يبدو العراق و معه إلى حد كبير العالم العربي و الإسلامي و كأنه يعيش في كوكب آخر بعيد عن العالم المعاصر و قضاياه و تحدياته...و العراق ضمن هذه الحالة العربية و الإسلامية العامة ( حالة خاصة) أكثر شذوذا و إمعانا في السلبية...يصف كثير من دارسي الحضارات و الباحثين في التاريخ الحقبة الراهنة التي يعيشها العالم بأنها من أسعد و انضج ما مر على البشرية عبر تاريخها الطويل من حيث توافق و تفاهم و تقارب أقطابها و مراكزها الكبرى..فلا حروب ولا صراعات بينما التنافس يدور بطريقة عقلانية حول محاور الإقتصاد و التكنولوجيا و المعرفة .
السباق العالمي المحموم يحتدم في هذه المضامير فيما تعيش أمم أخرى على ( الهامش) تتغنى بتاريخها و تنقسم حوله و تتصارع بسبب أحداثه الغابرة..هذه الحالة ( الوفاقية العقلانية) التي تجتاح العالم لم تأت من فراغ ..و لم تولد من العدم و إنما جاءت نتيجة نضج بشري و تراكم في الخبرة الإنسانية وصل إلى ( النهايات السعيدة)..فالعالم قد انتهى إلى نبذ التعصب و التشدد بكل صوره و أشكاله ..و توصل إلى رفض حاد لدفع الأثمان الباهظة للصراعات..و أدرك حاجة الأمم و الحضارات لبعضها البعض.
العالم انتهى إلى ( خلاصات مركزة) و إلى ( دروس ثمينة)..كان قد دفع ثمنها بحارا من الدماء..و جبالا من الثروات..و ضياعا لأمم و شعوب..و عقود طويلة من الحرمان و التضحيات..حتى انتهى إلى الحالة العقلانية الواقعية الراهنة...فلماذا لا نحصل على هذه الدروس بالمجان..؟؟ و لماذا لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون ..؟؟ و علام نغض الطرف عن خلاصاتهم و حصائد تجاربهم المريرة..؟؟.
سادت القيم ( البراجماتية) في العالم و تعززت الواقعية و انتصرت المبادئ العملية على الخرافة ..و الايديولوجيات الجامدة..و القوالب النظرية الفاسدة..البعض في بلداننا عندما يتحدث عن البراجماتية أو يصف بعض الساسة بالبراجماتيين فكأنه يتحدث عن ( كفر بواح) أو ( سقوط اخلاقي شنيع ينبغي تجنبه) فيما البراجماتية غدت اليوم كفكر و ممارسة أحدى أهم دعائم النهوض الغربي و الكوني المعاصر..انها المنهج الذي يعلي من شأن الحقيقة المشاهدة..و الواقع الملموس.. و الاستخلاص السليم...و الآية الكريمة التي ترشدنا ( سنريهم آياتنا في الآفاق و في انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ليست سوى افضل تلخيص للبراجماتية التي تقود إلى الآيمان و العقيدة الصالحة و ذلك عندما تتطابق الحقائق المشاهدة في الآفاق ..و في المجتمعات و الإنسان مع بديهيات و مقتضيات الإيمان و العقيدة.
و فيما تحدث هذه التطورات الكونية و يتعزز تقارب الحضارات و تترسخ الحالة الوفاقية المتصالحة في إرجاء العالم..يعصف ( فقدان المصداقية) بالعالم الإسلامي عصفا ..و تتضخم ( الظاهرة النفاقية) فيه.. و تكبر ( المساحات الرمادية) على إمتداد مساحته بأستمرار ..و ينشأ ( فصام نكد) بين عقيدة المسلمين و بين واقعهم و كل ذلك يجعل للمجتمعات المسلمة أمام تحد فكري و عقيدي غير مسبوق ..و تنكشف الساحة الإسلامية أمام هجمة فكرية إستثنائية و عاتية يحاول المسلمون درئها بوسائل دفاع بدائية و بالإصرار على الخطأ و رفض المراجعة من خلال التفكر و التدبر و الذي هو من أول فروض دينهم.
بات الدين ( شماعة) يعلق عليها الفاشلون في بلداتنا اخطائهم ..و خطاياهم ... و بات الفهم الخاطئ للدين و الممارسة المنحرفة له عوامل هدم في مجتمعاتنا ..صارت الصور المنحرفة و النماذج الشاذة و الممارسات المشوهة مادة يتاجر بها المشعوذون ...و المهرطقون ..و الدجاجلة ..لا بل أن الساسة أنفسهم صاروا يفتخرون بها و يتقربون إلى قلوب العامة بواسطتها حتى بتنا نشهد ( تنافسا في الجهل) و ( مباريات في الجهالة ) يقوم بها سياسيون و مثقفون بحثا عن الشعبية الرخيصة و ما دروا أن أكبر خطئية يرتكبها سياسي أو قائد هي عندما يرعى الجهل و الجهالة بين مواطنيه أملا في مكسب سياسي و رغبة في تعزيز سلطة .
لم يعد التدين عندنا ( زهدا في الدنيا) بل صار ملجأ نفسيا و مهربا ( لمن زهدت بهم الدنيا) ..اولئك المتعبون..المرهقون ..المحبطون..و الذين تلسع سياط الفقر و البطالة و الحرمان ظهورهم صاروا يلجأون إلى التدين المظهري و السطحي الممزوج بممارسات الجهالة هروبا من واقعهم ..و تعبيرا عن احباطهم ..و فرارا من دنيا حرمتهم من كل شيء إمتلكه الآنسان المتحضر المعاصر و أعظم ما حرمتهم منه هو الأمل بالمستقبل و حق الحلم فيه .
لنتسائل و بشجاعة ..هل الثقافة التي تقدم اليوم كغذاء لعامة الناس أو لمن يطلق عليهم وصف ( المتدينين ) قادرة أن تقود إلى نهوض حضاري ...أو حتى نهوض ( روحي)..؟؟
هل انتجت لنا هذه الثقافة في العراق و عموم العالم الإسلامي إنسانا متحضرا..مبدعا ..منتجا أم انتجت لنا جيوشا من الجهلة و المتعصبين و البلداء..؟؟
ما هي مخرجات هذه الثقافة..؟؟
هل صنعت لنا حكاما و قادة عظماء و صالحين ..أو مسؤولين نزيهيين ..أو علماء مخترعين ..أو مواطنين متعلمين..أو عمالا كادحين و منتجين أم خرجت لنا السراق و الكذابين و المتخلفين..؟؟
إذا اردت أن تحكم على سلامة ( المدخلات) فعليك أن تشاهد ( المخرجات ).. و بالتأكيد فأن غذاء الجماهير الثقافي اليوم في بلادنا و في طول العالم الإسلامي و عرضه لا يمكن أن يكون ( ثقافة إسلامية حقيقية و أصيلة ) و الدليل على ذلك نتائجها..و مفرزاتها.
هل نستمر في تجاهل ( ما انتهى إليه العالم) ..فتزهد بنا الحياة و نتنازل عن مفهوم ( الخلافة في الأرض) و هو مفهوم إسلامي أساسي و أصيل..؟؟ أم نرفع الراية البيضاء أمام الأمم الأخرى و نقر بهزيمتنا الحضارية و عجزنا الفكري و الثقافي ...؟؟
نتيجة تبدو بائسة ..حزينة ..ترفضها النفس و تأباها المرؤة.
إذن لابد من إمعان النظر فيما انتهى له العالم..و لابد من رد الاعتبار للحاضر و المستقبل بعد أن أطاح التغني بالتاريخ و الإرتهان له بهما معا.
لابد من ( العقلانية) ..و ( الواقعية) و ( العلمية) ..و ( التجريبية ) فهي من فروض ديننا قبل أن تكون اصولا في البراجماتية..و هي ألف باء العالم المعاصر المتحضر ..كما أنها المفتاح لنهوض أي أمة أو مجتمع.
الأ هل بلغنا..اللهم أشهد..
مقالات اخرى للكاتب