تعيش الدولة التركية الحديثة حالة من التناقض تتجلى بأمرين، الأول الحنين إلى تلك الإمبراطورية الكبيرة التي إجتاحت العالم العربي وأطرافاً من أوروبا لتتاثر بالموروث الاسلامي والطابع العربي المحافظ، ولتشكل ذلك العلم ذي الهلال الإسلامي والنجمة التركية.
اما الأمر الثاني، الإنعتاق من رقبة الخلافة الإسلامية ومحاولة تأسيس الهوية التركية الجديدة التي سنها مصطفى كمال أتاتورك منذ منتصف العشرينيات من القرن الماضي حينما نادى بعلمنة تركيا وفصلها عن إرثها العربي والإسلامي الذي شكل قالبها الحضاري على إمتداد 500 سنة.
ومابين الحنين للإمبراطوريتها العظمى والإنسلاخ عن الوجه الإسلامي برزت مطالب أخرى لهذه الدولة المثيرة للجدل وهي الإلتحاق بالركب الأوروبي والإعتراف بها ضمن المنظومة السياسية الاوربية شريطة اعادة النظر في ملف حقوق الإنسان والتسامح الديني بين مكونات الشعب التركي.
لقد عاشت الحكومات المتعاقبة في تركيا حالة من التخبط في سياستها وإدارتها للمجتمع الداخلي، فهي وان كانت ترفض احياناً النمط الأوروبي في الملابس والتعليم وأمور الحياة الأخرى، كانت أيضاً تمنع مدارس تقليدية لتعليم الدين واللغة العربية، كما بدأت بعد إقامة الدولة العلمانية بفتح مدارس بثت من خلالها قيماً جديدة في المجتمع شبه المحافظ وسمحت للمجتمع التركي لإن يُغير قشرته حتى وصل الحال إلى فرض الحروف اللاتينية في كتابة اللغة التركية على حساب الحروف العربية.
اليوم وبعد مرور 90 عاماً مازالت تركيا تحاول عبور مضيقها إلى اوروبا فلا تقدر بسبب مشاكلها الداخلية، خصوصاً الإقتصادية منها والتي جعلت من المستوى المعيشي للفرد في أسوأ معدلاته. اما سياسياً فهي تعاني من تعثر وتخبط حكومة أردوغان في معالجة الملفات السياسية الداخلية والصراع العسكري مع حزب العمال الكردستاني الذي أعلن قبل أيام عبر زعيمه عبدالله اوجلان وقف عملياته العسكرية ضد القوات التركية، ما دعا حكومة اردوغان الى الترحيب بهذا القرار.
من المؤكد ان هذا الموقف المفاجئ لحزب العمال الكردستاني التركي سيلقي بظلاله على وضع الدولة التركية لتقليص الضغوطات التي تعاني منها الحكومة بعد ان فتحت الكثير من الجبهات الداخلية والخارجية ضدها نتيجة السياسة الخاطئة لأردوغان خصوصاً تدخله في شؤون دول الجوار، لاسيما تدخله غير المعقول في الشأن السوري ودعمه للمسلحين والمتطرفين في سورية كذلك تدخله في أكثر من مناسبة في الشأن العراقي وحديثه الذي لا يخلو من صبغة طائفية تحاول زعزعة الاوضاع واثارة الفتن بين اطياف الشعب العراقي.
ومثلما لم تستطع تركيا عبور مضيقها عبر أوروبا فهي لاتقدر ان ترجع خطوات إلى الخلف لتعبر مضيقها إلى أسيا والعالم العربي والإسلامي فما زالت النظرة التركية المتعالية ولغة الباب العالي (معشعشة) في الرأس التركي الذي يُضرب فيه المثل في عدم الإقتناع . فمنذ ان وضع زعيمها اتاتورك يده على الدستور مقسماً عليه ان لاتوجد فيه عبارة عربية (Bu kitabta bir kelime Arabca yok) والمواطن التركي في حيرة من امره، فالعربية لغة مقدسة عنده تستمد روحانيتها من القرآن وهي في مفردة حديثه اليومي الذي لايفضل تغييرها رغم ضغوطات الدولة الحديثة التي أظلت الطريق.
مقالات اخرى للكاتب