من ابسط بديهيات السياسة ان السلطة المطلقة تعني مفسدة كبيرة وهي تناقض أبسط مبادئ الديمقراطية ومشاركة الشعب في السلطة والقرار، لهذا سعى المفكرون في مختلف الازمان والاماكن الى ضبط السلطة ووضع معايير لها بحيث لا تتحول الى سلطة غاشمة تصادر حقوق وحريات الناس، فكانت اولى النظريات والانتفاضات والثورات على طول التاريخ الانساني تدور وتهتم بالحرية والسلطة بحيث لا تطغى اي منها على الاخرى ضمن ميزان دقيق يوازي بين الحقوق والواجبات ويحفظ حقوق الافراد والجماعات والسلطات الموجودة في المجتمع.
وتمثل نظرية الفصل بين السلطات اهم تلك الحلول التي اهتدى اليها العقل البشري الى جانب الشورى والمشاركة والديمقراطية والانتخابات وغيرها من الطرق التي تنقل سلطة الشعب الى هيئة او مجموعة تمثل الشعب وتدافع عن حقوقه وخياراته الى جانب المشاركة في السلطات الاخرى التي يمثل التقسيم التقليدي للفصل بين السلطات التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة) والقضائية (مجلس القضاء والمحاكم) النموذج الاكثر رواجاً وتطبيقاً في معظم النظم السياسية في العالم باختلاف الشكل او النظام الذي تتبعه سواء كان جمهورياً أم ملكياً أم اميرياً أم اي اسم وعنوان يعرف به.
ويمثل الدستور العراقي لعام 2005 والذي صوت عليه الشعب العراقي باستفتاء شعبي ما يعطيه ويمنحه الشرعية الجماهيرية والمقبولية الى جانب الشرعية التي يمتلكها كونه الصورة والهيكل القانوني للنظام السياسي الذي تشكل في العراق بعد سقوط النظام السابق ونشوء النظام او العراق الجديد بعد 9نيسان2003، حيث يمثل هذا الدستور افضل مثال لنظام الفصل بين السلطات والذي وصل الى حد توزيع و(تفتيت) الصلاحيات الموجودة في كل سلطة بحيث يمنع او يحول ما يخشى منه العراقيون وهو نشوء او ولادة سلطة تتسلط او تسيطر على غيرها من السلطات وبما يمهد نشوء سلطة اونظام دكتاتوري يعيد العراق الى سابق الايام والاحوال الماضية.
وضمن هذا المفهوم جاء الدستور العراقي ونص في الفصل الرابع على عنوان (الهيئات المستقلة) حيث نصت المادة 102 على (تعد المفوضية العليا لحقوق الاسنان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهيئة النزاهة هيئات مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب وتنظم اعمالها بقانون) وقد صدرت بعدها عدد من القوانين التي فصلت احكام ومهام هذه الهيئات والتي واقع الحال يبين (بصراحة) وبدون اي تلاعب بالالفاظ والاقوال انها أبعد ما كون بالمستقلة لان طريقة تشكيلها واعضائها هم اساساً من ترشيح او اعضاء الاحزاب والكتل الفائزة والتي لا ترضى باي حال تقديم او ترشيح ما لم يكن ولائه وانتمائه وعمله لصالح هذه الكتلة او ذاك الحزب، وكان قرار المحكمة الاتحادية بالحاقها وجعلها تحت اشراف رئاسة مجلس الوزراء اثناء حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ابرز دليل على ان من يمسك السلطة لا يرضى له شريكاً او مراقباً على اعماله وتصرفاته.
كما ان واقع الحال في العراق (الجديد) مفضوح بالانتهاكات الكبيرة والفظيعة لحقوق الانسان، وطريقة ادارة ونتائج الانتخابات التي جرت في العراق، وحجم الفساد الذي وصل الى درجة دخول العراق الى عصر الفضاء ليس من خلال التقدم والبرامج العلمية بل من خلال الجنود والشرطة والموظفين الوهميين والذي يجري تسميتهم هذه الايام بالفضائيين وما يُنشر كل يوم عن اعداد بعشرات او مئات الآلاف الذين كانت تصرف لهم رواتب ومخصصات تسليح وتجهيز ووجبات طعام على مدى عدة سنوات ولم يكن لهم وجود الا من خلال قوائم الصرف الوهمية، والتي لم تنتبه لهم هيئة النزاهة رغم امكانيتها واعلامها وحضورها الكبير في القضايا الكثيرة التي حققت فيها والتي يبدوا انها لم تنجح سوى في قضية اقصاء رئيسها ومؤسسها القاضي... الذي تحول بين ليلة وضحاها الى متهم ثم مدان في قضايا لا تتعدى بعضها عدة دنانير عراقية في وقت ضاع ثلث العراق وسقطت عشرات المدن والاقضية والنواحي ومئات القرى ونزح وتهجر الملايين بفعل سياسة الحكومة السابقة التي لم يردعها لا دستور ولا قانون ولا هيئات مستقلة ولاهم يحزنون.
في اقليم كوردستان يجري استنساخ وتطبيق عدد مما ورد او طبق في العراق، فكان تشريع قانون هيئة النزاهة في اقليم كوردستان رقم 3لسنة2011 والذي لم نجد من نشاط هذه الهئية سوى دورها النشيط في توزيع استمارات كشف الذمة المالية، على الرغم من ان الوضع في الاقليم يختلف عما هو في باقي ارجاء العراق فعمل هيئة النزاهة هو بالاساس من اعمال القضاء صاحب الولاية العامة وبالتحديد هو من اختصاص وعمل جهاز الادعاء العام الذي هو جهاز قضائي رقابي متخصص لحماية المال العام ومراقبة المشروعية وحسن تطبيق القوانين، ومن الافضل لو تم تشريع قانون جديد للادعاء العام وهو بالمناسبة موجود لدى برلمان كوردستان منذ عدة سنوات حيث قدمت من عام 2008 عدة مشاريع لقانون الادعاء العام وتم تنظيم مؤتمر اقليمي وعقدت عشرات الاجتماعات الى انه مع الاسف لم يتم التقدم بخطوة واحدة في هذا الموضوع.
بالمقابل نجد في البرلمان الكوردستاني همة عالية ونشاطا ملحوظا جعلته يجتمع عدة جلسات لمناقشة التعديلات على قانون النزاهة (رغم ان الهيئة المدللة لم تباشر عملها ليتبين قصور ونواقص القانون المشكلة به) وتم يوم25/11/2014 التصويت على قانون التعديل الاول لقانون النزاهة مسك الختام في هذا الموضوع حيث منحت هذه الهيئة صلاحيات واختصاصات هي اصلاً اختصاصات حصرية للسلطة القضائية (مجلس القضاء) والذي يمتلك وحده من خلال المحاكم الولاية العامة للقضاء والمنصوص عليها في الدستور وكل القوانين النافذة.
كما منحت الهيئة صلاحية تعيين المحققين العدليين وهي صلاحيات خاصة بمجلس القضاء حسب نص المادة51 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل، وهذا يدعونا الى التساؤل:هل يحتاج اقليم كوردستان الى تعديل قانون النزاهة في الوقت الحاضر؟ وقبل هذا هناك سؤال أول هو:هل يحتاج اقليم كوردستان اصلاً الى وجود هيئة للنزاهة مع وجود هيئة الحق العام في جهاز الادعاء العام باعتباره أحد مكونات السلطة القضائية في الاقليم ؟ الى جانب وجود لجنة للنزاهة في برلمان كوردستان؟ نترك الجواب لمن يملك الاجابة او سنتاوله ان شاء الله في مقالات قادمة.
مقالات اخرى للكاتب