قل لي من تصاحب، أقول لك من أنت، عبارة تقودنا الى التساؤل والتفكير بل والتمعن في صحتها، التسليم بهذه العبارة باعتقادي ليس منطقيا، فغالبا ما يقال ان الأشخاص الذين يتشابهون في الخصال يتاوافقون والمختلفون يتباعدون ولكن هذا الامر ليس بديهيا كون الناس المختلفين قد يتقاربون لان الاختلاف يجذبهم لبعضهم والامر واضح في باريس التي تلتقي فيها شعوب من مختلف الأديان والاجناس والاعراق ، فليس من الضروري ان تكون باقة الورد من لون واحد هى أجمل من باقة ورود متعددة الألوان .
وبما اني أعيش في باريس أتيحت لي فرصة التعرف على أناس من جميع قارات العالم، أمرمسر ومفرح بل ويغني شخصية المرء ويفتح آفاقا لمداركه على أمور كانت غائبة في مسيرة حياته، فلدى دراستي للماجستير كنت أعيش في قسم داخلي صغير في الطابق الأرضي، كنا أربعة طلاب لدينا غرفنا الخاصة ولكننا نتشارك في المطبخ، أنا وفتاة جزائرية مع صيني وآخر من مدغشقر، كانت غرفتي وغرفة الفتاة الجزائرية "فاطمة" تطل على حديقة يفصلها عن الشارع جدار واطىء ، تعرفنا جميعا على بعضنا وكانت الحياة هادئة الى اليوم الذي استيقظت فيه بعد منتصف الليل على صراخ فاطمة وهى تستغيث بي، هرعت مسرعة لمعرفة ما يحدث واذ بفاطمة في الممر تصرخ لفرط خوفها الشديد وقالت لي " لقد كنت مستلقية على السرير واستمع الى اغنية عبد الحليم وأنا نصف نائمة، واذا بشخص يتسلل من النافذة الى غرفتي وما ان رأيته حتى قمت بالصراخ مذعورة فهرب "، امر قادني الى التعجب لأنها المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا واستيقظ الشابان أيضا مستفسرين عما يجري وقاما بالاتصال بمسؤول القسم الداخلي الذي اتى متذمرا ومنزعجا لايقاظه في هذه الساعة المتأخرة، ولم يعر الامر اهتماما بل ترك الامر لحين بزوغ الفجر، أما نحن فلم نستطع النوم وما ان زارت أوائل خيوط الشمس القسم حتى خرجنا لاقتفاء أثراللص المزعوم وعلى الرغم من ان الحديقة كانت مروية الا اننا لم نجد آثارا لاقدامه وراح كل واحد منا يعتقد انه شارلوك هولمز يحلل ما حدث ولم نجد ما يقودنا الى أية استنتاج لحل هذا اللغز، ولكن المدغشقري كانت له نظريته وقال " انا اعرف ما الذي حدث "وبكل جدية وإقتناع قال " ان اللص تحول الى قطة سوداء في عتمة الليل مما سهل هربه" قلت له :" استمحيك عذرا " ، إلا أنه قاطعني قائلا " نعم، نعم، فهذا الذي حدث، انا متأكد وواثق من ذلك" ، لم يرد احد عليه وذهبنا بعدها مع فاطمة لاخبار البوليس عما جرى ، يومها رحلت فاطمة من القسم ولم يعد لها أي أثر .
المدغشقري، طالب في كلية القانون في مرحلة الماجستير، طويل القامة عريض المنكبين ذو شعر طويل أجعد يصل الى جذعه، لون بشرته أسود قاتم، ما ان يراه أي إنسان ينتابه الخوف، ولكنه كان الأكثر خوفا بيننا. اثر هذه الحكاية، تحدثت معه في أحد الأيام وعرفت انه بوذي يؤمن بالتجسيد أو قابلية تحول الشخص الى أي شيء آخر. الأمر كان مسليا بالنسبة لي ولكنه كان مؤمنا بهذا الإعتقاد وقال: عندما يموت الإنسان البوذي فهو يتحول إلى حيوان ما حسب ما فعله في حياته، قد يكون عصفورا او سحلية ويمربسبع مراحل من التجسيد، أمرمنطقي ان نتخيل اننا نعود الى الطبيعة بعد الموت.
عندما حضرت الدكتوراه، انتقلت الى قسم داخلي آخر وتعرفت هنالك على أشخاص من مختلف الأصول ومن بينهم فتاة موريتانية تدعى " أميناتا" أو النسخة الافريقية من اسم آمنة ، كانت جارتي في القسم وكانت تدرس الدكتوراه وعلى عكس ما كنت اظن ان موريتانيا تتكلم العربية، آميناتا كانت تتكلم "الولوفية " التي يتكلم بها أيضا سكان السنغال وهي بعيدة كل البعد عن اللغة العربية، والذي ادهشني أنها كانت تمقت العرب وتسميهم بالبدو الاغبياء الأثرياء. وكانت غريبة الاطواربعض الشئ فكل صباح كنت اسلم عليها ولكنها لم تكن ترد ، وفي إحد الأيام طلبت مني ألا اسلم عليها في الصباح لانها لا تتحدث مع احد في هذا الوقت. آميناتا كانت سوداء البشرة، وملامحها تفتقرالى الجمال إلا أنها كانت تهتم بنفسها كثيرا وتعتقد ان كل شبان القسم مغرمون بها، واثقة من نفسها ومن خطواتها في الحياة، وتجزم ان أرواح اجدادها تحميها من كل مكروه، قالت لي يوما : " أنني محظوظة ولا يصيبني مكروه لان أرواح اجدادي تحرسني" وكلما دخلت غرفتها كانت رائحة البخور النافذ تضايقني، لانها كانت توقد البخور دائما لارواح اجدادها احياء لذكراهم.
في مجتمعاتنا الصغيرة لدينا رؤية سوداء او بيضاء عن الديانات ولكن رؤيتي لها بدأت تختلف كونها أصبحت أكثر شمولية لتعرفي على اشخاص من ديانات مختلفة غير التي اعرفها منذ صغري والتي ورثت إحداها، ففي أمسية ما دعيت للعشاء من قبل أساتذة جامعيين، وتناولنا موضوعات شتى منها ألديانات كما هو المعتاد في الحوارات بين اشخاص من أصول ومعتقدات متعددة في هكذا مناسبات، واكتشفت أن محدثتنا الاستاذة البرازيلية تؤمن بما يسمى الروحانية، وهي ديانة برازيلية افريقية وصل الى البرازيل في فترات العبودية ويعتنقها الكثيرون من البرازيليين الذين يؤمنون بالظواهر الخارقة التي من خلالها يتصل الموتى من العالم الاخر بأقربائهم واصدقائهم الأحياء. قالت لنا هذه الاستاذة انها تؤمن بهذه الديانة منذ صغرها، إذ كانت تعلم أن والدتها وسيطة بين أرواح الموتى واصدقائهم، وهي لاتنفك عن فعل ذلك الى يومنا هذا.
مهما كانت ديانة الشخص أو مبادئه ومستوى تعليمه وثقافته، فهو يحاول دوما البحث عن شيء لتهدئة روحه في هذا العالم المادي الذي بات فيه كل شيء يخلو من قيمه المعنوية .. وآخر المستجدات المعلوماتية ان الأشخاص المتدينين بديانة ما، هم الأشخاص الأكثر سعادة من غير المتدينين، وان 17 بالمائة منهم يعيشون حياة أطول عن غيرهم.