من فضائل الحياة أن يكون عندي صديق أسمه فؤاد العبودي، صديق يمتلك كل شروط المحبة والعذوبة والحنان والمواقف المستقيمة، وديع ومتعاون ومبتسم وحنون كأم، عرفته في مقهى الحاج “خليل القيسي” في محلة البارودية في منطقة الميدان، جمعنا الأدب والشعر والثقافة والموسيقى، وكنت لا أخفي إعجابي بما ينشره في الصحف المحلية، وكان فؤاد بمثابة الظل الذي نستظل به أيام لا يوجد ظل، وهو يضع في حضوره ابتسامة على المنضدة التي نجلس عليها، ويمازح “خليل القيسي” القهوجي البغدادي، وقارئ المقام، وصاحب الذائقة الماسية باختيار الأغاني العراقية والخبير بصناعة الشاي ” السنكيل” وله طريقته الخاصة بمسك ” القوري” وصب الشاي في “الاستكان ” حيث يجعل بلورات السكر تتناثر على صحون الشاي التي تشبه ريشة الطاووس، وبخفة لولبية يمتزج الشكر في شفاه الصحون بطعم ما يزال يعبق في الرشفة الأولى من ذلك الاستكان المهيل بالطيبة والذوق اللذيذ.
فؤاد العبودي المنفتح على الحياة والشغوف بالقراءة والكتابة على حزمة أوراق يفرشها على المنضدة، والمعتني كثيراً بحروفه وبألوان ملابسه ونظارته، والمسترخي على سماع همومنا الكثيرة، ما يحدو أن أتساءل: أن انتظار صديق في مقهى هو مطاردة مسك اللقاء، والقبض على توقيت لسماع أغنية مشتركة بحميمية لكي لا تفوت اللحظة في انسجام مرتقب على توقيت الزمن.
أيام عام 2000 كانــــت قاسية، والنشر بالصحف المحلية يشبه مشقة البحث عن رغيف خبز، لذلك جل الأدباء يكتبون لأنفسهم، ويحتفظون بكتاباتهم في أدراج الحقائب على أمل أن تنشر، ولكن كان يأكلها صندوق المكان وتخونها آلة الزمن، وتضيع في ذكريات عسيرة، لأنها تفقد حاسة التنفس، فكان العبودي يقرأ ما نكتب في تلك المقهى المطلة على قاع المدينة، بكائنات غريبة تمثل انسحــــــــــــاقاً واحباطات تتكلس في ذلك المكان الى عوالم مجنحة، كأنها كائنات لا توصف في وجــــــوه شاحبة من سوء التغذية والشرود والمتاهة.
أتذكر مرة أعطيته قصيدة، فكتب عنها عرضنا نشر في صحيفة العرب اللندنية، وجلب نسخة منها المترجم ” حسين حسن” مع مكافأة مجزية آنذاك.
روعة فؤاد العبودي أنه لم يزعل ، بل مسامح وحليم، وكان في تلك الفترة يجالسنا مجموعة من فاقدي البصر، لذلك تكون العوالم مزدحمة في مواضيع شتى، وتدور في مسامع في غاية الانتباه
وأي فاقد بصر له أكثر من عالم، وحساسية شديدة، وأغلبهم يعملون في الجوامع، أنه الاشتباك الجمالي في سموات واسعة وفضاءات تتلذذ على سماع الأغاني ورشف الشاي، بل يمتزج ذوق القهوجي “خليل القيسي” بمعرفة أذواق الزبائن. أنه احترام المهنة، واحترام الزبائن والحياة.
تعلمت من العبودي فن الإصغاء، وفن الانسجام في روحه المنفتحة على المدينة، والمسالمة، أنه أبن المدينة، وعاشق أسرار بغداد، وعاشق للمحبة والسلام، ولم أراه يوماً منزعجاً، رغم هموم الصحافة، ويحاول دائماً أن ينزع ثوب الضجر ويرميه في الشارع، ناسياً حتى هفوات الطارئين في المقاهي، أنه ودوداً في اختيار مجالسيه، وقارئ نهم في مراجعة ذاته وحتى على سوء الفهم.
سنوات وأنا لم أر فؤاد العبودي، رأيته أخر مرة في عام 2003 وكــــنا على عجل بالهروب من منطقة الميدان، خشية الطائرات واللصوص، بعدما أقفلت المدينة أبوابها في وداعات قسرية حجبتْ كل اللقاءات الجميلة بحزن الفراق.
مقالات اخرى للكاتب