قيل لرجل من الظرفاء : غداً شهر رمضان . قال : ( والله لأقطعنّه بالسفر ) !. غير أنني تعودت أن أقطع هذا الشهر الفضيل من كلّ عام حين أخلو إلى مكتبتي ، أنتقي منها ما سهل وخفّ موضوعه من كتب الفكاهة والطرائف والنوادر ، فأقرأ كتاباً أستعين به على المسافة الزمنية الممتدة ما بين السحور إلى مدفع الإفطار .
ولقد استهوتني ( أخبار الحمقى والمغفلين ) فجلست ساعة في رمضان الفائت ، أقلّب في كتاب يحمل هذا العنوان لعبد الرحمن بن الجوزي يحق لنا وصفه بأنه خير أنيس وخير جليس .
وعرفت أن للأحمق سبعين اسماً ، كالكلب الذي أخبرنا أبو العلاء أن له سبعين اسماً . ومن أسماء الأحمق : الرقيع ، والأهوج ، والأرعن ، والمأفون ، والخرف ، والهبنق ، والمسلوس ، والأهبل .. ومن أسماء المرأة الحمقاء : الخرقاء ، والدفنس ، والهوجاء ، والداعكة ، والرطيئة !.
والعرب تضرب الأمثال بأكثر الناس حمقاً فتقول : ( أحمق من هبنقة ) ، ومن حماقته أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وقال : أخشى أن أضلّ نفسي ففعلت ذلك لأعرفها به ، فحوّلت القلادة ذات ليلة من عنقه لعنق أخيه ، فلمّا أصبح خاطب هبنقة أخاه قائلاً : يا أخي ، أنت أنا ، فمن أنا ؟!.
ويكاد يتفق المحدّثون ورواة الأخبار أن الحماقة غريزة وطبع لا شفاء لها ولا دواء . عن الأوزاعي قال : بلغني أنه قيل لعيسى بن مريم عليه السلام : يا روح الله انك تحيي الموتى ؟ قال : نعم بإذن الله . قيل وتبرئ الأكمه ( الأعمى ) ؟ قال : نعم بإذن الله . قيل : فما دواء الحمق ؟ قال : هذا الذي أعياني !.
والأحمق طبقاً لتعريف ابن الإعرابي هو من لا نستطيع أن نميّز كلامه من رعونته . أما الحماقة فإنها مشتقة من " حمقت السوق " إذا كسدت . بمعنى أن الأحمق لا عقل له ولا رأي .. عن أبي يوسف القاضي قال : ثلاث ، صدّق باثنتين ولا تصدّق بواحدة . إن قيل لك أن رجلاً كان معك فتوارى خلف حائط فمات فصدّق ، وإن قيل لك أن رجلاً فقيراً خرج إلى بلد فاستفاد مالاً فصدّق ، وإن قيل لك إن أحمق خرج إلى بلد فاستفاد عقلاً فلا تصدّق !.
وجاءنا التحذير تلو التحذير من صحبة الأحمق ، وورد في الأثر : ( لا تؤاخي الأحمق فإنه يشير عليك ويجهد نفسه فيخطئ . وربما يريد أن ينفعك فيضرك ، وسكوته خير من نطقه ، وبعده خير من قربه ، وموته خير من حياته ) !.
ومن مشاهير الحمقى في أدبنا العربي جحا واسمه نصر الدين خواجا . يحكى أن هبت في يوم ريح شديدة ، فأقبل الناس يدعون الله ويتوبون ، فصاح جحا : يا قوم ، لا تعجّلوا بالتوبة ، وإنما هي ريح وتسكن !.
وطلب منه أبوه أن يشتري له رأسا مشوياً ، فاشتراه وجلس في الطريق ، فأكل عينيه وأذنيه ولسانه ودماغه ، وحمل باقيه إلى أبيه ، فقال : ويحك ، ما هذا ؟ قال : هو الرأس الذي طلبته ! قال : فأين عيناه ؟ قال : كان أعمى !. قال : فأين أذناه ؟ قال : كان أصمّ !. قال : فأين لسانه ؟ قال : كان أخرس ! قال : فأين دماغه ؟ قال : كان أقرع !.
وتظهر شخصية الأحمق في أدب الشعوب فهناك مثلاً شخصية دون كيشوت في الأدب الاسباني ، كما تظهر شخصية المضحك في مجالس الملوك ، والشاعر النديم في صحبة الخليفة . ومن الشعراء الندامى أبو دلامة وأبو نواس .. ولنا حديث موصول مع الحمقى والمغفلين والمضحكين والشعراء الندامى !.