علينا بادئ ذي بدء أن نعيد التذكير بحقيقة أنه لا يمكن قيادة عملية تنمية ناجحة في ظل بيئة سياسية واجتماعية مضطربة ولا يوجد شاهد واحد على عكس ذلك، كما أنه لا يمكن تحقيق أي تنمية في ظل ثقافة سياسية واجتماعية متخلفة.
إن العراق ومنذ سقوط النظام اصبحت لديه موارد اقتصادية جيدة وامتلك لاول مرة مقدرات ثرواته ودخل عالم الاستثمارات الدولية الا ان مردود ذلك كله لم يظهر ولم يتحسس المواطنون بأي تغير نوعي في كل المجالات ، ولقد تصاعدت في الآونة الأخيرة النذر والشواهد على أن الاقتصاد العراقي يتجه نحو مزيد من الفوضى وربما كان حدث إقرار الموازنة العامة للدولة وما اثاره من نقاشات وما برز خلاله من طروحات لبعض القوى السياسية هو الذي سلط الضوء على مظاهر ومؤشرات الفوضى المتصاعدة هذه، ويبدو المشهد وكأن إدارة الاقتصاد العراقي باتت مستسلمة لصورة من صور الفوضى الشاملة التي يتبدد معها كل أمال العراقيين في تحسين أوضاعهم ونجاتهم من الحرمان الذي يكاد يغرقهم والتي باتت تتسع يوما بعد يوم لتشمل المساحة الأكبر من المجتمع العراقي . من يتأمل في الوضع العراقي الراهن يميل إلى الاستنتاج بأن العراق يتجه لإغلاق ملف التنمية وطي صفحاته واستبدال شعار التنمية الشاملة بشعار توزيع الأموال ، وللحقيقة فإن تاريخ التنمية في العراق يظهر محاولات خجولة في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وعلينا أن نسجل هنا تجربة مجلس الإعمار الناجحة في خمسينيات ذلك القرن، تلك التجربة التي كان يمكن أن تغير وجه العراق الاقتصادي لو قدر لها الاستمرار. نحن لم نعد نفتقد المنظور الاستراتيجي بعيد المدى فحسب ولكننا نفتقد حتى السياسات السنوية التي يمكن لها أن توجه قطاعا معينا ، واكبر دليل الدعوة إلى توزيع الأموال على المواطنين وهي دليل أخر على سيادة الفوضى في المشهد الاقتصادي العراقي ، باعتبارها نابعة من الفشل الواضح في بناء الاقتصاد وتقديم الخدمات وعلينا أن نقر بوجود الفشل ونسرع بعلاجه بجدية لا أن نقدم مثل هذه المقترحات العقيمة التي لا يمكن الا أن تزيد الوضع الاقتصادي سوءا وتعزز فكرة المجتمع الاتكالي غير المنتج ، الفوضى المالية هي جزء من الفوضى الاقتصادية بل لعلها من أخطر صورها ، فهي الباب الواسع الذي يتسلل منه الفساد، وهي التي تلخص سوء الأداء الاقتصادي ، هنالك ايضا اشكاليات عملية مرتبطة بمسألة العجز في الموازنة، فالذي يحدث أن الوزرات وجهات الصرف لا تنفذ كل مشاريعها ولا تستنفذ كل موازناتها ، فيعود جزء كبير إلى الموازنة ولا يتحقق العجز من الناحية العملية وهذا قد يغري الجهات المالية بالتساهل في موضوع العجز ولكنه من ناحية أخرى يؤشر إلى ضعف الأداء وتواضع نسب التنفيذ في المنهاج الإستثماري والمشاريع الحكومية وتلكؤها مما يعني أنه حتى هذه المشاريع التي لا يجمعها منظور واحد ولا خطة متناسقة لا تجد طريقها إلى التنفيذ كما يجب. يتذرع البعض بإرتفاع سعر النفط في السوق عما هو مقدر في الموازنة (90 دولارا فيما هو مقيم بالسوق حاليا بسعر يزيد عن المائة دولار) ، مما يعني أن العجز قد لا يكون حقيقيا بل أن فائضا يمكن أن يتحقق ليتحول إلى موازنة تكميلية ، وهذا التبرير سليم من الناحية النظرية لكنه يهمل تقلبات سوق النفط المحتملة والمخاطر العديدة والمتعاظمة التي يمكن ان يتعرض لها تصدير النفط العراقي بسبب التوتر في الخليج واحتمال نشوب صراع في المنطقة
مقالات اخرى للكاتب