Editor in Chief: Ismael  Alwaely

Editorial secretary: Samer  Al-Saedi

Journalist: Makram   Salih

Journalist: Saif  Alwaely

Journalist: Ibnyan   Azeezalqassab

Editor: Aboalhassan   Alwaely

Reporter: Abdulhameed   Alismaeel

مقالات وأبحاث
الاثنين, أيار 1, 2023
الثلاثاء, نيسان 25, 2023
الأربعاء, نيسان 19, 2023
السبت, نيسان 15, 2023
الجمعة, نيسان 1, 2022
الأحد, آذار 13, 2022
الأربعاء, شباط 16, 2022
الثلاثاء, شباط 15, 2022
السبت, حزيران 3, 2017
السبت, أيار 20, 2017
السبت, أيار 13, 2017
الجمعة, أيار 12, 2017
الاثنين, أيار 1, 2017
1
2
3
4
5
6
   
ماهي الطائفيةُ؟ مَنْ هو الطائفيُّ؟
الاثنين, أيار 13, 2013
احمد عبد الحسين

 

لا يقول الطائفيُّ انه كذلك. هو على الأرجح لا يفكّر كثيراً بالأمر إلا إذا اتّهِم بها، وحينها سيكون كلّ تفكيره “ومن ثمّ كلّ كلامه” رداً لهذه التهمة، أيْ اننا سنكون أمام كلامٍ مضادّ للطائفية بامتياز. لهذا نحن لا نرى احتفاءً بالطائفية، ليس لأنها بغيضة فقط ومدعاةُ تفرقةٍ، لكنْ لأنها لم تنوجدْ علانية، لم تُقَلْ إلا في معرض اتهام أو دفاع. هي دعوى ونفيٍ يتناوبانِ دائماً ، والجميعُ يتنصل منها: من يتَِّهِم فإنما يفعل ذلك ليلقيها على سواه ويتخلّص من عبئها، ومن ينفي فهو لا يفعل شيئاً سوى التنزّه عنها.

والطائفيةُ بلا شاهد إثباتٍ لأنها تحبّ “وتعرف كيف” تتخفى. نلعنها جهاراً لأننا لا نلعنُ عادةً إلا ما يؤذينا لكنه لا يُرى، لا نبصره لكنه فاعلٌ ومؤثر، فالعدوّ الذي لا نتمكّن من محاربته وجهاً لوجهٍ ليس أمامنا إلا التعزيم عليه والاستعاذة منه، كالشيطان الذي لم يره أحدٌ ليقتصّ منه لكنه هو الذي “يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه” وهو “يجري مجرى الدم في ابن آدم”.
ما لا يقع تحت بصرٍ أقوى مما يمكن تفحّصه وإدراكه. لأن عدم رؤيته هو صكُّ نكرانه أو تمويهه،وإلا قلْ لي أين تجد طائفيةً في حكم صدام حسين؟ كثير من القوميين العرب ينكرها اليوم كما أنكروها أمسِ، سيقول القوميّ ـ وقد قالها البعض فعلاًـ : إن تهمة صدام بالطائفيّة هي من ضمن إعدادات شيطنة صدام التي اشتغل عليها إعلام أميركا طويلاً. ألا ترى إلى أن كثيراً من أتباعه شيعةً؟ أغلب من صفّق له وأنشد الأناشيد بحبّه ليسوا من السنّة؟ شاعره الأول كان صابئياً وشاعرته الأولى شيعيّة من آل البيت.
بعض أفراد “هيئة علماء المسلمين” قال ذلك علانيةً أيضاً.

لم يتركْ صدام حسين ما يدلّ على طائفيته، ذاك أنْ لا خطابَ للطائفية في الحقيقة ليتمّ الاستدلال عليها به. فهذا الوحش الذي يستعيذ منه الجميع لا وجود له. هل ثمة وقائع يمكن لنا أن ننعتها بالـ”طائفيّة” لنرى من هو الطائفيّ حقاً؟
لا أمل في ذلك مادام لا حديث عنها إلا وهو في معرض إتهام أو دفاع، ليس من أحد يجاهر بمقدار طائفيته، إذ هو على الدوام أقلَّ طائفية من الآخر.
هل تستغرب بعد ذلك إذا عرفت ان العرب كلّهم لم يروا في حقبة صدام أية طائفية تُذكر؟ من سيلومهم على ذلك إذا كانت الطائفية لا تُرى إلا حين ” تُذكر”، إلا حين يتمّ قولها صراحة أي بتسمية الناس باسم طوائفهم؟ وهذا أمرٌ لم يكنْ يفعله صدام ورهطه. بالعكس هذا ما حصل بعد حقبة صدام لا أثناءها. بعده صار للطائفية في العراق نحوٌ من خطاب تُعرَف به الآن: جده في كلام ممثلي الطوائف كما في كلام الساسة عن المحاصصة. والطريف الموحي أن ممثلي الطوائف هؤلاء مضوا بالتخفّي إلى غايته فليس من اسم صريحٍ دالّ على تمثيله لهذه الطائفة (ليس هناك حزب يدخل التشيّعُ أو التسنن في اسمه أو نظامه الداخليّ). لكنْ الآن ظهرت الطائفيّة في العراق.

“الآن ظهرت الطائفيّة في العراق”، هذه الجملة تعادل لدى العرب جملة ” الآن خُلقِت الطائفيّة” مع ان الجملتين مختلفتا الدلالة. كأنما تمّ تخليق الطائفية ما ان نُطق باسمها وسميّتْ، أو كأننا كنّا نستعيذ من لا شيء، أم هي الفتنة التي تظلّ “نائمة” مادمنا مغمضين عنها وساكتين، وناكرين إياها، أو مكتفين بلعنها فحسب، ولا تستيقظ إلا حين نناديها باسمها. وملعون من أيقظها، ملعون من تكلّم بها.

لم يكن حكم صدام سوى إغماض عن الطائفيّة، وإذا ما ووجه بها فنكران لها (قال في أوّل حكمه ساخراً : “ان الغرب يقول ان في العراق شيعة وسنّة … وأقول لهم ان في العراق رجالاً ونساءً أيضاً .. وماذا في ذلك؟” هذه البراءة في حديث صدام لا يمكن لها أن تنتج خطاباً تُرصد فيه أدنى نأمة طائفية. كذا ليس في كلام مثقفينا وساستنا (لنستثنِ المرحوم علي الورديّ) سوى هذا الإغماض المتّصل الذي يريد وأد الطائفيّة بالصمت. نعم ثمت نفوس كبارٌ أرادت أن تقولَ الفارق الطائفيّ لتردمه “نداءات السيّد محمد باقر الصدر قبيل استشهاده مثلاً” وثمت نوايا بيضاء في كلام بعض المثقفين الداعين إلى تغليب هويّة أخرى سوى الطائفيّة “كالاسلام مثلاً أو الوطنيّة”. لكنّ ذلك كلّه كان جهداً شكلانياً. فأمميّة الماركسيّ لم تكنْ فاعلة في تسكين الطائفيّة داخل الجسد الماركسيّ ذاته … فكيف لها أن تكون مؤثرة خارجه؟ وإسلاميّة الأحزاب لم تكنْ إلا تكريساً متصلاً لشيعيّة البعض وسنيّة البعض الآخر. ما الذي أضافه لفظُ الإسلام في اسم (حزب الدعوة الاسلاميّ أو المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة، أو منظمة العمل الإسلاميّ) إلى هوّية الحزبِ، إلى أيّ حدٍّ كان اسمُ الإسلام مخفِّفاً من شيعيّة الحزب أو المنظمة؟ هل التقى هذا الاسم (الإسلام) مع إسلام (الحزب الإسلاميّ) أو إسلام (هيئة علماء المسلمين) أو (الأخوان المسلمين)، لئلّا نقول مع إسلام (أنصار الإسلام) و (كتائب الإسلام)؟
الإسمان الكبيرانِ (الأممية والإسلام) لم يكونا حاضنةً ولم يُحتجْ إليهما لأنهما كافيانِ لردمِ الخلافِ في هويّةٍ طائفيّةٍ تترصدنا دون أن نراها ، بل لأنهما يشتملانِ على مقدارٍ هائلٍ مما يوجبُ الصمتَ عن الطائفيّة وإسكاتَ كلِّ لسانٍ ناطقٍ باسمها. وكلّما كانت الهويّة داعية إلى الصمت كانت أقوى وأشدَّ إغراءً بتجريبها، هذا سببٌ أساس في نجاح الأحزاب القوميّة “على هزالِ مبتنياتها ورومانسيتها المضحكة”. إذ العروبةُ تقف منذ قرنٍ على المنصة مانعةً كلَّ ذوي الخطابات الصغرى من الكلام (كالوطنيّة التي سُميّتْ بالقطريّة في أدبيات القوميين، والطائفية التي طالما نُعِتَ أصحابها بالشعوبيّة). لكنّ هذه الخطابات الصغرى لم تمتْ بالتعزيم القوميّ فقط بل اضطرت القومية “أحياناً” إلى الاستعانة بالدبابات والمدفعيّة للجمها (كما في حماه وحمص مثلاً) وبالسلاح الكيمياويّ وإبادة المدن (كما في انتفاضة آذار في جنوب العراق).
لقد رأينا أنْ ليس من اسم مشتركٍ مَنعَ مواطنين سوريين من رفع الأعلام البيض “شعار الأمويين”. وليس من اسم مشتركٍ منعَ الهتاف الشيعيّ الأبديّ “نريد حاكم جعفريّ” كما لم يَمنع الاسمُ القوميُّ المشترك رؤيةَ الدبابات مكتوباً عليها بخطّ عربيّ “لا شيعة بعد اليوم”.
لا يكفي الاسمُ العربيُّ إلا لاستيلاد الصمتِ عن الطائفيّة، إنه لا ينهيها، بل هو ليس بمستطاعه حتى تأجيلها، هي هناك في أحشائه تجري فيه مجرى الدم وتراه من حيث لا يراها. هذا الاسم (العروبة) مثله مثل (الاسلام) لا ينفع إشهارُه في تعطيل ممكنات البثّ الطائفيّ أبداً، ذلك لأن هذا الاسم نُظر له على الدوام باعتباره شيئاً مضافاً إلى المواطن، حِليةً أو هبةً يمكن استردادها في كلّ وقتٍ، وقد رأينا كيف استُرِدّتْ الوديعةُ مراراً، فالشيعيّ لم يكن عربيّاً كفايةً لدى القوميين (قال صدام حسين ان هؤلاء أتى بهم القائد العربيّ محمد القاسم مع الجواميس من الهند، هذا الكلام بنصّه ردّده أول أمس كاتب عراقيّ في موقع كتابات، إضافة إلى شيوع فكرة مفادها ان الشيعة ايرانيون). هكذا تمّ استرداد هبة العروبة التي أُعطيتْ خطأً للشيعة. كما تمّ مراراً ـ منذ زمن الشيخ ابن تيميّة وإلى اليوم ـ استرداد صفة الإسلام عن الشيعة، وهو أمرٌ جليٌّ في كلمات المجاهدين العرب في العراق اليوم “دونك رسالة الزرقاويّ إلى ابن لادن” أو إذا شئت فاقرأ كتاب “والآن جاء دور المجوس”.
هاتان الصفتان كانتا بحكم (العاريّة) ـ بالمعنى الفقهي ـ والعواري مستردّة كما هو ثابت. وعقدٌ كهذا، العقدُ الذي يسمح لك بالانخراط في هويّة ما بشرط أن أن تمنح الطرف الآخر حقّ تجريدك منها في أيّ وقت، لهو عقدٌ “سفاهتي” ـ بالمعنى الفقهي أيضاَ ـ. والعقد السفاهتي هو ما لا يصادق عليه العقلاءُ كأنْ تشتري شيئاً من طفل أو مجنون. “طُرفة: باع مواطن يمنيّ آلاف الكيلومترات من كوكب المريخ إلى آخرين لأن المريخ ملكٌ لأجداده كما ادعى، والطريف انه أهدى لصديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعيّ أرضاً مريخيّة تقديراً لشعره وصداقته”.

يتكتّم الاسمُ الاسلاميُّ (والقوميُّ أيضاً) على الفوارق لكنه لا يطمسها نهائياً، يظلّ يحتفظ بها مركونةً تحت الطلب لأنها سلاحه الأمضى، إذ كلُّ هويّة لا تتأسس بما تكشف عنه وتدّعيه وتشهره فحسب، بل بكلِّ ما تختزنه من موارد النبذ والإقصاء كذلك. فليست العروبة التي لدى العروبيين هي ذاتها العروبة التي جاء بها الرسولُ حين قال: “انما العربية من اللسان”، بل أن عروبة اللسان كانت شتيمةً أطلقها صدام حسين مراراً على الحكم في سوريا وليبيا، إذ العروبةُ بالتعريف المحمديّ محضُ هويّة ثقافيّة منتجِة وليستْ موضوعَ إيمانٍ ولم تصبح كذلك إلا منذ بداية القرن العشرين على يد القوميين العرب الذين جعلوها عقيدةً يمكن الانسلاخ عنها ويقاس الانتماء لها تبعاً للتصديق بها، ومن يومها أصبح وارداً أن يكون ثمة من هم أقلّ عروبة من سواهم، كما كان على الدوام من هم أكثر إسلاماً من سواهم، مع ان الإسلام “بالفهم المحمديّ أيضاً” لا ينقص ولا يزيد، إذ هو النطق بالشهادتين فحسب، نطقاً يحفظ النفس والمال والعرض. أما تصنيف المراتب والدرجات فهو تبعٌ للإيمان لا للإسلام.

سكوتُ الإسم العربيّ والاسلاميّ عن الطائفيّة سكوتٌ عن فتنةٍ يمكن أن تستيقظ من كلمة واحدة، فكان وارداً أن يكون سكوتٌ كهذا مطلوبَ الدولة العربيّة والمثقفين كذلك.
الدولةُ: لأنها منذ تأسيسها درءٌ متّصلٌ لفتنةٍ تقف على العتبة بانتظار استدعائها، فكلّ ضحايا الدولة العربية هم من مثيري الشغبِ الذين وكّلتهم دوائرُ غربية وصهيونية لكسر الصمت وإيقاظ الفتنة.
والمثقف: لأنّ إنتماءه الإنسانيّ، الوطنيّ، أو الأمميّ أو مجرد انتمائه الثقافيّ السامي يمنعه من أن يكون أداةً ناقلة لحديث طائفيّ.
وهكذا في الإعلام ـ وهو ملك الدولة ـ نلحظ تلك التسويات الأبديّة التي تقول الخلافَ باللسان الشائع الذي يفاوض ذاتَه ويخلص إلى أنْ لا مشكلة وانّ كلّ شيء على ما يرام. وفي خطاب المثقفين نجد تقديس الكلمات “كالوطنية مثلاً” تقديساً مانعاً من رؤية الخصوصيات المذهبية أو العرقيّة التي تروح تفعل فعلها بعيداً عن ساحة عمل المثقف وضدّ توقعاته “أو أمانيه إذ اننا نادراً ما نجد مثقفاً يضع فاصلاً بين التوق والاستشراف”.
الثقافة العربيّة تلبّستْها كراهيةُ الوضوح، “وللشعر مدخليّة في هذا ولا شكّ”. ومادام الولع بالكلمةِ، صقلها، تلميعها “كحال مثال فوكو الذي كان يبكي قائلاً: أفكّر بهذه الكلمة التي أتلفظها الآن ولن يُقدّرَ لها الخلود” هو جوهرَ كلِّّ شعار، فإن منتوج ثقافتنا برمّته يصلح مادةً مثالية للشعارات. وليس الشعارُ إلا هذه الأداة التي تصل بالجميع إلى كلمةٍ سواء، لكنها مجرّد كلمة: إنها “الوطنيّة” التي لم يمنع الاتفاقُ على قداستها من أن نرى جميعَ الأطراف المتناحرة تردّدها معاً في الآن ذاته. الشعار هو الكلمة التي يصادق عليها المتحاربون دون أن تكون قادرةً على إطفاء نار كراهيتهم، ذلك لأنها كاسم العروبة، كاسم الاسلام، سهلةُ الإدعاء، سهلةُ السلْب، إنها الحِليةُ التي لا تستقرّ على أحد إلا حين ننزعها من الآخرين، فلسنا وطنيين إلا لأن هناك من هو أقلّ وطنية منا. والشعار إسكاتيّ بامتياز . قوّةُ الناطق باسم الاسلام والعروبة والوطنيّة هي هذه: ليس من كلامٍ يستطيع الصمود أمام هذه القداسة التي تفجؤنا بها الكلمةُ “السواء”. الصمت مفروض “في سبيل الله” كما فُرض من قبل “في سبيل البعث” لكنّنا بسبب هذا الصمت ذاته بلغنا بالحديث الطائفيّ الذي لم يُقَلْ أبداً إلى حدود النعرات. جَرَت الحربُ الأهليّة وانتهتْ خارجَ هذا الرميم اللغويّ الذي أسس المتدينون والمثقفون فيه جنّةَ الله على الورق. جرت الحربُ الطائفيّة ولم نَرها لأنّ الواقعة أكثرُ واقعيةً من التسويّات التي أقمناها باسم الوحدة الوطنيّة أو الاسلاميّة والتقريب بين المذاهب وباسم الترفّع عن الكلام الطائفيّ، بل الترفّع عن كلّ كلام واضحٍ، لدى المثقف العراقيّ.
مؤسٍ أن قضايانا الكبرى لا نقولها إلا غمغمةً، لعلّنا اعتدنا الرطانةَ السياسيّةَ التي نكون فيها بإزاء عدوٍّ واضح المعالم “كعدائنا للديكتاتوريّة أو الاحتلال أو الإرهاب”، ولم نحسنْ إلى الآن التعاملَ مع هذا العدوِّ الذي لا وجودَ له، لكنه مع ذلك يفتك بالناس فتكاً، هذا العدوّ الشرس الذي يجعل من الجميع أمام التلفزيون سفاحين، حين يقتلون في سرّهم الآلاف من غرمائهم الطائفيين بدمٍ باردٍ ثمّ ينهضون ليشتموا الطائفيةَ ويلعنوا الطائفيين.
نحن ضحايا كراهيتنا للطائفيّة، تلك الكراهية التي أورثتْنا صمتاً مديداً عنها. كلُّ ما لا يقالُ علانيّة ينتهي إلى أن يصبحَ قيمةً مهيمِنةً حتى وإنْ كان الجميع يسترذلها.
بعضنا مصدومٌ لأنه لم يصدقْ للآن ان الله خلق هذا القدر الهائل من اللصوص في العراق، على ما رأينا في عمليات الفرهود بعد التحرير، وسيُصدم إذا ما عرف ان الطائفيّة، الطائفية القبيحة البغيضة ما غيرها، هي نبض الشارع العراقيّ الآن.
هذا الوضوح كريه، أعرف ذلك، لأننا اعتدنا أن لا نرى الطائفيّة إلا حين تُذكر، ومن يذكرها فكأنه هو الذي خلقها من عدم. وكما كانت اللصوصيّةُ تحفر في المجتمع العراقيّ ” في البيت والجامعة والمعمل والثَكنة” ولم تسمَّ أبداً لتظهر لنا أخيراً من حيث لا نحتسب، ظهرت الطائفيةُ التي كانتْ شغّالةً بقوّة في المسجد كما في المعسكر وفي المقهى كما في الحيّ السكني، بقوّة لم نحسبْ لها حساباً. انها تتخلل الآن كلَّ شيء. هي أساس تصنيف المقاومين والمتخاذلين، وهي المثابةُ التي يتحدّد وفقها عددُ الضحايا ومكان قتلهم، هي من تسمّي بعضَ القتلى شهداء وتكتفي بوصف البعض الآخر بالقتلى أو “الهالكين”، هي مناطُ القبول في مجالس البلديات “كما في مجلس الحكم” والتدريس والشرطة والجيش، فهذه الفوارق التي كنّا (ومازلنا) نغمض عنها أعيننا ظهر انها أساسيّة إلى الحدّ الذي أصبحتْ فيه الخلفيّةَ التي يتحرّك فيها المشهد العراقيّ سياسيّاً واجتماعياً.

تنمو الطائفيّة إذ لا تُتداولُ، لكنها تستفحل وتستشرس حين نرى إلى آثارها ولا نملك إزاءها إلا الصمت المطبق. هي معنا في البيت الذي نسكنه لكننا لسبب ما يطمئن أحدُنا الآخر أنْ لا وجود لها، ويمكن أن يحترق العراقُ بأكمله بالطائفيّة التي تظلّ مع ذلك لا وجود لها (اللبنانيون إلى الآن يتحدثون عن الوحدة الوطنية وفساد المحاصصة). وليس التعزيم عليها “شتمها أو شتم من يتحدث عنها” كافياً لتغيير الحقيقة التي تنصّ على ان أرضاً خصبةً لنموّ الطائفيّة هي تلك الأرض التي تسقى بالصمت عنها.
من رأى منكم فيلم ذبح العراقيّ الذي ظلّ يصرخ بين يدي قصابيه “أنا صدريّ، والله العظيم أنا من التيار الصدريّ” قبل أن يوضع راسُه على صدره وسطَ التكبير، سيعرف دون شكّ أن المقاومة والانتماء الوطني والقوميّ والاسلاميّ ـ وهي عناصر مشتركة بين الذابح والذبيحة ـ لم تكنْ ذاتَ موضوع. كانت صرخاته أشبه ما تكون بمقررات اجتماعات لجنة التقريب بين المذاهب التي لم تثمرْ عن شيءٍ ذي بال إلى الآن. أو هي أشبه بالملفوظات التي رأيناها كثيراً في خطب السيّد حسن نصر الله أو نسخته العراقيّة السيّد مقتدى الصدر عن الوحدة الاسلاميّة وتعداد الثوابت والمشتركات التي لم تسهمْ إلا في الفوز بصمتٍ مهادنٍ إلى حينٍ. جيعنا يدرك ان مقاومة السيّد نصر الله “بعض التكفيريين يسمونه نصر اللات” لاسرائيل ليس لها أن تغيّر من أن حِلية الاسلام التي أعاروها له مؤقتاً قابلة للاسترداد، مثلها مثل الحِلية التي أسبغوها على السيّد السيستانيّ قبل أن يؤيّد الانتخابات وقبل أن يسافر للعلاج وقتَ حصار النجف. كتب السيّد باقر الصراّف معدّداً رجالات العرب المقاومين وكان في طليعتهم السيّد السيستانيّ وظهر في اليوم التالي بيان لحزب البعث المنحلّ يعدّ السيستانيّ شعوبيّاً ، ثم هاهو السيّد الصراف نفسه يشارك بكثافة في موقع يسمّى (الكادر) ليس فيه إلا الشتم للـ(صهيونيّ العلقميّ) السيستانيّ.
نحن العراقيين لا نفهم أنفسنا ولا نعرف محيطنا. فنحن في محيط عربيّ يتعاطى والطائفيّة بتلقائية دون الاضطرار الى تسميتها. لكنه (أي المحيط العربيّ) في منأى عن الاكتواء بنارها بسبب التجانس الذي تحوزه أغلب الدول العربية حولنا، إذا استثنينا لبنان الذي كان ساحةَ حربٍ طائفيّة سمّاها بعضُ كتّابهم (حروب الآخرين على أرضنا) وكان محقّاً إلى حدّ بعيد.
العروبةُ التي استوردناها من أراضٍ تتعاطى والعروبة بتلقائية، لم تكنْ تصلح لنا، لأنّ العراقَ مختلط القوميات والأعراق. والإسلام الذي لدينا اليوم لا يصلح لنا لأنه إسلام ذو شقين:

الأوّل: تغلب عليه النزعة الإيرانيّة بسبب عدم تأصيل خطابٍ شيعيٍّ عراقيّ يحاوله الآن بعبقريةٍ السيّدُ السيستانيّ. أقول “بعبقريّة” وأنا أعني الكلمة، لأن السيد السيستانيّ في سبيله إلى اجتراح نظام فقهيٍّ لا يجعل الإرثَ الثوريّ الشيعيّ فيه عائقاً أمام رؤيته للوقائع، ومن هنا تقدّمُ رؤيته ـ وهو الفقيه ـ على رؤية أغلب المثقفين العراقيين العلمانيين، كشعراء المقاومة الذين ينصحون عادةً بترسّم خطى الحبوبي رحمه الله في الجهاد. كان السيستانيّ أولى بالحبوبيّ من هؤلاء لكنه ابنُ وقته وعارفٌ ان المقاومة المسلّحة ليست وصفة طبيّة صالحة في كل آن ومكان. السيستانيّ ، تبعاً لذلك ، يبدو الحرَّ الوحيد بين مثقفينا وفقهائنا، إذْ لا إرث ثقيلاً يملي عليه مقولاته مع انه وحده يستطيع إدعاء حيازة الارث الاسلاميّ دون أن يشكّكَ به أحد.
والثاني: النمط الذي تغلب عليه النزعةُ السعودية، وهي كمثيلتها الايرانية مورستْ في وطنها الأصليّ بلا خسائر، بل بكثير من التلقائية يفرضها التجانس النسبيّ الموجود في إيران والمملكة العربية السعودية، إلا انها في العراق تكون ذات نتائج مأساوية. ربما لهذا فإن علماء السعودية الذين وقّعوا بيانات الجهاد (منذ أول بيان لهم قبل سقوط بغداد وطالبوا فيه بمساندة أهل السنّة فقط، إلى بيان الثماينة والعشرين قبل اسبوع حيث نادوا بوجوب الجهاد) أقول لهذا السبب فإن علماء السعودية هؤلاء لا يشعرون انهم ينفخون جذوةَ نارٍ ستحرق العراقَ وقد تمتدّ إليهم.
لكنّ استيراد هذا الخطاب، مثله مثل استيراد خطاب رفسنجانيّ الذي يخرج من حيّز أكثر سعةً في دولة يحكمها الملالي ويشكّل الشيعة تسعين بالمائة من شعوبها، مثله مثل خطاب الحصريّ والارسوزي وعفلق، استيراد هذه الخطابات هو حطبُ الحروب التي مررنا بها أو تلك التي سنفاجَأ بها في المنعطف القادم.

لم تكن لعروبتنا خصوصيّة لأننا أتينا بها من مَنشئها الأصل كما هي ومارسناها بحذافيرها فارتدّتْ علينا أنفالاً وحلبجات وأسلحةً كيمياوية وتخويناً وتسفيراً ونبذاً لكثير من المواطنين بوصفهم هنوداً وإيرانيين.
ولم يكنْ لتشيّعنا خصوصيّةٌ طالما تغنينا بها طويلاً، فحين ظهر الجيل الجديد من متديني الشيعة “الجيل الصدريّ مثلاً” فقد ظهروا وكأنهم نسخٌ مشوّهة من البسيج الايرانيّ أو أفراد من حزب الله اللبنانيّ: نفس الثوريّة المفرطة التي لا ترى ما حولها، لا تبصر أن شريكها في البيت تقلقه هذا اللامبالاة به، اللامبالاة التي تليق بشابّ في قمّ أو حي السلّم، فهذا الشريك خائف من آخر لا يتصرّف كمواطن بل كفرد من طائفة.
وليس لتسننا من خصوصية أيضاً، نحنُ لُقنّا التسنّنَ السعوديّ وقبلناه كما هو، بمقولاته الحادّة التي لا تتورع عن تكفير كلّ مخالف، وتصرفنا أيضاً بتلقائية السعوديّ الذي يسكن مكة المكرمة، سميّنا مساجدنا باسم ابن تيميّة كما لو اننا في الرياض، دون أن نأبه إلى أن صاحب هذا الاسم يكفّر أكثرَ من نصف الكائنات التي تشاركنا السكنى في البيت المسمى عراقاً.
الجميع يلعن الطائفية، والجميعُ يتصرّف وفقها.

رأينا أن القوميّة ليست حاجزاً عن النعرات الطائفية، والاسمَ الاسلاميّ ليس وازعاً كافياً للجم شهوة القتل على الهويّة الصغرى، إنْ لم يكونا ” العروبة والاسلام” سببين لإذكاء هذه النعرات وإضفاء طابعٍ مقدّس عليها. أما الوطنيّة العراقيّة ” أو ما تبقى من أنقاضها” فهي من الهشاشة بحيث أصبحت صالحة ـ كما نرى عياناً ـ لأن تُرفعَ شعاراً يبرّر الفعل الطائفيّ لدى هذا الفريق أو ذاك. فليس أمامنا إلا تخليص هذه الوطنيّة مما يجعلها شعاراً، عَلماً يرفعه المتحاربون، تخليصها من بُعدٍ وجدانيٍ أُسبغ عليها وجعلها قابلةً للفعل ونقيضه، ينبغي إضفاء طابع قانونيّ عليها لتكون ذات إلزام، وهو ما سيتكفّل به دستورٌ دائم وقوانينُ عقوباتٍ رادعة لكلّ ما يمكن أن يجعل من الطائفيّة هياجاً مقدساً باسم اسلام صحيح أو حديث يبشّر فرقة ناجية بالجنة ويتوعّد الجميع بالويل والثبور.
وهذه الوطنية المقوننة ليست سوى المواطنة. هي الاشتراك في الوطن دون النظر اليه باعتباره فعلاً يمليه الضميرُ بل القانون. فما يمليه الضمير أوهى وأرقّ من أن ينشئ دولة أو يعلي نظاماً. والفارق هنا كالفارق بين الزكاة أو الخمس وبين الضريبة. الأولى “وهي المتروكة لضمير الفرد” لا يمكن التنبؤ بمقدارها ولا بموارد صرفها ولا بصدق دافعيها أو مستحقيها، أما الثانيّة “الملزِمة” فهي مفهرسة ومضبوطة ومؤداة بقوّة القانون.
في الوطنية يوجد دائماً من هو أكثر وطنية من سواه وهو ما يعطيه الحقّ في إملاء ما يراه على آخرين يظنون أيضاً أنهم أكثر وطنية من سواهم. أما المواطنة فلا يمكن لأحد ان يحوز نسبة أعلى منها، إذْ هي مقرّرة بحقوق وواجباتٍ مفروضة ومعطاة للجميع بالمقدار ذاته.
الإنتخابات العراقيّة القادمة، تلك التي سيخرج من رحمها دستور دائم، هي الحدّ الفاصل بين قديمٍ ماتَ وجديدٍ يولدُ الآن ببطء وطولِ مشقّة. وهذه القوى التي لا تريد للإنتخابات أن تنجح إنما ترغبُ في إبقاء هذه السيولة القيميّة التي تجعل من الوطنيّة مكرمةً يخلعها من هو أكثر وطنية على من هو أدنى وينزعها عنه متى شاء. هذه الوطنيّة التي يدّعيها أياد علاويّ والمقاوِم “أبو درع” معاً، والتي يدعّيها الذابح والذبيحة في أفلام الرعب التي نشاهدها كلّ يوم.
إنّ كلّ ما يكون قانونه الأوحد هو الضمير، هو حربٌ مؤجلة.
معرفتنا أن العربية ليست استزادة من ضمير عربيّ ما ، بل هي التكلم باللغة العربية لا أكثر ولا أقلّ، هي ما سينزع من العروبة صفتها الدمويّة التي عُرفتْ بها طويلاً والتي هَدمت العراق وأوصلته إلى خراب.
ومعرفة أن الاسلام نطقٌ بالشهادتين يعصم المال والنفس والعرض وليس مباراة في تحديد مَنْ هو أشدّ إسلاماً من سواه، هو ما سيجعل الإسلام ديناً قابلاً لأن يكون مادة التقاءٍ لا تنافر وتطاحن. أما الإيمان فهو جهد فرديّ ، حصاده اليوم الآخر.
كذلك معرفتنا أن الوطنية ليست امتيازاً وانها لا تكون ذات نفع إلا إذا كانت مواطَنة أيْ معبّراً عنها بقوانين ملزمة، هي ما ستنهي هذه المجازر التي نرتكبها جميعاً باسم الوطن، الوطن الذي يتعايش فيه شركاء يتصرفون بما تمليه عليهم ضمائرهم التي أملت عليهم الكراهية طويلاً.

نشر الكاتب العراقي احمد عبد الحسين هذا المقال في عام 2004. مقال مهم وعميق ومفصلي، علينا التوقف عنده مجددا لنفهم ما حدث بالبلد.

مقالات اخرى للكاتب

 
أضف تعليق
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
الاسم :

عنوان التعليق :

البريد الالكتروني :

نص التعليق :

1500 حرف المتبقية
أدخل الرقم من الصورة . اذا لم تستطع القراءة , تستطيع أن تحدث الصورة.
Page Generation: 0.35194
Total : 101