من يعرف دولة الكويت يعرف كم هي متميزة عن غيرها من الدول العربية، فهي رغم صغرها جغرافيا وسكانيا، إلا أن حراكها الدولي اقتصاديا، بل ومنجزها الثقافي على الصعيد العربي لا يكاد يقارن بغيرها من الدول الكبيرة في عمقها التاريخي والسكاني مثل العراق ومصر. فالبلدان العربية لا تكاد تجاري الكويت ومنذ ستينات القرن الماضي في نجاحها في اصدار مجلة العربي، وكتاب العربي، ومجلة المسرح العالمي، ودورية عالم الفكر، وسلسلة عالم المعرفة، بل وفي مجال الدراسات الأكاديمية التي تعنى بالتراث الأدبي (تحقيق ونشر معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي) وفي مجال العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي وفي الترجمة، بل لقد كان تلفزيون الكويت (لي شخصيا) نافذة ثقافية فنية أدبية عندما كان في العراق شاشة واحدة تبث خطب بطل التحرير القومي صدام حسين طيلة الثمانينات.
لم أشعر يوما أن الكويت يمكن أن تحتقر العراق، أو أن تسهم في إذلال العراقيين، فأنا بحكم الثقافة المشتركة وبحكم الجيرة والمصاهرة بين البصرة والكويت شعبا وأرضا وتاريخا وهموما ومستقبلا أجد أن التراث الشعبي في البصرة أقرب ما يكون إلى ما هو في الكويت التي كانت يوما ما جزءا من ولاية البصرة حتى سقوط الدولة العثمانية (وليس من العراق الذي أسسه الانكليز عام 1921 في القاهرة)، منها إلى بغداد. وليس من قبيل المزاح أن نجد أن لبغداد (ماجينا يا ماجينا ..) وللبصرة والكويت (كركيعانهما)، وقد كان لقب الكويتي (صالح الكويتي)، كبقية مناطق البصرة الأخرى ينسجم مع القطراني (قطر)، والبحراني (البحرين)، والحساوي (الحسا) وكلها مناطق شكلت ولاية البصرة مثل سنجق المنتفق (ذي قار)، وسنجق العمارة (ميسان) وسنجق نجد.
نعم كانت ولاية البصرة مترامية الأطراف حتى حدود عمان جنوبا، ومسجد سليمان وتستر (شوشتر) شرقا، وبغداد شمالا. وكانت مثابة للعلم والحضارة وثقتها التوراة كونها جنة عدن في الأرض (Garden of Eden). وكتب عنها (H. G. Wells) صاحب الروايات المستقبلية، أن سيكون للبصرة شأن كدولة عصرية يخطط مهندسو الطيران في مطارها الأقدم لخير البشرية كما جاء في كتابه (The Shape of Things to Come). فالبصرة طود شامخ على مر العصور يحسدها على نبوغها النابهون، ويتحسر على اسطورة سندبادها المبحرون، حتى أن عبيدها الصالحين من سيدنا الخضر عند مجمع البحرين فيها، وحتى رابعة العدوية، بل من حسنها البصري حتى متصوفها مالك بن دينار، تكاد تصبح بلدة صنعها الخيال، ولم يصنعها البشر. أليست البصرة عروس السفائن كما وصفها مظفر النواب! وكما تغنى بها الناس الذين أحبوها.
أرى من الغبن والحيف أن تقارن البصرة على عظمتها التاريخية بدولة حديثة مهمة كالأردن، بل بأية دولة لا تملك تاريخا ضخما كتاريخ البصرة. ومع جور الزمن على شعب البصرة الذي استنزفته الحروب، ونالت منه المطامع أيما نيل، تبقى البصرة بمبدعيها وبجامعاتها ومراكزها العلمية والثقافية وبمواردها وموقعها الاستراتيجي مشروعا مؤجلا (لجمهورية خليجية) بتعبير ريدر فيسر في كتابه (Basra The Failed Gulf State) أو ترجمته (البصرة وحلم الجمهورية الخليجية ـ دار الجمل).
لكن أن يزور محافظ البصرة (حصل على 10,000 صوت) دولة الكويت مؤخرا، ويوجه إهانة كبيرة للشعب البصري باقتراحه توأمة محافظتهم البصرة بمدينة صغيرة وحديثة كـ"الجهرا" التي كانت في قبل تأسيسها شارعا كويتيا. فهذا ما لا يرتضيه أي بصري، بل ما لا يقبل به الكويتيون أنفسهم، لأنه أمر خارج عن المنطق الفطري، وعن اللياقات الحضارية، والبروتوكولات الدولية المتعارف عليها.
كيف خطر ببال محافظ البصرة أن يقترح هذا المشروع، وهل فكر مثلا توأمة البصرة بولاية فيرجينيا التي تشبه البصرة بموانئ جيمستاون وبعلاقتها بالانكليز أيضا؟ هل فكر بتوأمتها بمدينة فينيسيا الايطالية على اعتبار البصرة فينيسيا الشرق كما رآها المستشرقون، ومنهم كافن يونغ. بل هل خطر بباله أن تكون البصرة توأم باكو في أذربيجان؟. لا أظن لمحافظ البصرة أدنى فكرة عن كبرياء البصريين، حتى لو صادفه من يغني "أحيا وأموت ع البصرة"، لكنني أعده أن هناك ثلاثة سيصادفونه المرة القادمة في شارع الجهرا ليسمعوه طقطوقة كنا نسمعها في طفولتنا تقول (في شارع الجهرا صادفوني، ثلاثة رايحين للصالحية. واعترضوا في طريقي واكشفوني وقالوا ليش ما عندك حمية؟)
مقالات اخرى للكاتب