شكل الرقص أولى ردات الفعل البشرية اتجاه المجهول، وأول ميكانزم استطاع من خلاله الإنسان إيجاد حالة من التواصل بينه وبين ظواهر طبيعية عجز عن ترويضها او إخضاعها لهيمنته، فاضطر لتقديسها، وكما يقول الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر ( الرقص هو أعلى حالات التعبير عن النفس).. فكان الرقص بمفهومه العام هو نتاج خوف وحاجة نشأت في أدبيات التجمعات البشرية البدائية قبل نشوء اللغة، واستخدم بديلا عن الصلاة.. لكن بمرور الوقت استطاعت البشرية توظيفه ليخدم غايات أخرى، تتماشى مع تطور رغبات الإنسان وحاجاته الجسدية والنفسية، ليتحول إلى فن قائم بذاته، له مدارسه وقواعده وشكل جزء مهم من التراث الشعبي لمعظم الشعوب، وبصمة خاصة وفريدة تمثل البعد القومي والديني والسوسيولوجي لتلك الشعوب، ونتاج حضاري يمكن من خلاله التواصل مع الآخر الذي يختلف عنا بيئيا وعرقيا.
من على إحدى شاشات القنوات العربية، اطل علينا طفل عراقي
جميل وظريف، في برنامج خصص للمواهب يعرض على هذه القناة، تمنينا أن يقدم شيء يليق بالعراق، حضارة وارث ثقافي عريق، وأن يُستثمر هذا الملاك الوديع لينقل نداء طفولي بريء إلى العالم من أطفال العراق، نداء استغاثة يحمل معالم ولمسات طفولية تداعب عواطف المشاهدين، تخبر الجميع عما حصل ويحصل للطفولة هنا في العراق، لكن وللأسف الشديد جل ما قدمه هو رقصة فوضوية أثارت صخب الحاضرين، رقصة تجلت فيها مرارة خيبات أملنا، وانتكاساتنا، وهزائمنا، وحروبنا العبثية، رقصة فضحت عوراتنا التي نحاول سترها، بلحانا المستعارة وخواتمنا المزيفة، تراءى لي حينها، مشاهد مدارس أبنائنا المظلمة الرطبة، وطوابير الأطفال المتسولين على أرصفة شوارعنا المهملة، والهاربين من مدارسهم ليبيعوا ( العلاليك) في الأسواق الشعبية، ليستمروا في الحياة، في هذا البلد الغني بكل شيء، الفقير بكل شيء، تمنيت أن أرى هذا الطفل العراقي، وهو يرقص رقصة تعبر عن حلم العراق والعراقيين بالسلام بالحب بالحياة الكريمة، أو أن يلقي قصيدة شعرية تخبر العالم بان هنالك بلدا يحتضر من وقع الإرهاب والفساد والفوضى، إن هناك بلدا علم البشرية القراءة والكتابة مازال أطفاله يفترشون الأرض في صفوفهم المدرسية، وتزاح بقايا أشلاء أجسادهم عن الأنظار، بخراطيم المياه بعد دوي كل انفجار .. قبل قرن من الزمان وقف الراقص الروسي العظيم نجنسكي ليرقص (رقصة الموت) وسط باريس، معلنا من خلالها احتجاجه ورفضه للحرب العالمية الأولى وما خلفته من موت ودمار، لتخلف رقصته هذه صدى كبير، ما زال عالقا في الذاكرة الجمعية لشعوب الغرب المتحضرة.. لكن عندما رقص الطفل العراقي، القادم من ارض الموت والحرمان، ارض المقابر الجماعية والقتل المجاني، ارض الأرامل والأيتام والمنكوبين، شاهده العالم وهو يرقص على أغنية (ياطابخين النومي يابيت كطيو).
مقالات اخرى للكاتب