها ) , ونعتـُُها بـ ( أرض الهند ) , ومجاورتها لـ ( أرض العجم ) , وعمقها البر من ( أرض العرب ) , وما كنيت به ( عين العراق ) , وزادها اليعقوبي ليجعلها ( أم الدنيا ) , يتبين مدى أهمية البصرة , ودورها الحيوي في جميع المجالات , وموقعها الاستراتيجي للعراق خاصة , وللعرب والعالم عامة على امتداد التاريخ , لذلك تعرضت لما تعرضت إليه من دمار وخراب ,وحروب فسراب , من يومها الى يومنا , تعلو فتكبو , وتهيج فترسو , يوم لها ويوم عليها , ولكن عقباها كما تراها , أعطت الكثير , وما أخذت حتى القليل . ْ ْ
مهما يكن من أمر , من أين اشتق اسم البصرة , يقول العرب وهم أعرف بلغتهم وأسرارها ومكوناتها ومكنوناتها , إنها الأرض الغليظة , والطين العلك فيه الحصى ,وحجارة رخوة فيها بياض , والجمع بصار , ويقول الطبري "والبصرة كانت تدعى أرض الهند ,فيها حجارة بيض خشن" ثم يردف ويعمم " والبصرة كل أرض حجارتها جص " وصب الأخفش بهذا المعنى , إذ يقول عنها : حجارة رخوة الى البياض ,ما هي وبها سميت البصرة , والحموي يذهب في ( معجمه البلداني) الى هذا المعنى في تعريفاته العديدة وأريدك أن تركز على كلمة بياض , والجص وهو الجبس الأبيض ,والتعميم ( كل أرض) ,ه فالبصار موجودة -بشكل أو آخر - في أكثر من قطر عربي , هذه الأمور تجعلني أميل الى ربطها بالفعل ( بصرَ بصرأً وبصارة ) , فالأرض المبصورة والمرئية والمنظورة من بعيد لبياض حجارتها , هي بصرة للعيان , وجمعها بصار , مثلما يقول القائلون خضرة و خضار , فلا يمكنني أنْ أقبل من حمزة الأصفهاني قوله , إن البصرة كلمة أصلها فارسي من (بس رآه ) أو باصوراه , وتعني الطرق المتشعبة , ببساطة أين نرمي بقية مادة (بصر ) واشتقاقاتها المتشعبة تشعب الطرق ! وأيضا بالرغم من انني لا أستطيع أن أنفي التداخلات اللغوية تداخل الشعوب , واختلاطها , وانحدارها من جذور متقاربة أو واحدة , لا استطيع أيضا أن أقتنع سهولة ً بوجهة نظر الاستاذ يعقوب سركيس في ( مباحثه العراقية ) من انها انحدرت من كلمة كلدانية ,وتعني (الأقنية ) , أو باصرا ( محل الأكواخ ), أوتتركب من باب وكلمة (صيري ) الأكدية , والتي تعني الصحراء , وبالتالي هي (باب الصحراء ) الى الجزيرة العربية , كل أمر جائز , إذا أخذ بشموليته , ولا مجال لتجزئة البصرة عن البصر, ولا يجوز نقل الآراء بدون نقاش وجدال ,كأنها حقائق مسلم بها , مهما كبر حجم قائلها !! والله أعلم , تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل عند تطرقي الى اسماء ا ( الحيرة ) ( الكوفة ) و (النجف ) لغة ,في أحد مؤلفاتي الذي بحثنت فيه تاريخ هذه المدن .
المهم - مهما قيل وقالوا- مصرت البصرة أبان الفتح الإسلامي سنة 14هـ 635 م بأمر من لخليفة عمر بن الخطاب , إذ أشار الى قائده عتبة بن غزوان المذكور , بإقامة ركائزها , ولملمة جنوده المحاربين بذراريهم ونسائهم , وعينه واليا عليها , كأول ولاية إإسلامية بعد الفتح المبين , وعاونه في ذلك ساعده الأيمن المغيرة بن شعبة , وكان أول ما اختطوه المسجد الكبير , وهو شعار الدولة الإسلامية الفتية , ثم بنوا دار الإمارة , وعقبهما السجن وحمام الأمراء ,وسبع دساكر ( المفردة دسكرة ) من الخيام , وهي قرى كبيرة , وذلك في منطقة الخريبة ,مكان مدينة الزبير الحالية , ثم استبدلت الخيام بأكواخ القصب حتى الحريق الكبير , فبنيت الأكواخ من اللبن على هيئة قوالب ( آجر غير مفخور ) , بعد أن استأذنوا الخليفة عمر فأجابهم "لا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات , ولا تطاولوا البنيان ,وألزموا السنة تلزمكم الدولة ", وكان أول دار بنيت لنافع بن الحارث , ثم دار الصحابي معقل بن يسار المزني ,وأخذت تشق الطرق , وتحفر الأنهار , وتتسع البساتين , ولما جاء الخليفة عثمان بن عفان( 23 هـ -644 م ) ,اهتم بتعمير المصرين الكوفة والبصرة , وسمح بالتطاول في البنيان , ولما عابوه على ذلك , لم يلتفت الى صراخ المحتجين , فاستبدل اللبن بالآجر والجص والساج ,فآتسعت البصرتان حتى أصبحتا من أعظم مراكز الإسلام ازدحاما بالسكان , وقامت القصور المبنية بالحجارة والرخام , بأروع آيات الفن والجمال , وأدرك العرب أنّ أرض البصرة تستطيب زراعة أشجار النخيل , فأكثروا منها حتى ملأت ضفاف الأنهر والجدوال , واصطفت بنسق جميل ,تطلُّ على الشوارع والأزقة , والقصور والبيوت , فروى الحموي في (معجمه ) عن الرشيد قوله :" نظرنا فاذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة " , جنان ولا أبدع ,وحياة ولا اروع , وتفتح ولا أوسع , آلاف السواقي والجداول والأنهار , أين منها بتلك الأيام , بندقية الرومان , وأمستردام الأرض المنخفضة هذه الايام , وصلت مساحتها 225 كلم مربع,(فرسخان طولا ,وفرسخان عرضا , والفرسخ 7,5 كيلو متر ), وعدد سكانها ناهز المليونين, تعج بالأسواق , وأهمها أربعة ,سوق المربد , وسوق باب الجامع , والسوق الكبير , وسوق الكلاء , مُلئت بالساج والعاج , والديباج والحلل ,وتوفرت فيها أطعمة كل أطراف الدنيا ,مما عزّحتى على بغداد قبلة الدنيا , بل وقصر خلافتها الباذخ , وازدهرت فيها صناعات , خُصت بها كمنسوجات الكتان وبزها و خزها ,والعطور والدبس والحلوى ...
كانت تـُقسم البصرة الى ثلاث مناطق مهمة, أولها (الأبلة ) ,وسبقت تمصيرها كما أسلفنا , تقع على دجلة العوراء ( شط العرب ) في الزاوية المطلة على الخليج الداخل إليها , ويتفرع منها نهر الأبلة , نظرأ لأهميتها التجارية والاقتصادية القصوى ,حظيت بإهتمام خاص من قبل الخلفاء , فشكلوا اسطولا لحمايتها من القراصنة ,وعينوا عاملا مستقلا لها , يتصل بالخليفة مباشرة , ولا يرتبط بوالي البصرة , وثانيها ( المربد ) وسوقه العتيد , إذ يجتمع فيه العرب من كافة الأقطار , لبيع الإبل وإنشاد الأشعار, وتناقل الأخبار, فهي المركز الثقافي , ومتنفس الشعر العربي , ساعدها موقعها الغربي من المدينة , واتصاله بالبادية على ذلك , وثالث المناطق ( الخريبة ) , سميت بذلك لقصر عظيم ابتناه المرزبان فيها ,وخرب من بعد , فذهبت الخزينة , وبقت الخريبة محلة للفقراء والمستضعفين, يلوذ بها الثائرون والخارجون , تقع غرب الأبلة على بعد أربعة فراسخ من شط العرب ,حاول الخلفاء والولاة إرضاء سكانها ,فبنى واليها عيسى بن جعفر قصر منيفا فيها, ولما عاد الخليفة هارون الرشيد من مناسك الحج (180 هـ ) , مر على البصرة , نزل به , وما به !!
وهل تريد مني أن أحدثك عن البصرة بعمقها الثقافي والشعري والفكري بهذه الأسطر العابرة , أراك أشفق علي مني ,أن تطلب ما لا أستطيع , ولا يستطيع غيري أن يلمه ويحيطه , فهي أكبر من الكبير , وأبصر من البصير !! وما انا الا عابر سبيل , للوصول الى ابن الرومي , و بكاء وعويل , وفي الحلقة القادمة سيأتيك الدليل !! , ولكن أشير إليك خاطفا , البصره - يا قاريء الكريم , وأنت الأدرى - الفرزدق بوصفه وزهوه وفخره , وجرير بهجائه وإيقاعه وبحره, وأبو الأسود الدؤلي بعلمه ونحوه وفصاحته , والحسن البصري بحديثه وفقهه ومهابته ,وواصل بن عطاء بإعتزاله ومعتزلته ,والأشعري برجوعه الى سنته , والفراهيدي بعروضه وعينه ولغته , وبشاربن برد بتجديده وعبثه وبصيرته , وأبو نؤاس بمجونه وخمرته وتوبته , وابن المقفع ببلاغته وكليلته ودمنته ,والأصمعي بقوة حفظه ونوادره وروايته, وأبو الشمقمق بسحابه وأرضه ووجوديته , وسيبويه بقياسه وكتابه ومدرسته ,والجاحظ ببيانه وأدبه وضخامته, والكندي برسالته وإلهياته وفلسفته , وأخوان الصفا بتحفهم ومنطق كلامهم وجدليته , ولا أزيد , للوصول للشاعر الفريد , ففي كل واحد ممن عدّدنا يخجل منه المزيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
(1) الطبري :تاريخ الرسل والملوك -ج 3 , 4 , 7 -دار المعارف بمصر - القاهرة 1970 م
(2) تاريخ اليعقوبي - ج 2 - دار الشريف الرضي -قم 1414 هـ
( 3) الحموي : معجم البلدان - ج ا - دار صادر - بيروت - 1957م
(4 )علي.. محمد كرد : خطط البصرة - المجمع العلمي العراقي - بغداد - 1986م
( 5) يعقوب سركيس : مباحث عراقية - بغداد- 1957 م
(6) د . مصطفى.:... صلاح عبد الهادي :البصرة في العصر العباسي الأول - موقع الكتروني
(7) الاسدي ..كريم مرزة : تاريخ الحيرة..الكوفة ...الأطوار المبكرة للنجف الأشرف - النجف - 2007 م
مقالات اخرى للكاتب