مرعاة إجراءات السلامة ومخاطر العمل تتصدر أولويات دراسات الجدوى في أي مشروع، صغيراً كان أو كبيراً، خدمياً كان أو سلعياً. يتناسب تقديرها مع حجم الفئة المستهدفة، وتكون حاسمة في قرار المضي قدماً من عدمه. ليس هناك من مشروع إنشائي تحدث الناس عنه على المستويين:الخاص والعام، بشأن ما يكتنفه من مخاطر ومجازفة قدر سد الموصل منذ أن بدأت الخطوات الإستكشافية الأولى وأعمال التحري الإبتدائية الى ساعتنا هذه، وكان ذلك في واقع الحال مدعاة الى تطبيق أقصى معايير الأمان والسلامة عند التنفيذ وأثناء التشغيل وفي القيام بإجراءات المراقبة والصيانة، على مدي سنين عمره الذي وصل الآن الى ثلاثين سنة، ولم يكن الأمر دليلاً على أنه سيفشل وينهار كما يظن البعض. لا تعالج المسائل من أمثال سد الموصل، ومشاريع الأعمال عموما، سواء كانت قبل الإنجاز والدخول في الخدمة أو بعده، بالتصريحات والتوقعات والتخمينات، خصوصاً تلك التي تصدر ممن ليسوا ذوي إختصاص، وإنما بوضع مقاربة منهجية لتوصيف المشكلة والتعرف على كافة جوانبها بغية إيجاد الحل الذي يمنع فعلاً تفاقمها، وبالتالي يحمي الناس ويحافظ على أرواحهم وممتلكاتهم العامة والخاصة. هنا، وفي مقال سابق، لا أسعى الى دعم أحد الفريقَيْن المهتمَّيْن بسد الموصل، واللذين أصبحا على طرَفَيْ نقيض بشأن تقييم وضعه من ناحية السلامة والأمان، سلباً مع هؤلاء أو إيجاباً مع أولئك، وإنّما أحاول أن أتتبع، بحياد قدر الإمكان، المعلومات المتوفِّرة وأراء الخبراء الذين ادّعى "الشرطي" الذي نوَّهْنا عنه في مقالنا السابق أنهم قالوا في عام 1996، أن السد سينهار سينهار. في وقت مبكِّر من عمر السد 1985-1988، أي في السنوات الأولى من عمره التشغيلي وارتفاع مستويات الخزن وإنخفاض منسوب النهر، خضعت حالة السد للمراجعة، وبعد دراسة مستفيضة لظاهرة ذوبان طبقات الأساس وكفاءة عمليات الحقن بالسمنت وأعمال التحكيم والتقوية المستمرة لأسس والدعامات، وتقييم البطانات الكونكريتية لأرضية حوض الخزن وجانبَيْه وحالة التجاويف التي تقع تحت عمق 110 متر وتأثير الضغط الإرتوازي المتوقع للمياه الجوفية، قامت بها شركات عالمية متخصصة في هندسة السدود والحقن تحت إشراف مجلس الخبراء العالمي تمّ التوصل الى حقيقة ثابتة تفيد: بالرغم من أن ذوبان الطبقات الصخرية منذ الشروع في إملاء السد معتبرة، إلا أن عملية الحقن تتغلب عليها ولا تشكل عائقاً في إكمال الملء والتشغيل بنجاح ، وتم تقديم مقترحات إضافية لتحسين تقنيات عمليات الحقن والصيانة في السد، مع ذلك إرتأت الحكومة العراقية في حينه إنشاء سدين على مجرى النهر النازل بعد السد أحدهما في منطقة بادوش قبل الموصل بحوالي 15 كم والثاني في منطقة الفتحة شمال بيجي. جاء ذلك القرار تحت ضغط الوصف المريع والنتائج الكارثية لإحتمال إنهيار السد لأي سبب كان، وليس لقصور مواصفاته حصراً، حيث يقول نموذج للمحاكاة أن موجاً من المياه بإرتفاع 80 قدم سوف يضرب الموصل خلال 4 ساعات ويطوف على 28 ميل مربع، وعندما يصل الى تكريت بعد 22 ساعة يكون إرتفاع الموج قد إنخفض الى 50 قدما ، ثمّ سوف يضرب بغداد بعد يومين بإرتفاع 13 قدم تقريباً ولكنه سيكون كافياً لغرق مركز العاصمة وأن يفيض على 80 ميلاً مربعاً حولها، وبرأيي أن هذا السيناريو الفظيع هو الذي دفع الحكومة العراقية الى إتخاذ قرار إقامة السدين المذكورين إضافة الى المردود الإروائي والتوسع في توليد الطاقة، وإلا فإن رأياً خبيراً بحتمية إنهيار السد تجعل الموافقة على بقائه واستمراره بالعمل من قبل أية حكومة ضرباً من الجنون البيِّن والرعونة التي لا نظير لها والحمق التام، مهما كانت الخسائر الناجمة عن تضرر مشاريع الري وتوقف محطات توليد الطاقة الهايدروليكية ومخاطر الفيضانات الموسمية. بوشر بالأول (سد بادوش) عام 1988ووصلت اعمال البناء الى 40% غير أنها توقفت بسبب حرب الخليج الأولى، أما سد الفتحة فإنه أُهمل تماما، واستمر تشغيل السد بشكل طبيعي رغم ظروف حرب الخليج الأولى التي كانت نتيجتها إلقاء 88 ألف طن من المتفجرات على العراق، لم يكن حظ الموصل منها قليلاً، الى أن جاء عام 1995-1996، وهو الموعد الذي إدعى "الخبير الأمني الإستراتيجي" أن الخبراء قالوا فيه أن السد سينهار سينهار. أُجْرِيَ فحص شامل للسد، قام به إثنان من الخبراء البلغار عن طريق مراجعة التقارير المتوفرة والقراءات المسجلة لكل فعاليات الصيانة والتشغيل واستمرت الأعمال لمدة شهرين في الموقع بالتعاون والتنسيق مع الجهات العراقية المعنية وقدموا تقريراً يغطي كل جوانب أداء السد فعلاً ويعطي وصفاً مستفيضاً لكل مظاهره، لكن أهم الإستنتاجات التي نوقشت في مجلس الخبراء كانت تشير الى إنخفاض كميات التسريب وتراجع تراكيز الأملاح بشكل مطّرد للفترة من 1985 الى 1995. قراءات مقاييس التوسع المثبة في جسم السد ومقاييس مراقبة الأرض الموجودة في أعلى السد بيَّنت أن الإزاحة ضمن الحدود المقبولة وأن حالة السد عموماً في عام 1995 جيدة مع التأكيد على عدم الوصول بمستوى الخزن الى 330 متر فوق مستوى سطح البحر الا في الحالات الطارئة ولفترة وجيزة إضافة الى توصيات عديدة أخرى من شأنها أن تحسن نظام المراقبة وتعطي مصداقية أكثر لإجراءت الصيانة الوقائية والعلاجية. كان من الطبيعي بعد النتائج المطمئنة للتقييم الثاني أن يستمر السد في العمل لسنوات أخرى وفق برامج المراقبة والصيانة الروتينة دون تسجيل أية عوارض أو علامات تنذر بالخطر أو تعكس تردي حالة السد لغاية عام 2003، حيث زار فريق إستشاري من الجيش الأمريكي الموقع لغرض تقييم شدة الخطورة التي يمثلها السد لقوات التحالف واجراء تقييم هندسي للمشاكل التي يعاني منها وفق منظور تقديم حلول صلبة لمعالجتها من خلال عقد رسمي ومجلس خبراء. بعد جمع وثائق من 10500 صفحة، تم الحصول عليها من مكتبة إدارة السد، مكتبة السدود والخزانات في بغداد، المكتب الإستشاري السويسري، مكاتب إستشارية أخرى في لندن، رأى مجلس الخبراء أن برنامج الحقن المركز للأسس الأسمنتية قد جعل الأمر مقبولاً تماماً قدر تعلق الأمر بإحتمالية الفشل السنوي للسد ولكن دون أن يصل به الى الحدود المقبولة لمعايير المكتب الأمريكي المختص الذي يقول دليله الإرشادي أن نسبة المجازفة لا يجب ان تتجاوز 10%، ومن شأن برنامج الصيانة والحقن المستمر تحسين هذه الإحتمالية. كذلك لاحظ مجلس الخبراء المنبثق من هذا العقد العديد من المظاهر الإيجابية، مثل إنخفاض عدد مرات الحقن الإسمنتي وكميات الحشوة، قراءات مفضلة في آبار مراقبة الضغوط المسلطة على السد والحوض، تحسن خبرة الفريق العامل الذي يعتبر رصيداً جيداً، وأوصى أخيرا بالعمل على رفع مستوى تقنيات الحقن بإستمرار، وعاد كذلك الى مقترح 1988، الذي يدعو الى إقامة سد بادوش دون ذكر سد الفتحة، كحل طويل المدى لضمان سلامة الأهالي وهو مقترح عملي وواقعي ويجب أن تفكر فيه الحكومة العراقية بجد، ليس بسب المخاوف التي تكتنف حالة سد الموصل (وهي على الرغم من درجة الثقة المقبولة في أداء السد لا يمكن تجاهلها) وإنما كذلك لأهميتة الإروائية وإمكانية إضافة طاقة هيدروليكية أخرى الى القدرة الإنتاجية للبلد، رخيصة وصديقة للبيئة.
لم يحرك الأمريكيون ساكناً من أجل إقامة سد بادوش ولكنهم ظلوا قريبين من سد الموصل ويتابعون وضعه بإهتمام. في عام 2007، تعاونت الهيئة الهندسية للجيش الامريكي في العراق مع قسم المهندسين في قيادة منطقة الخليج على إبتكار موديل ثلاثي الأبعاد لأسس السد ودعاماته يساعد على فهم بناه التحتية إعتماداً على البيانات المتوفرة على السطح ويؤدي بالتالي دورا أكثر مصداقيةً في معرفة ومعالجة ما يحدث في أسس السد ودعاماته وحوضه. وضع المهندسون في البداية نظاماً للبيانات الجغرافية وسطَّروا وصفاً دقيقاً لطبيعة الطبقات الصخرية، تمَّ تشبيكها مع نظام نمطية المياه الجوفية لوزارة الدفاع الأمريكية، وهو الأداة التي يستخدمها الجيش الأمريكي في دراساته المتعلقة بباطن الأرض، ثم عكسوا كل تلك البيانات في الموديل الثلاثي الأبعاد، قابل للدوران وتوفير مشاهد من زوايا مختلفة لأسس السد ودعاماته والحصول على مقاطع عرضية توفِّر فهماً جيداً لحجم وشكل وترتيب الوحدات الصخرية تحت السد، وتسهِّل معرفة العوامل المؤثرة على حاضر ومستقبل ظروف السد وتقديم التفسيرات الواقعية لأسباب أي تغيير في الملامح الجيولوجية والظواهر الجيوتكتونية. لكل ما سبق فإن ربط مصير سد الموصل وتوابعه الكارثية المفترضة بإقامة سد بادوش، رغم أهميته، لا يرقى الى مستوى عالِ من المصداقية والوثوق في البحث المفصل الذي شارك فيه علماء عراقيون مغتربون، كانوا على صلة بالجهات المتابعة لوضع السد، بعنوان (غموض سد الموصل الأكثر خطورة في العالم )، ونشروه في العدد 5، رقم 3، مجلة "علوم الأرض والهندسة الجيوتكتونية" البريطانية لعام 2015، وهي مجلة علمية حديثة العهد نوعاً ما، حيث صدر عددها الأول عام 2011 من قبل شركة ساينبريس، لا يوفر موقعها أية معلومات عن الجهة المالكة أو المشرفين عليها أو هيئة تحريرها سوى ما تجده على صفحتها التعريفية من أن عدد العاملين فيها بين 12 و20 فرداً. يبدو أن البحث الذي دعا الى ضروة معالجة التسرب وتطوير تقنيات وآليات المراقبة والصيانة وإكمال إقامة سد بادوش بتصميمه الأساسي ووضع خطة طوارئ وطنية لمواجهة الكارثة المحتملة كان بمثابة الشرارة التي ألهبت، بقصد أو بغير قصد، أوار المخاوف على الصعيد العالمي. وللحديث صلة أخرى
مقالات اخرى للكاتب