في كل يوم نسمع المعزوفة الصباحية منذ الصباح الباكر وحتى مغيب الشمس حيث تبتدئ بموسيقى يوزرسيف بوصفها موسيقى اسلامية واعتقد بأن مجلس المحافظة سيعترض اذا وضع بائعو قناني الغاز موسيقى مغايرة لأنهم عندئذ سيتجاوزون الخطوط الحمر التي تمس قدسية المحافظة وعندها سيصدر قرار من المجلس بتحريم بيع الغاز والعودة إلى بيع الحطب والسعف .. المهم بالموضوع ما أن يمضي بائع الغاز بموسيقاه الحزينة الاسلامية حتى يأتي دور منادي آخر وهو يردد دون توقف(دبة ماي ارو خمسمية..دبة ماي ارو خمسمية) ويتلاشى الصوت شيئا فشيئا ليبدأ صوت جديد ينادي (عتيك للبيع باتري عتيك للبيع راديتر عتيكة للبيع خبز يابس عتيك للبيع مبردة عتيكة للبيع كلشي عتيك للبيع طحين حصة للبيع تمن الوجبة للبيع ) تستغرب من كثرة المواد التي يمكن ان يشتريها هذا المشتري الجوال وحين تنظر إلى العجلة التي يركبها تراها عبارة عن ستوتة او يكون راجلا ولا اعرف اين سيضع البضائع التي يمكن الحصول عليها فعجلته لاتتحمل خمسة اشياء مع بعضها فكيف يشتري غرفة نوم او غسالة او أي جهاز كبير، وهكذا يمضي أبو العتيك للبيع باشيائه غير المتجانسة ولا اعرف ماعلاقة الباتري بالطحين او الراديتر بتمن الوجبة ترى مع كم مشتري هذا الرجل يتعامل انه عالم غريب حقا.وقبل ان يتلاشى الصوت حتى تبدأ بالافق اصوات اكثر حدة وهي تنادي (من عنده نفط للبيع …من عنده نفط للبيع) غريب امر هؤلاء كان بائع النفط هو من ينادي على بضاعته للبيع والآن اختلف الموضوع فصار البائع مشتري وينادي على الناس لبيعه النفط ونسي اننا نعيش فوق بحر من النفط ،ويظل الصوت طويلا فهذا الجزء من المعزوفة مؤثر لدرجة ان بعض الناس يظلون يساومون على السعر فيما يبقى المايكرفون يكرر العبارة بصوت حاد ونافذ (يعني حتى الميت يكعد) ولابد ان يرحل حتى يأتي بائع الافرشة بسيارته الحمل الموشحة بكل الوان الطيف الشمسي ليعرض مفروشاته وهكذا يمر هذا البائع المتأخر جدا حتى نسمع بائع السمك يليه بائع الخضروات والفواكه ،وانت جالس في بيتك تصلك جميع البضائع (دليفري ) وحسب الطلب.
كل هذا استمع له يوميا وانسجم مع الصوت وكل لحن يمثل عندي آلة موسيقية وكلما يزداد عدد الباعة تتوسع الاوركسترا واعرف حينها اين وصلنا من حالة التردي وانخفاض المستوى المعاشي ،فمعزوفة الفقر اليومي في توسع مستمر وتطور كبير. بالأمس كنت جالسا في وقت الضحى وقد مسني الجوع قليلا وبقيت بين العجز والممانعة في ان اقوم بتناول شيء من الأكل لاسكت جوع بطني وبين عملي غير المنجز ،بل كنت اشتهي اكلة معينة حتى سمعت احدهم ينادي عليها كاهي للبيع وتليها كلمة اخرى لم اميزها ولكن كلمة الكاهي شغلتني جدا عن بقية الكلمات وكان النغم عذب لدرجة اني لم اصدق ما اسمع وقلت في نفسي انها اضغاث احلام ولا اعتقد ان هناك شخصا ينادي على هكذا بضاعة واعتقد ان آفة الجوع قد صورت لي هذا الشيء فأنا منذ قليل كنت اشتهي الكاهي وهاهو مفعول المشتهاية قد أثر على بقية حواسي فلا حول ولاقوة الا بالله ،ولكن الصوت بدا واضحا هذه المرة ويردد كلمة الكاهي للبيع وتليها كلمة اخرى لم اسمعها بشكل جيد ،فسرعان ماخرجت من الدار لاشتري الكاهي فتفاجأت بأن البائع ينادي زاهي للبيع وقاصر للبيع وهكذا خابت كل امالي بالحصول على اكلتي المفضلة وقفلت راجعا إلى الدار لاحصي عدد البضائع التي يريد ان يشتريـــــها هؤلاء الاشخاص فكانت دائرة الفقر تتسع لدرجة ان قواميس المفردات لم تعد تستوعب اسماء الاشياء التي تباع عندنا ،وعرفت عندها ان كل شيء في العراق معروض للبيع وحتى العراق نفسه اصبح معروضا للبيع . ولا استغرب ان يأتــــي يوما من يــنادي وطن عتيك للبيع .
مقالات اخرى للكاتب