ما أن إنقلب عبد السلام عارف على رفاقه البعثيين ممّن شاركوه إنقلابه الأسود في الثامن من شباط 1963 بعد أقل من عشرة أشهر على نجاح ذلك الإنقلاب الذي غيّر وجه العراق، ليضعه على أول سكّة ضياع البلد من خلال سلسلة من الحكومات الكارثية التي لم تنتهي لليوم. توقعت الجماهير ولسذاجتها من أنّ عهد السرسرية البعثيين من الذين فعلوا الأفاعيل بأبناء شعبنا قد إنتهت برحيلهم. ولم يدر بخلد البعثيين حينها من أنّهم وبجرائمهم التي يندى لها جبين البشرية قد روّضوا الغالبية العظمى من الشعب بعد أن أدخلوا الى الثقافة الشعبية "مفهوم" من كلمتين لم تكن معروفة عند الغالبية العظمى منه، ولم تكن هاتين الكلمتين وباللهجة المحكّية الّا "آني شعليه".
وقد لعبت "آني شعليه" دورا حاسما في ترسيخ البعث في عهده الثاني سلطته بقوة النار والحديد والتي أوصلت البلد الى ما نحن عليه اليوم من دمار وضياع. ومن خلال "آني شعليه" كان أي بعثي سرسري وخصوصا من أعضاء الأجهزة الأمنية أو ممّن كانوا يرتدون الزيتوني يستطيع التعدّي على من يشاء أو أن يفرض رأيه على من يريد ومتى ما يريد خصوصا على المناوئين لهم سياسيا. إذ حينها كان للزيتوني "هيبة" تمنح من يرتديه القوّة في تدمير المقابل بكلمة واحدة لا غير "سب الريس أو سب الحزب والثورة". وكان هذا البعثي السرسري يحسم أي نقاش سياسي معه بكلمتين قائلا "آني بعثي". فهل رحل السرسرية برحيل البعثيين وهل تراجع شعبنا عن "آني شعليه"؟
لا أظن أنّ "آني شعليه" قد رحلت من ذاكرة الناس أو خفّ بريقها برحيل البعث غير المأسوف عليه بل على العكس فأنها ترسّخت في العقل الجمعي كجزء من الثقافة الشعبية التي ترفض حتّى الدفاع عن مصالحها الحياتية اليومية، ولو أستخدمنا قليلا من القسوة في التعبير فأننا نستطيع القول من أن الغالبية العظمى من الجماهير ولأسباب مختلفة جعلت "آني شعليه" مخّدرا تتناوله الى جانب مخّدرات أخرى يبثّها الأعلام السلطوي والميليشياوي لِتُقبِر بها بلدها. والّا هل من المعقول أن يقول العاطل عن العمل والجائع والفقير ومن تدخل المياه الثقيلة بيته ومن لا يجد مدارس لأولاده ومن لا يملك حق الدواء، آني شعليه إن خرجت تظاهرة للدفاع عن مصالحه تلك؟ إن كانت "آني شعليه" عهد البعثيين قد تسبّبت بحروب كارثية وحصار قاس ومجاعة، فإن "آني شعليه" عهد الاسلاميين ستضع البلد بتاريخه وثرواته وشعبه ووحدة ترابه على كف عفريت، هذا إذا لم تكن قد وضعته لليوم.
بعد رحيل البعثيين كنّا نتوقع أن عهد السرسرية قد ذهب بلا رجعة، وإذا بالزيتوني يتحول الى عمامة ومنطق البعثي بتهديده الناس بشتم "الريس والحزب والثورة" يتحول بتهديد العمامة للناس بالحديث عن "المرجع" وشتم الدين. وإذا كنّا عهد البعث نموت من اجل مصالح الناس والوطن ونحن شهداء مقاومون ضد سلطة فاشية ، فأننا في عهد العمامة ونحن ندافع عن الوطن ومصالح الناس مهددون بالموت لكن ككفار لأننا بنظر العمامة نعادي "الدين"! هكذا بكل بساطة عاد البعث من جديد ولكن بلبوس جديد ولينطبق على شعبنا المثل البغدادي المعبّر "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي".
بالأمس دخل مراهق لا يجيد لليوم الف باء الدين ولا الف باء السياسة ليهدد رواد شارع المتنبي بلباسه الزيتوني أو عِمّتِه إذ لا فرق على ما يبدو بين الاثنين اليوم، ليقول وبالحرف الواحد "اليوم دوري أنا معمّم أقضي على العلمانيين وعلى كل من يشّوه الإسلام". فهل ما قاله هذا المعمّم - الزيتوني صحيح؟ نعم أن ما جاء به هذا المعمّم السرسري صحيح كون اليوم في ظل منطق الـ "آني شعليه"هو يومه الحالك السواد. ولكي لا يبتعد هذا المعمّم عن نسخته البعثية الأصلية قال وكما رفاقه الزيتونيين (ولأن انا معمّم عندما أدخل "أفوت" لا احد يتكلم عن المرجع) ليعيد لنا التاريخ من جديد مستبدلا "السيد الريس بالمرجع".
شخصيا لا أرى أية مشكلة في ما طرحه هذا المعمّم الزيتوني من أفكار ورؤى بل المشكلة تكون إن تبنى افكارا ورؤى مغايرة لما جاء به. ولكنني ايضاً أرى المشكلة في قوى وشخصيات لازالت تتوقع أن تقوم المؤسسة الدينية وخرّيجيها من أمثال هذا المعّمم بتبني مطالب المتظاهرين في دولة مدنية تعيد رجال الدين الى بيوت الله وتبعدهم عن السياسة.
وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ... "الإمام علي".
https://www.youtube.com/watch?time_continue=75&v=sy70kGs5oug
مقالات اخرى للكاتب