هذه حكاية، بل هي واقعة تاريخية سمعتها بنفسي من أحد أبطالها، المحامي الكبير داود السعدي عندما كان سكرتيرًا لحزب الاستقلال في العراق.
واشتهر بميوله الوطنية والقومية. أرويها اليوم لصددها بالنسبة لكل هذه البرلمانات العربية التي سيطرت عليها أكثرية جاهلة نتيجة إعطاء حق الاقتراع للجميع بمن فيهم الناخبون الأميون السذج.
كذا كان مجلس النواب العراقي. فبسبب الأكثرية الأمية للناخبين في البلاد أصبحت أكثرية المجلس من هذه الفصيلة.
وكما نتوقع، كانوا دائمًا يؤيدون أيًا كان في الحكم.
ولكن كانت هناك أقلية صغيرة في المجلس من المثقفين اليساريين والوطنيين والليبراليين، أساتذة ومحامين وأطباء وشعراء ونحو ذلك من أصحاب المهن.
وكان بينهم داود السعدي. شكلوا صفوف المعارضة في المجلس. حدث أن طرح موضوع معين أثار اعتراض هذه الأقلية من النواب الفاهمين. راحوا ينددون به وبالحكومة التي تولت طرحه، وكان نوري السعيد على رأسها، رئيسًا للوزراء.
احتد النقاش في المجلس وتعالت الأصوات والتحديات والشتائم على الحكومة. اضطر رئيس المجلس إلى رفع الجلسة حتى تهدأ أعصاب الحاضرين.
وفي فترة الاستراحة، ذهب أحد شيوخ العشائر إلى نوري السعيد وانتقده على هذا التساهل والسماح لهذه الفئة الصغيرة من المعارضين بتسميم الجو. قال له: لماذا تعبأ بهم وتعطيهم كل هذا المجال؟ أكثرية النواب معك.
اطرح لائحة القانون للتصويت فنصوت لها وينتهي الأمر ويخرس هؤلاء المشاغبون.
أجابه أبو صباح قائلا: نعم، أنا أعرف جيدًا أن أكثرية النواب معي (ولا عجب فقد كان هو الذي جاء بهم وعينهم نوابًا في المجلس)، وسيصوتون كما أطلب منهم وينتهي الأمر، ولكن هذه الفئة الصغيرة التي لا تنفك عن الاعتراض وإثارة المشاكل تمثل نخبة الشعب العراقي.
إنهم الناس الفاهمون. ضروري نفسح لهم المجال ونستمع لآرائهم واقتراحاتهم.
كلام جميل وحكيم. هكذا قال عندما كان في مقتبل حياته السياسية في الثلاثينات. بيد أن الحكمة خانته وتركته في أواخر حياته السياسية. كلما حذروه (وكان ممن حذروه الإنجليز) من الثورة عليه، كان يردد «قاع السيد مضمونة».
والسيد هو الملك الهاشمي فيصل الثاني. تضايق هذه المرة من كلام الفئة الصغيرة من المعارضة فاستحصل على إرادة ملكية بحل المجلس عام 1957 وصرفهم إلى بيوتهم. شعر القوم بأن الكلام مع هذه الحكومة مضيعة وقت.
لا تفهم غير القوة فتآمروا على إسقاطها بثورة 14 يوليو (تموز) 1958. حاول أبو صباح بعد يومين الهروب من بغداد متخفيًا بعباءة امرأة. فكشفوه وقتلوه على قارعة الطريق في الباب الشرقي من بغداد.
وكانت آخر طلقة أفرغت في رأسه من العقيد وصفي طاهر، الذي كان المرافق المكلف حراسته سابقا. وسقطت أرض «السيد» بيد الثوار. رحمهم الله جميعا، وجميعا غفر الله لهم حماقاتهم وعصبياتهم.
وتلك الأحداث نروي تفاصيلها للناس لعلهم يعقلون.
مقالات اخرى للكاتب