1-(فالله الله في دمي)
لم يكن الله عزَّ وعلى قد شرع الجهاد إلا لأغراض شريفة وللضرورة القصوى. وكانَ قمعاً لأعداء الله ونصرة للدين ولأولياء الله الصالحين, وإعلاء لكلمة الأسلام, وهديُ البشر للتوحيد وعبودية الله ,وسعياً لتحقيق العدل وسعادة الخلق . ولم يكن قتلاً للأبرياء و لنساءٍ وشيوخٍ وأطفال . ولم يكن إحلالاً لسفك دم من يخالف في رأي, أو يتَّبِع مذهباً او ديناً آخر, حتى لو كان كافرأ . فالدين بالأقتناع لا بالسيف.ولكن من ظلَّ طريق الهداية ودين الإسلام وفكره الوسطي حللَ ما حرَّمَ الله. ففكرهم الظلامي حللَ الدمَ والمال, بعد أن هجروا مفاهيم الدين الأسلامي السمح, فتصرفوا وأباحوا لأنفسهم مالم يُبِحه الله لهم. ولم يكن هذا وليد هذا العصر, بل نشأ مع نشوء حركة الخوارج, كما ذكرت سابقا في البحث الموسوم إبن رشد وما يجري اليوم
و تحدثت فيه عن الفيلسوف إبن رشد وفلسفته الرشدية في الفكر الحر, وتأويل النص بتوائم العقل والحكمة, ومقولته المشهورة الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة, وعن حرية الفكر وعدم تمكن الطغاة منع إنتقالها وتفشيها بين البشر, عندما قال للأفكار أجنحة تطير بها.وكيف رُميَّ هذا المبدع الذي سبق عصره بقرون بالكفر والزندقة. ولقد أبدع المخرج يوسف شاهين في فيلم المصير في رسم صورة لفكر إبن رشد وسيرته وفكره.
ولكي نساهم في المنهج العلمي التجديدي لقراءة الأسلام قراءة تحليلية بمنهجية علمية منطقية معاصرة,نتحدث عن شخصية جديدة وعَلم من أعلام التجديد في تفسير المفاهيم الأسلامية وتحديثها .لأن الإسلام دين كل العصور, متخذين من العقل والأعتدال والوسطية طريقاً أقره ديننا ودعى اليه, رامين التحديث والأصلاح عبر التنوير العقلي ,بدل أن يبقى الفكر الأسلامي حكراً وإرثاً متحجراَ يرزح تحت نير الرؤى التكفيرية والسلفية التي تعوق تطلعات المسلمين نحو الأنعتاق والحرية .ولنساهم في هذا الجهد
المطلوب دينياً وأخلاقياً,أتحدث لكم في حلقات عن طود آخر من عمالقة الفلاسفة الذين مَخروا عبابها وجددوا وحدَّثوا في الـتأويل والتفسير,والتقرب من الله , والوجود الألاهي بفكر متجدد. وهو المتصوف الحسين بن منصور الملقب بالحلاج.
عاش الحلاج الفلسفة الصوفية وتعمق بها وبكل ما فيها من روعة وصدق وغرق في بحور النورالرباني,بعد أن درس علوم الدين على يد كبار المشايخ,ولعبقريته المفرطة تفرد عن أهل عصره ,فجدد وحدّثَّ بالمفاهيم الدينية, ونأى بذاته وفكره على أنه نسيج وحده بأفكاره الغير مسبوقة.
ولكنه قُتل سنة 309 للهجرة بسبب فلسفته وفكره المتجدد الذي عارضه ذوو العقول المتحجرة والفكر الجامد, حيث أُخرج من سجنه فجُلدَ ,وقُطعت يداه وشُوِه وصُلِب, وقطعت رأسه وأُحرِقت جثته..
ومن أهم أسباب هذا, أن إبن زنجي قال حُمِّلت دفاتراً من دور أصحاب الحلاج,فأمرني حامد- الوزير- أن أقرأها والقاضي أبو عمر المالكي حاضر فمِن ذلك قرأت:
إن الأنسان إذا أراد الحج ,أفرد في داره بيتاً,وطاف به أيام الموسم,ثم جمع ثلاثين يتيماً,وكساهم قميصاً قميصاً ,وعمل لهم طعاماً طيباً,فاطعمهم وكساهم وخدمهم, وأعطى لكل واحد سبعة دراهم او ثلاثة,فإذا فعل ذلك,قامَ لذلك مقام الحج.والحلاج يعني بهذا إن إطعام اليتيم وإكساءه والإنفاق عليه كثواب الحج الى بيت الله الحرام. - وقد سبقه في هذا الأمام جعفر الصادق عليه السلام, حيث كان له تلميذاً إسمه علي بن يقطين, وهو من أتباعه والمخلصين له . فأراد عليٌ هذا الذهاب للحج. وقد بلغه أنَّ الأمام سبقه. فجهز نفسه وحمل زاده ودراهمه ومتاعه.وتوجه شطر مكة المكرمة. وفي الطريق وجد إمرأة فقيرة ذات أيتام, فرق قلبه لهم, وأعطاهم كل ما عنده. وعاد الى أهله دون أن يبلغ مكة. ولمّا عاد الحجاج الى ديارهم جاءه رفاقه من الحجاج يزورونه ويباركون له الحج والعودة. فقال لهم بتعجب : لكني لم أذهب للحج . فقالوا له : كيف تقول هذا يا إبن يقطين وقد رأيناك في الحج تطوف حول الكعبة , وتسعى بين الصفا والمروة .أنسيت حينما أقمنا في جبل عرفات؟ وفي الواقع وكما يُروى أن علياً لم يذهب للحج . ولكن الله بعث ملكاً في هيئته ينوب عنه في الحج فكتب الله له فضيلة الحج, وذلك لأن نيته كانت متعلقةً بالحج .ولمّا ذهب الناس الى دار الأمام الصادق (ع) يهنئونه بعودته من الحج سألوه عن الحجيج وكثرتهم في ذلك العام فقال عليه السلام:
ما أكثر الضجيج وأقلَّ الحجيج ! ما حججت إلا أنا وناقتي وعلي بن يقطين-
لم يختلف ما قصده الحلاج عمّا قصده الأمام والأصل إن الأعمال بالنيات وإن الله عزَّ وجل قد يحتسب الذي أدعم وأنفق على اليتيم وكساه كمن حجَّ لمكة وطاف بالكعبة المشرفة.سيّما إن الرسول قال أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بإصبعيه الوسطى والسبابة.
ويكمل إبن زنجي حديثه فيقول:فلما قرأت ذلك الفصل ,إلتفت القاضي أبو عمر الى الحلاج وقال له :من أين لك هذا؟قال:من كتاب الأخلاص للحسن البصري.قال: كذبت يا حلال الدم,قد سمعنا كتاب الأخلاص وما فيه هذا!.فلمّا قال أبو عمر كذبت يا حلال الدم قال له حامد الوزير : أُكتب بهذا. فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج فألح عليه حامد,وقدمَ .له الدواة,فكتب بإحلال دمه, وكتب بعده من حضر المجلس فقال الحلاج:
ظهري حِمىً ودمي حرام, وما يحل لكم أن تتأولوا عليَّ,وإعتقادي الأسلام, ومذهبي السنة,فالله الله في دمي.
لم يكن قصد الحلاج ثني لناس عن الحج الى مكة. ولكنه قصد إن أجر إكساء اليتيم وإطعامه والأنفاق عليه عند الله هوكأجر الحج بنية صادقة الى مكة,وهوخير من ذهاب البعض لحج مكة لغرض شراء لقبٍ يضيفونه لألقابهم لمنافع دنيوية, ولتضليل الناس وربما بعد العودة يكونون أكثر شرّاً مما كانوا عليه.