الأفق السياسي مسدود ليس بدلالة الجمود الغبي الذي يسم مواقف السياسيين عندنا فحسب، بل بدلالة فقر قاموسهم، وعجزهم عن الإتيان بجديد في المفهوم والمصطلح الذي هو رجع صدى لعجزهم عن أن يكونوا سياسيين ناجحين.
إنهم فاشلون لا في الانفتاح على بعضهم فقط، بل في الانفتاح على لغة جديدة، لأني أؤمن بعمق أن من يغيّر لغة مجتمع هو وحده القادر على تغيير هذا المجتمع، وهم على ما بهم من ضمور روح المبادرة في الفعل وابتكار الجديد، لديهم ضمور عقلي بيّن في استحداث ألفاظ تخرجهم مما هم فيه من معركة سمجة يردد كل فرد فيها ذات اللفظ ويكرره وينوّع عليه دون كلل ولا ملل.
المصابون بالشيزوفرينيا ممن بلغوا مرحلة يسمونها بـ"التثبيت" يقضون نهاراتهم ولياليهم في ترداد كلمات بعينها يرونها مفاتيح لكنوز لا يعرفها إلاهم، إصرار مرضيّ على الإيمان بقوة كلمة يكون لتردادها فعل التعزيم الذي يباشره الساحر. لا يفعل السياسي العراقي سوى هذا: أن يعيد ما قاله أمس بانتظار أن يجلس أمام الكاميرا غدا ليقول ما سيقوله بعد غد، الذي هو ذاته ما قيل وسيقال. والكاميرا نار جهنم لا تمتلئ، والمشاهدون أدمنوا كلام هؤلاء المرضى. المشكلة ان عدوى هذا المرض انتقلت منذ زمن بعيد إلى من يسمون أنفسهم "محللين سياسيين"، وهم ـ للتوضيح ـ شلة ممن يحسنون الكلام الرميم، وتحبهم الكاميرا ويعينون زملاءنا الإعلاميين في الحصول على صغار متكلمين حاضرين لملء ساعاتنا بهجة وحبورا.
إذا أحصيت قاموس الساسة ومحللي الفضائيات فلن تخرج بأكثر من خمسين مفردة فقط، هل هناك سوى (أجندة، دستور، عملية سياسية، ديمقراطية، مكونات، طائفية، حلحلة، تكنوقراط، الحوار، الكتل، الشراكة، أغلبية، إرهاب، ماء عكر، دول الجوار، إقليم، قانون، ديكتاتورية، مؤامرات، خيارات، لحمة وطنية... الخ). كلمات لاكتها الألسن حتى باتت مزقا، خطاب ضئيل لعقول لا تريد الاعتراف بضآلتها لكن قاموسها يفضحها.
مرة كتب علي حرب مقالا يقارن فيه بين خطابين، الأول للخليفة عمر بن الخطاب "رض" عشية معركة القادسية، والثاني لصدام حسين عشية حربه مع العالم، كشف فيه عن ان خطاب الأول يكشف عن انتصاره في المعركة حتى قبل أن تبدأ المعركة، خطاب المنتصر فيه طلاقة روح وثقة واستيلاء على اللغة قبل الاستيلاء على النفوس، أما خطاب صدام فهو رغم عنترياته الفارغة، وربما بسببها، يظهره منكسرا قبل أن تلتقي الجيوش. صاحب الخطاب المحدود محدود الحول والقوة، وصاحب القاموس الضئيل بخيل الروح كحال الساسة ـ اللصوص الذين يستكثرون على أنفسهم أن يشقوا كفن لغتهم الميتة، كما يستكثرون أن ينفقوا من أموال الدولة التي هي عندهم مادة للسرقة ولإثرائهم هم وأولادهم. لا أثق بسياسي ولا برجل دين ولا بمثقف ذي قاموس ضئيل يناظر ضآلة عقله، ولسبب ما فإني كلما سمعت أحدا يتحدث عن (اللحمة) الوطنية، أو عن (بيضة) الدين، شعرت ان هناك من سيطبخ لي مخلمة من هذه الـ"لحمة" وتلك الـ"بيضة".
ولا تنسوا (الخيارات) رجاء!
مقالات اخرى للكاتب