التعبئة الأموية ضد الثورة
حينما ينهض ثائر بمستوى الحسين {ع} وبحجم ثورته , لا بد أن تستعد السلطة بكل قواها لإجهاض تلك الثورة , وليس كما صور التاريخ خروج الحسين {ع} من المدينة بتلك العائلة القليلة العدد , ويتوسل الناس في الطريق أن ينصروه , ويسال القادمين من جهة العراق عن رأي الشيعة في ثورته , وهل سيقفون معه أو ضده .. واليك بعض الاستعدادات من كلا الطرفين ..
مراسلة أهل البصرة : المدينة الوحيدة التي كاتبها الحسين {ع} هي البصرة .. كتب إلى رؤساء الأخماس وأشرافها، وأشهرهم صهر أبيه يزيد بن مسعود النهشلي زعيم بني تميم بالبصرة , والأحنف بن قيس , والمنذر بن الجارود الذي غدر برسول الحسين {ع} وسلمه إلى ابن زياد الذي قام بقتله .( ).. واستخلّف أخاه عثمان على البصرة وتوجه نحو الكوفة , هذه الإجراءات الأولية إداريا وعسكريا , لتطويق الثورة الحسينية ..( ). تحفّزهم للتحرّك ضد الحكم الأمويّ.
ويُضافُ الى ذلك أنّ البصرة آنذاك كانت تحت سيطرة وال قويّ وإرهابي مستبدّ هو عبيد الله بن زياد الذي هيمن على إدارة أمورها، وأحكم الرقابة الشديدة على أهلها، وزج في السجون بعض الذين يخشاهم في مساندة الحسين {ع} ..في وقت كانت الكوفة قد تراخت أزمّة أمورها بيد وال ضعيف يميل إلى العافية والسلامة هو النعمان بن بشير، فكان الشيعة في الكوفة أقدر على الحركة والفعل من الشيعة في البصرة عموماً، مما قد يفسّر سبب مبادرة أهل الكوفة وبهذا الكمّ الكثير إلى المبادرة في الكتابة إلى الإمام{ع} ودعوته إليهم، في وقت لم تصل إلى الإمام{ع} رسالة من أهل البصرة يدعونه فيها إليهم أو يظهرون فيها استعدادهم لنصرته .( ).
فبادر الإمام إلى الكتابة إلى أهل البصرة عن طريق أشرافها ورؤساء الأخماس فيها، لأنَّ أهلها ـ عدا خُلَّص الشيعة منهم ـ لا يتجاوزون أشرافهم في اتخاذ موقف وقرار، فكان لابدَّ من مخاطبتهم عن طريق أشرافهم ورؤساء الأخماس، وإن كان بعض هؤلاء ممّن يميل إلى بني أميّة، وبعضهم ممن لا يؤتمن، وبعضهم ممن لا تتسق مواقفه باتجاه واحد .أي رؤساء الأخماس. ولعلّ الإمام{ع} أراد إلقاء الحجة على الجميع...
خلال المدة التي قضاها الإمام في مكة لم يظهر من الأمويين أي إجراء عسكري عنيف ضد الإمام {ع} ، ولعل ذلك بسبب ازدحام مكة بالحجيج، ولأن الإمام عليه السلام كان يتحرك محاطاً بحماية من أنصاره وأهل بيته، أو لأن الوالي الأموي لم يكن يملك قوة عسكرية كافية للاصطدام بالإمام {ع} مع ذلك فإن هناك من الدلائل التاريخية ما يكفي لإثبات أن الأمويين كانوا عازمين على اغتيال الإمام الحسين عليه السلام في مكة، حتى ولو أخّروا ذلك إلى ما بعد انقضاء موسم الحج، وبعد أن تفرغ مكة من الوافدين، ممّا سرّع خطوات خروج الإمام {ع} من مكة, ووصلت معلومات للإمام إن السلطة الأموية أرسلت قوة عسكرية متخصصة بالاغتيالات , لتنفذ عملية اغتيال له {ع} حتى لو كان متعلقا بأستار الكعبة .( ). .....
انقسم موقف الصحابة والتابعين الذين التقوا الإمام{ع} وحاوروه وطرحوا عليه اقتراحات ومواقف إلى عدة اتجاهات وميول،... تتراوح بين الاستسلام للأمويين , أو الفرار من وجههم لعدم وجود كفاءة ثورية عندهم , وآخرون هربوا وضيعوا أنفسهم في الأرض وبلاد الله بانتظار حصول تبدل في موازين القوى بين الإمام الحسين {ع} والأمويين من أجل إحراز نصرٍ مضمون , كل هؤلاء غير محسوبين على الشيعة ..! فلا نعتبر كل متهاون أو خائف من الشيعة , لان هذه الغاية الإعلامية أرادها الحزب الأموي في تشويه شيعة أهل البيت {ع}..
حتى اقرب المقربين أليه كأبناء أخيه محمد بن الحنفية , وأبناء عمومته بني العباس كانوا يأملون أن تحدث حركة الحسين {ع} انتصارا ميدانيا , وتضعضع أركان الدولة الأموية , فيعلنوا موقفهم ومساندتهم للثورة , هؤلاء أمثالهم بالآلاف , لا موقف لهم ولا مأثرة , ولكن نفاقهم وتلونهم يجعلهم يتصيدون المواقف المحسومة فقط .. حتى ابن الحنفية اقترح عليه في المدينة قبل خروجه إلى مكة , خطة مضمونها أن يحشد عناصر القوة العسكرية والشعبية من أجل التأثير في ميزان القوى مع الدولة الأموية، بدعوة الناس إليه ولو بالتنقل من بلد إلى بلد، ومن جبل إلى جبل، انطلاقاً من المدينة إلى مكة إلى اليمن، وإلا فإلى الوديان والجبال والبوادي وهكذا..( ).
يبقى موضوع عبد الله بن جعفر ومحاولة وساطته بين عمرو بن سعيد الأشدق والإمام {ع} في محاولة منه تحقيق أمان للإمام في مكة , اعتقاداً منه بأن سبب الثورة هو عدم الأمان وتهديد الأمويين للإمام {ع} بالقتل، لكن المحاولة فشلت لإصرار الإمام على ما قرّره والأمان الأموي في رسالة الأشدق إلى الإمام كان يحمل إرغاماً وإذلالاً يأباه الإمام{ع} ..( ).
الجدير بالذكر أن رواية الطبري للوساطة تنسب رسالة الأشدق إلى عبد الله بن جعفر مع ما فيها من سوء الأدب والتطاول على الإمام {ع} مما لا ينبغي أن يصدر من موالٍ مهذّب كابن جعفر، ونسبة الرسالة إلى الأشدق، دون عبد الله بن جعفر، كما يؤكد عليها ابن أعثم وابن الأثير والشيخ المفيد , يدل على أن الكذب تسرب إلى تاريخ الأمم والملوك في محاولة للانتقاص من عبد الله بن جعفر، أو محاولة إثبات أن إجماع الصحابة لم يكن على تأييد الثورة الحسينية، وهي مدرسة الطبري في تقريب الألوان والمواقف بين الصحابة.
أما عبد الله بن عمر فتعامل مع الثورة الحسينية بموقف سلبي ، فقد رفض أصل الثورة ودعا الإمام{ع} إلى الدخول في ما دخل فيه الناس وإلى مبايعة يزيد والصبر عليه كما صبر لمعاوية من قبل ...وأنه سمع من رسول{ص} يأمر الناس بنصرة الحسين {ع} ، وسمع ابن عباس يروي حديثاً مشابهاً عن النبي{ص} وسمع الإمام الحسين{ع} يطلب منه أن ينصره( ).. رغم ذلك قال كلمة أصبحت منهجا فكريا للمذاهب الإسلامية إلى الآن.. ( ).
ومع ذلك قعد ابن عمر وتخلّف عن نصرة الإمام الحسين{ع} بلا عذر، بل دعاه إلى ترك بني أمية والقعود عن الثورة ولزوم منزله وأن بني أمية لن يقتلوه حتى ولو لم يبايع!!!
لكن ابن عمر محسوب من رجال الدولة الأموية وكان على اتصال بهم ... وقد استعمل الإغراء للإمام {ع} محاولا أن يثنيه عن نهضته .. وكان على اتصال ببني أمية وهو صاحب الفتاوى الحكومية ,وتصدى بكل قوة إلى إغراء الإمام بالمكوث في مكة لإجهاض الثورة في مهدها؟ ..
فإذا علمنا أن ابن عمر عاش في نعيم المال الأموي من أجل أن يبايع ليزيد , وأنه بايع يزيد واعتبر نكث بيعته من أعظم الغدر ..! بل كان مع معاوية ويزيد من أول الطريق، وعرض سريع لهويته التاريخية يكشف الكثير من شخصيته، فقد وصفه أمير المؤمنين علي{ع} بأنه سيء لخلق صغيراً وكبيراً كان ابن عمر يُكثر الحديث عن الرسول {ص} ويُكثر في الفتيا، ويُخطئ في أخطاءً فاحشة، وقد كشفت عائشة عن كثير من اشتباهاته في الرواية والفتيا 61.( )..
الشرارة في زمن معاوية
متى بدأت حركة الإمام الحسين {ع} ..؟ هل انطلقت الثورة كما صورتها الأجهزة الإعلامية بعد موت معاوية , أو هناك ثورة تغلي في الواقع السياسي والاجتماعي يقودها الحسين{ع}..؟.
المصادر التاريخية تقول إن حركة الحسين {ع} والتحضيرات لثورته ابتدأت في زمن معاوية , وكانت السلطة تعرف جميع تفاصيل وشخصيات المعارضة والقادة ,يعرفون إنهم كانوا مصممين لإسقاط مشروع السلطة الأموية , بأي طريقة ومهما كان الثمن , ولكن بموت معاوية سنحت الفرصة بشكل أفضل , في هذه المتابعة التاريخية يتبين إن الحركة الثورية الشيعية بقيادة الحسين {ع} أقدم مما صورها لنا المؤرخون ..
روى ابن أعثم الكوفي في كتاب في الفتوح قال : خرج معاوية من منزله إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر ابنه يزيد في خطبته وقال : من أحق بالخلافة من ابني يزيد في فضله وهديه ومذهبه وموضعه من قريش؟ {{والله إني لأرى قوماً يعيبونه ، وما أظنهم بمقلعين ولا منتهين حتى يصيبهم مني بوائق تجتث أصولهم }}...!! فليربع أولئك على ضلعهم من قبل أن تصيبهم مني فاقرة لا يقومون لها ، فقد أنذرت إن نفع الإنذار ، وبينت إن نفع البيان ، ثمّ جعل يتمثل بهذه الأبيات ويقول :
قد كنتُ حذّرتك آل المصطلق
وقلت يا عامر ذرني وانطلق
إنّك إن كلفتني ما لم أطـــــق
ساءك ما سرّك مني من خُلق
دونك ما استسقيته فاحس وذق
ثمّ ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسين بن عليّ وقال : والله لئن لم يبايعوا ليزيد لأفعلن ولأفعلن ... ثمّ ذكر اجتماعه مع عائشة وما جرى بينهما ممّا لا يعنينا ذكره ..( )..{{ صورة واضحة أن معاوية يمتلك معلومات مؤكده إن الحسين{ع} لم ولن يبايع .. وحشر اسمي عبد الرحمن بن أبي بكر , وعبد الله بن عمر لذر الرماد في العيون , ولغة التهديد تؤيد ما ذهبنا أليه ولا تعليق على نص يقول فقد أنذرت إن نفع الإنذار ..}}..
ويستمر ابن اعثم في سرد الأوضاع السياسية في المدينة المنورة , وفي العراق ضد الحكم الأموي , وان السلطة تتوقع يوما بعد آخر إن هناك أيام حمراء ستأتي من الشيعة الذين يقودون المعارضة .
وأرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير فأخبر أنّهم قد مضوا إلى مكة ـ وذكر غيره إن الحسين أيضاً خرج إلى مكة
قال ابن اعثم : فسكت ساعة يفكر في أمرهم ، ثمّ أرسل إلى عبد الله بن عباس فدعاه ، فلمّا دخل عليه قرّب مجلسه ثمّ قال : يا بن عباس أنتم بنو هاشم وأنتم أحق الناس بنا ، وأولاهم بمودتنا ، لأننا بنو عبد مناف ، وإنّما باعد بيننا وبينكم هذا الملك ، وقد كان هذا الأمر في تيم وعدي فلم تعترضوا عليهم ، ولم تظهروا لهم من المباعدة ثمّ قتل عثمان بين أظهركم فلم تغيّروا ، ثمّ وليت هذا الأمر فوالله لقد قرّبتكم وأعطيتكم ورفعت مقداركم ( أقداركم ) فما تزدادون مني إلاّ بُعداً ، وهذا الحسين بن عليّ قد بلغني عنه هنات غيرها خير له منها ، فاذكروا عليّ بن أبي طالب ومحاربته إياي ومعه المهاجرون والأنصار ، فأبى الله تبارك وتعالى إلاّ ما قد علمتم ، أترجون بعد عليّ مثله؟ أم بعد الحسن مثله؟( ).
هذه الرواية تبين إن ابن عباس كان له قرب وحضوه عند معاوية , وليس سهلا أن يدنيه ويقرب مجلسه دون خدمات يقدمها ابن عباس للدولة الأموية , وقد بقي ابن عباس على هذا الخط , انه يماشي بني هاشم , ويتردد على الاموين من جانب آخر ..!!.
قال : فقطع عليه ابن عباس الكلام ثمّ قال : صدقت يا معاوية نحن بنو عبد مناف ، وأنتم أحق الناس بمودتنا وأولاهم بنا ، { لاحظ هنا ..! متى كان الأمويون أحق الناس بمودة بني هاشم ..؟} وقد مضى أوّل الأمر بما فيه فأصلح آخره فإنّك صائر إلى ما تريد ، وأمّا ما ذكرت من عطيّتك علينا فلعمري ما عليك في جود من عيب.{ يعني أنت تجود علينا ... ويعني نفسه كان يقبض الهبات والأموال من معاوية لموقفه المتخاذل من ثورة الحسين {ع} ...}.
وأمّا قولك : ذهب عليّ أفترجون مثله؟ فمهلاً يا معاوية رويداً لا تعجل ، فهذا الحسين بن عليّ وهو حيّ وهو ابن أبيه ، واحذر أن تؤذيه يا معاوية ، فيؤذيك أهل الأرض ، فليس على ظهرها اليوم ابن بنت نبيّ سواه.{ هذه لو صحت فهي للمجاملة , رغم انه لم يدافع عن ابن عمه علي بن أبي طالب {ع} واكتفى بكلمة هذا حسين ابن أبيه واحذر أن تؤذيه ... يعني أرجوك لا توقعنا بإحراج مع بني هاشم وشيعة علي ..! ... ولا يوجد موقف عقائدي في هذا الحديث , ولم يرد على معاوية بموقف رجولي يشعره بانتمائه لمدرسة علي بن أبي طالب {ع} ..!.
فقال معاوية : إنّي قد قبلت منك يا بن عباس.قال : ثمّ رحل معاوية إلى مكة ورحل معه كافة أصحابه وعامة أهل المدينة وفيهم عبد الله بن عباس » ( )..
ويبدو ان العلاقة بين معاوية وابن عباس علاقة حميمة واليك بعضا من المجاملات الشرعية بينهما , لذلك سموه حبر الأمة ,{ وهو منصب رسمي لوعاظ السلاطين} وهو الوحيد من بني هاشم ممن يؤخذ منه في الحديث والأحكام دون بني عمومته لعلاقته بمعاوية ...
في العبارة : ورحل معه كافة غالى مكة , فيهم عبد الله بن عباس ولكن لا يعني أنّ عبد الله بن عباس ممّن خرج مع معاوية في ركابه كما قد يتوهم ذلك. بل كان خرج منفصلاً عن معاوية { لاحظ النص السابق , يريد المؤرخ أن يبعد الشبهة عن ابن عباس بأنه رافق معاوية في حجته إلى مكة ,,! ولكن كاتب آخر يقول إنهما كانا معا }
حديث رواه أحمد في مسنده بسنده عن مجاهد عن ابن عباس : « أنّه طاف مع معاوية بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلّها ، فقال له ابن عباس : لم تستلم هذين الركنين ، ولم يكن رسول {ص} يستلمهما؟ .. فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً ، فقال ابن عباس : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فقال معاوية : صدقت. ( ).
هذا غيض من فيض من التحضيرات التي مارسها معاوية , وتوزيعه الأموال على المقربين من البيت الهاشمي , لشراء ضمائرهم وإبعادهم عن الخط الحسيني , وعدم مشاركتهم في الثورة الحسينية , وضمان نجاح خطة البيت الأموي في وصول يزيد إلى السلطة ..
يتبين من حديث معاوية الذي مر لاحقا مع ابن عباس , إن شرارة الثورة كانت في زمن معاوية , لذلك حينما كاتب شيعة العراق للحسين {ع} لا يعني أنهم هم الذين دعوه ليأتي أليهم للكوفة , بل كانت الأمور معدة , والتحضيرات مستكملة , أن يسير الحسين {ع} على نهج جده وأبيه في أصلاح الخلل الذي أحدثه التيار الأموي في الأمة ...( ).
العلاقة بين ابن عباس ومعاوية
يظهر من المصادر إن هناك علاقة حميمة كانت بين معاوية وعبد الله بن عباس , والملفت للنظر إن ابن عباس هو الرجل الوحيد من بني هاشم , يعتمده الأمويون والعباسيون في نقل الأحاديث ,على حد سواء .
فقد دار بينه و بين الطغاة معاوية وعمر بن العاص محاورات ورسائل , نحن لا نريد أن نلقي التهم جزافا لهذا الرجل , إلا بمقدار ما يؤيد بحثنا علاقته بالسلطة الأموية من جانب ,وبأهل البيت{ع} من جانب آخر ... وقد بينا عن حالته في كتابنا هذا .. وسأورد بعضا من تلك العلاقات التي تتعلق بالمقام ..
ورد عن ابن عباس انه تبادل الرسائل مع معاوية وهو بعد في ولايته على البصرة في أيام الإمام الحسن الزكي{ع} حيث كان جواسيس معاوية في المصرين، الكوفة والبصرة ـ لإفساد الناس على خلافة الإمام الحسن{ع} ..( ).. فكان ابن عباس ، قد بلغه ذلك فصار يقظاً حذراً، اتخذ بطانة ممن يخشون الله تعالى، يخبرونه بما يحدث في البلاد من حركات مريبة .. وهذه تسجل له لا عليه , لأنه كان وقتها في موقع المسؤولية ..
ولم تساوره الشكوك في استقامة الأمور ما دام العدو اللدود يتربّص الدوائر ويتحيّن الفرص وقد وافته الأخبار ان هناك جواسيس يبعثهم معاوية..!!! , وزاد في قلق ابن عباس ما بلغه من اختراق معاوية لمجتمع المصرَين ــ الكوفة والبصرة ــ فأرسل إليهما جاسوسين, رجلاً من حمير إلى الكوفة, ورجلاً من بني القين إلى البصرة, يكتبان له بالأخبار, ويفسدان الرجال, فدُلّ الإمام الحسن عليه السلام على الحميري عند لحام بن جرير, فأخذه وقتله، ودُلّ ابن عباس على القيني وكان نازلاً في بني سليم بالبصرة فأخذه وقتله, وكتب إلى معاوية أمّا بعد, فإنّك ودسّك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيّتك لكما قال أمية بن الأسكر ( )..
واستمرت المراسلات بعد صلح الإمام الحسن {ع} كما ينقلها كتاب نهاية الأرب ٣/٣٥٣، وكتاب المحاضرات ج ٢/٥٧، والكنز المدفون/ ص٢٨. وهذا جعل جسور تواصل بين الطرفين ..
إلى هذا المستوى من العلاقة المتطورة , لا تهمة لنا على الرجل , وليس من حقنا ان نرميه بخيانة الإمام المعصوم ... ولكن ما رأيك بما ورد بعد تلك الفترة ...؟.
* * *
خاصة في كتبه إلى يزيد وعبد الملك بن مروان وابن الزبير .. رغم إني أقول إن ابن عباس لم يكن عميلا لهم ولم تكن صلاته مع أولئك الجبّارين، صلات مودة تستدعي أن يكتب إليهم رغبة في مال أو جاه، بل على العكس، فقد كان كارهاً لهم مبغضاً لهم، غير أنّ قسوة الظروف أرغمته أن يكتب إليهم جواباً يبين ميله إلى التهدئة ..!! بل الوقوف إلى جانب السلطة والتخلي عن الحسين {ع} ونصرة ثورته ...كما في:كتاب يزيد إلى ابن عباس في أمر الحسين عليه السلام وجوابه..
روى سبط ابن الجوزي في (التذكرة) ..قال الواقدي: ولمّا نزل الحسين{ع} مكة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس: أمّا بعد، فإنّ ابن عمك حسيناً وعدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكة مرصدَين للفتنة, معرّضين أنفسهما للتهلكة. فأمّا ابن الزبير فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف غداً, وأمّا الحسين فقد أحببت الأعذار أليكم أهل البيت , ممّا كان منه, وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم, ويمنّونه الخلافة, ويمنّيهم الإمرة, وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام, وقد قطع ذلك الحسين وبتّه, وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك { فالقه فاردده عن السعي في الفرقة, وردّه عن هذه الفتنة} , فإن قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة, وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه, وإن طلب الزيادة فأضمن له ما أراك الله أنفذ ضمانك, وأقوم له بذلك, وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه, عجّل بجواب كتابي وبكل حاجة لك إليَّ وقبلي والسلام. ( )..
هذه الرسالة تدفعنا للبحث عن السر في اختيار يزيد لابن عباس , فلا بد أن تكون هناك علاقة وركون وثقة مشتركة ومصالح لدى الطرفين في تطوير العلاقة , وكلمة يزيد في آخر الرسالة , واضحة جدا حين يقول :" وبكل حاجة لك قبلي والسلام " فهي كلمة تذكر ابن عباس بمصالحه المالية أو العقارية التي تدخل تحت عنوان الحاجة " ..!
قال السبط في (التذكرة): (فكتب إليه ابن عباس: أمّا بعد، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة, فأمّا ابن الزبير فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه, يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره يوري علينا وري الزناد, لا فكّ الله أسيرها فأرى في أمره ما أتيت رأيه." وهي كلمة تحريض ضد عبد الله بن الزبير " ثم ينتقل إلى الحسين {ع} وأمّا الحسين فإنّه لمّا نزل مكة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه, سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش, فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به,{ وهذه كذبة من ابن عباس على الحسين عليه السلام , لأنه ليس هذا السبب الذي حمل الحسين{ع} على الخروج من المدينة ..
وقال : وسألقاه فيما أشرت إليه, { ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة, ويطفئ به النائرة, ويخمد به الفتنة, ويحقن به دماء الأمّة} , فاتق الله في السرّ والعلن, ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة, ولا ترصده بمظلمة, ولا تحفر له مهواة, فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه, وكم من مؤمّل أملاً لم يؤتَ أمله, وخذ بحظك من تلاوة القرآن ونشر السنّة, وعليك بالصيام والقيام, لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها, فإنّ كلّ ما شغلت به عن الله يضرّ ويفنى, وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى والسلام)( ).
إذن الرجل مكلف من يزيد في لقاء الحسين {ع} هذا هو سبب لقاء ابن عباس مع الحسين {ع} في مكة , باعتبار قوله : لعل الله يخمد الفتنة فحركة الحسين {ع}( فتنة في عرف ابن عباس) , وسيقوم هو بوأدها ..؟ ثم الدماء التي قرر أبو عبد الله {ع} أن يسترخصها في سبيل الله , سيحافظ عليها ابن عباس إكراما ليزيد ..؟.
هذه صورة الكتابين, وقد رواهما السبط عن الواقدي وعن الكلبي كما ذكرهما, وروايته أتم ممّا رواه ابن سعد والطبري فضلاً عن المتأخرين الّذين أخذوا عنهما. ويبدو أنّ السبط حصل على بعض كتب الواقدي وهشام بن محمّد الكلبي, كما يبدو أنّ إختزالاً متعمداً عند ابن سعد والطبري.
وإلى القارئ صورة ما ذكره ابن سعد في طبقاته: قال ابن سعد في (الطبقات): (وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة: ونحسبه جاءه رجال من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة, وعندك علم منهم خبرة وتجربة, فإنّ كان فعل فقد قطع واشج القرابة, وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه, فاكففه عن السعي في الفُرقة.{ لاحظ النص هنا .. فاكفه عن السعي في الفرقة } ولم يرد على هذا النص ابن عباس ..( ).
وكان رد ابن عباس: إنّي لأرجو أن{ لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه} ولست أدع النصيحة له فيما يجمع الله به الألفة, ويطفي به النائرة.... فهو يتمنى عدم نهوض الحسين {ع} ولذلك لم يساند الحسين ولم يقف موقفا مشرفا معه , بل جميع بني العباس تأثروا بموقف جدهم وزعيمهم عبد الله بن عباس ولم يشارك احد منهم في ثورة كربلاء ...
ودخل عبد الله بن عباس على الحسين {ع} فكلّمه ليلاً طويلاً, وقال: أنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة, لا تأتي العراق, وإن كنت لابدّ فاعلاً فأقم حتى ينقضي الموسم، وتلقى الناس وتعلم على ما يصدرون ثمّ ترى رأيك ــ وذلك في عشر ذي الحجة سنة ستين ــ).
وهناك رواية مكتوبة في بعض المصادر تبين ان عبد الله بن الزبير كان يعرف عمالة ابن عباس للأمويين ... اليك النص :...قال سبط ابن الجوزي: (ذكر الواقدي، وهشام، وابن إسحاق وغيرهم، قالوا: لمّا قتل الحسين{ع} بعث عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن عباس ليبايعه وقال:-{ أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر وقد علمت سيرتي وسيرته, وسوابق أبي الزبير مع رسول الله {ص}وسوابق معاوية. فامتنع ابن عباس، وقال: الفتنة قائمة وباب الدماء مفتوح, وما لي ولهذا, إنّما أنا رجل من المسلمين. فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فكتب إلى ابن عباس) أي شكره على موقفه لمساندته لحكم يزيد .( )..
وروى البسوي بسنده عن شقيق بن سلمه، قال: (لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب {ع} ,ثار عبد الله بن الزبير, فدعا ابن عباس إلى بيعته, فامتنع ابن عباس وظنّ يزيد بن معاوية أنّ امتناع ابن عباس تمسكاً منه ببيعته فكتب إليه...)
حين ولغت السلطة الأموية في دماء آل البيت {ع} ودماء المسلمين عامة , أصبح موقف ابن عباس حرجا جدا مقابل ما جرى على أبناء عمومته .. واليك الرسالة تفضح الموقف ..
قال: (كتب عبد الله بن الزبير إلى ابن عباس في البيعة فأبى أن يبايعه, فظنّ يزيد بن معاوية أنّه إنّما أمتنع عليه لمكانه, فكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس...) ولمّا كانت روايات الرواة لهذا الكتاب تتفاوت في بعض الألفاظ, فأنا اخترت للقارئ رواية الطبراني التي إختارها الهيثمي في (مجمع الزوائد), ونقلتها بلفظه, لأنّ المطبوع من (معجم الطبراني) فيه تصحيف لبعض الألفاظ مخرج للمعنى, ولم يتنبه إليه محقق الكتاب.( ).
وإليك نسخة ما كتب به يزيد وما أجاب به ابن عباس برواية (مجمع الزوائد) بعد تصحيح الأخطاء المطبعية فيه: قال: (فكتب يزيد بن معاوية: أمّا بعد، إنّه بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته ليدخلك في طاعته فتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً, فامتنعت عليه, وانقبضت, لما عرفك الله في نفسك من حقنا أهل البيت, فجزاك الله أفضل ما جزى الواصلين عن أرحامهم, الموفين بعهودهم, "ومهما أنس من الأشياء فلن أنس برّك وصلتك وحسن جائزتك التي أنت أهلها, في الطاعة والشرف والقرابة لرسول الله {ص} " , فأنظر مَن قبلك من قومك ومن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله, فخذّلهم عنه, فإنّهم لك أطوع, ومنك أسمع منهم للملحد والخارق المارق والسلام.
فكتب ابن عباس إليه: أمّا بعد، فقد جاءني كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزبير إياي للذي دعاني إليه, وإنّي امتنعت عليه معرفة لحقك, فإن يكن ذلك كذلك فلست برّك أرجو بذلك ولكن الله بما أنوي به عليم. وكتبت إليّ أن أحثّ الناس عليك وأجذبهم عن ابن الزبير فلا, ولا سروراً ولا حبوراً, بفيك الكثكث ولك الأثلب ، إنّك العازب إن منّتك نفسك, وغنّك لأنت المفقود المثبور. وكتبت إليَّ بتعجيل بري وصلتي,{{ فاحبس أيّها الإنسان عنّي برّك وصلتك, فإنّي حابس عنك ودي ونصرتي. ولعمري ما تعطينا ممّا في يدك لنا إلاّ القليل, وتحبس منه الطويل العريض لا أباً لك.}}
أتراني أنسى قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب, مصابيح الدجى ونجوم الأعلام، وغادرتهم خيولك بأمرك, فأصبحوا مصرّعين في صعيد واحد, مرمّلين بالدماء, مسلوبين بالعراء, لا مكفّنين ولا موسّدين, تسفيهم الرياح, وتغزوهم الذئاب, وتنتابهم عوج الضباع, حتى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوا في دمائهم فكفنوهم وأجنّوهم. وبهم والله وبي منّ الله عليك فجلست في مجلسك الذي أنت فيه. ومهما أنس من الأشياء فلست أنسى تسليطك عليهم الدعيّ ابن الدعي, الذي كان للعاهرة الفاجرة, البعيد رحماً, اللئيم أباً وأماً, الذي اكتسب أبوك في ادعائه له العار, والمأثم, والذلة, والخزي في الدنيا والآخرة, لأنّ رسول {ص} قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر), وإنّ أباك يزعم أنّ الولد لغير الفراش, ولا يضير العاهر ويلحق به ولده كما يلحق ولد البغي الرشيد, ولقد أمات أبوك السنة جهلاً, وأحيى الأحداث المضلّة عمداً.
وكانت الرسالة مملوءة هجوما على يزيد تبين سوء عمله وعمل أبيه ... غير ان بعض المصادر نقلت الرسالة بتفاوت في الألفاظ .. وهذا معناه انه لم يرد عليه بقسوة واهانة, وربما نقلت المصادر كلمات أخرى , وجاء كتاب ليبيضوا صفحة ابن عباس أمام التاريخ كما هي عادتهم .( ). فلمّا قرأ يزيد الرسالة قال: لقد كان ابن عباس مضبّاً على الشرّ..( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأخيراً كان آخر ما عُرف عن ابن عباس من موقف سياسي مع يزيد, ولم يكد جور السلطة الأموية ينتهي بموته, فإنّه سيأتي لابن عباس مع عبد الملك بن مروان ما سنذكره.
هذا الكتاب خير شاهد على تفجّر غيظه جُملاً حمماً, تطاير حرفُها فصكّ بها وجه يزيد حتى همّ بقتله, لولا أنّه شُغل بأمر ابن الزبير. وهو في وضعه المؤثّر المعبّر عن عظم المأساة وشدّة النكبة التي مُني بها المسلمون, لم يتعدّ عن الواقع يومئذ, كما أنّه في كتابه إستبان عظيم حزنه المتصل, فهو في حداد مستمر وبكاء دائم, وهذا حال بقية الهاشميين والهاشميات، حتى لقد روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: (ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت, ولا رؤي في دار هاشمي دخان خمس سنين، حتى قتل عبيد الله بن زياد..( ).
ويبقى كتاب ابن عباس يعطي المسلمين صورة واضحة عن مدى ما وصلت إليه الأمور من الشدّة, والمشاعر من التوتر بالنسبة لأكثر الناس حكمة, وأوفرهم علماً ..
مقالات اخرى للكاتب