وصل الوفد النرويجي (تألف من أربعة موظفين من الخارجية النرويجية وطبيبة نفسية ومترجم) في يوم مشمس من شهر أغسطس/آب، وأول خطوة قام بها النرويجيون أنهم تجولوا في وسط المخيم، وكان وقع تلك الجولة حسنا على نفوسنا، أقصد أن يتجول وفد أوروبي في المخيم، ويعيش بؤسك ثم ينتشلك منه بعد أيام!
كنت أشعر بأن دوري في الخلاص قد أزف، بعد خلاص اللآلاف من نزلاء المخيم قبلنا، قلت : يكفي ثلاث سنوات بددها بؤس لامعنى له في صحراء آل سعود، ناهيك عن العزل والجحود الذي لايليق بنا نحن العراقيين، من الجار المسلم العربي .
وبينما كنت أتبع خطوات الوفد النرويجي في شوارع المخيم، أرى إلى صفحات الوجوه والعافية التي تكسيها والرحمة التي لاتفارقها، تجمع عدد كبير من اللاجئين للسلام عليهم، إن بالإشارات أو باللغة الإنجليزية، وأثناء ماكان أعضاء الوفد يتجولون في السوق، قدم اليهم باعة الحلوى بعضا من منتجاتهم المحلية التي يصنعونها فتذوقها هؤلاء، ولما استطعموها رفعوا أيديهم تحية وعرفانا، ثم مدوا أيديهم إلى جيوبهم فامتنع البائعون عن استيفاء المبالغ دلالة على كرمهم، وأذكر أن مئات من اللاجئين أحاطوا بأعضاء الوفد، وأخذوا يقتربون منهم، كأنهم نزلوا على مخيمنا من السماء.
تحدث عدد من اللاجئين إلى الوفد تحت نظرات العسكر السعودي الطاردة، معبرين عن سعادتهم بتلك الزيارة، ويبتسم اللاجئون طويلا كما لو أنهم يقفون أمام عدسة (كاميرا) مراسل تلفزيوني، وإذا صح أن ذلك حدث بسبب سنوات العزلة في الصحراء العربية، فإنه يصح أيضا القول بسبب قلة الملاطفة من قبل (المضيفين) السعوديين!
النرويجيون من جانبهم كانوا لطفاء مع اللاجئين، لم يعيروا أدنى اهتمام للعصي الكهربائية ولا إلى زجر الجنود للاجئين، فمضوا يسألون عن أحوال المخيم: عن الطعام والشراب وحقوق الإنسان، وهل يحق للاجئ الدخول إلى المدن السعودية أم لا!؟
ومما أذكره أيضا أن أحد أعضاء الوفد، انفرد عن زملائه ودلف إلى صالون حلاقة، وحلق شعر رأسه فأبى الحلاق أن يستوفي أجوره إكراما للضيف!
وواصلوا التجوال في السوق وابتاعوا تحفا عربية وإسلامية.
كنت أتطلع إليهم وأقول في نفسي: تدعي الحكومة السعودية بأنها تحكم بحكم الاسلام، فأهملتنا في الصحراء سنوات، نعاني من البرد وانتهاك حقوق الانسان والكراهية، أما هؤلاء فهم مسيحيون ويهود وربما يعتنقون ديانات أخرى غيرها، جاؤوا إلينا لينقذونا من ظلم سياسي وجغرافي ، فماالفرق؟!
مقابلة الوفد النرويجي
كانت المقابلة في اليوم التالي مريحة وخالية من أسئلة الدور الثاني في المرحلة الاعدادية في وطننا!!، تلك التي تتفرع فيها الأسئلة إلى أسئلة غيرها، وتفرخ علامات استفهام تبعد الأمل بالنجاح والخلاص والعبور إلى الفصل التالي، جلسنا أشقائي وأنا قبالة رجلين من أعضاء الوفد النرويجي والمترجم العراقي في (كرفان) المفوضية، فاجأني أحد الرجلين بالسؤال الأول: سنيٌ أنت أم شيعي!؟
صدمني سؤاله وفكرت لحظتها: من أين يعرف هذا مذاهبنا!؟
اجبته مبتسما: أنا عراقي شيعي!
بادلني الرجل الإبتسامة، ثم سألني وأشقائي حول العراق والإنتفاضة وسلطة الطغيان، سألنا كذلك عن معاناتنا في المخيم، وما إذا كنا نعاني من أمراض نفسية،نتيجة للتعامل السيء من قبل السلطات السعودية، والعيش في الصحراء لمدة ثلاثة سنين تقريبا، كان الرجل يحثنا على توضيح الحالة النفسية لكل واحد منا، لتقوم الطبيبة بإجراء الفحوصات اللازمة!
في نهاية المقابلة قدمتُ لهما قصاصات من أوراق الصحف التي كنت أراسلها من المخيم، وأنشر فيها قصائد تنال من النظام الطاغي في العراق، وكانت هذه قصاصات من صحف عربية ومعارضة تصدر في لندن وسوريا، إضافة إلى شريط (فيديو) لمسرحية كتبتها عن العراق البعيد القريب، وقام بتمثيلها الصديق عبد الهادي ماهود في المخيم الجديد.غادرنا (كرفان) المفوضية بعد انتهاء المقابلة وفي صدورنا هاجس من حصلوا على جائزة دولية!إي نعم! صحيح أننالم نحصل بعد على الموافقة وقبولنا لاجئين سياسيين في النرويج، لكن المقابلة كانت مريحة، فليكن بعد ذلك مايكون! على الأقل قابلنا بشرا استمعوا إلى شكاوانا، لم يلوحوا لنا بالعصي أوالبنادق ولم يرشقونا بكلمات نابية، لقد أصغى هؤلاء إلى أيامنا السوداء ونحن نسردها بتفاصيلها المملة بدون رقيب، كانت هذه هي المرة الأولى التي نتحدث فيها بدون خوف أو وجل إلى بشر من خارج المخيم، أول مرة منذ ثلاث سنين، فانطلقنا بالحديث عن كل شيء: معاملة العسكر السعودي لنا، وانتهاكاتهم حرماتنا كبشر وسنواتنا المؤسية في الصحراء، وحدثتهم عن جحود الدول العربية والاسلامية التي لم تسأل عنا أو تتذكرنا أو تطلبنا!، ورويت لهم حكاية الإعلان المصري!كان النرويجيون يصغون ويتحدثون بلغتهم فيما بينهم، ويفهم المترجم سخريتهم فيبتسم! بعد إسبوعين أعلنت أسماء المقبولين إلى النرويج وكانت أسماؤنا أشقائي الثلاثة وأنا بينهم.
لم نصدق وصدقنا!
مقالات اخرى للكاتب