من بغداد الى دمشق مرورا بتونس وطرابلس الغرب ومصر ، تنقلت الفتاوى السياسية خلال السنوات الماضية لتشيع ، باسم الدين ، القتل والدمار والوحشية بأبشع صورها ، ولترسم صورة مليئة بالهمجية لدين رسالته المحبة والتسامح والبناء . وراء تلك الفتاوى ، مشاريع سياسية ، دأب راسموها ومنفذوها على إستخدام الدين ورجاله ،وسيلة لخداع وتجنيد قطعان المغفلين الذين جمّدوا عقولهم وضمائرهم وتحولوا مطايا بيد تجار الدين . فتاوى بالعشرات أصدرها هؤلاء بتكفير المسلمين والدعوة الى قتلهم باسم الله والدين وبعناوين الجهاد، أغلبها صدرت من أرض الحرمين الشريفين ، تحت سمع وصمت الحكم الرسمي ، بل وبتحريك من بعض أجهزته .
اليوم بتنا نسمع من ذات الابواق الكريهة فتاوى تحرّم القتال في ذات المناطق التي أفتوا لهم سابقا بـ"الجهاد" فيها. وكما كانوا يستخدمون الروايات في تبرير فتاوى القتل السابقة ، لم تعجز كتبهم المليئة بالروايات الموضوعة عن سرد ما يفيد منها الان بتحريم هذا القتال . بالامس كنت أشاهد مقابلة تلفزيونية لاحد شيوخ الضلالة وهو يبرهن بالادلة الشرعية حرمة قتال الحاكم في سوريا مثبتنا أنه حاكم لم يحارب الشعائر ولم يمنع الدين . هكذا وبكل بساطة يكفّرون ثم يمنحون صفة الاسلام لذات الاشخاص أو الجهات . وبين التكفير والأسلمة تراق دماء عشرات الالاف من السوريين ، بهذه الفتاوى دون أن يبرر أحد من هؤلاء سبب هذا التبدل .
السياسات تتغير ، فتتغير الفتاوى ، حرام الامس يصبح حلالا أو بالعكس، وكافر الامس الذي تم تجنيد قطعان البهائم من أصقاع الارض لقتاله ، يصبح مسلما لا يجوز الخروج عليه ، مع أنه هو ذاته ، لم يكفر سابقا ، ولا هو أعلن إسلامه الان .
نفس الجوقة العرعورية التي كانت تصرخ داعية الى الجهاد ، تتبارى اليوم في الحديث عن حرمة قتال المسلم . كل ما في الامر ان السياسة السعودية تغيرت ، أو بالاحرى ، تغيّر الدور السعودي في المنطقة ولم يعد مسموحا لها المساهمة في إدارة القتل في سوريا ، فيما يركز آخرون ، في دورتهم الفتوائية الجديدة ، على تحريم قتال السعوديين في البلدان الاخرى ، وكانهم يقولون ان فتاواهم السابقة تبقى سارية على غير السعوديين . كما أن إقتصار تحريم القتال في الساحة السورية ، يعني ضمنا ان إرتكاب جرائم القتل الجماعي والفردي في ساحات أخرى كالعراق ومصر وليبيا ، ما زال يصنف في خانة "الجهاد" . فالسياسة التي توجّه هؤلاء لم تتغير في هذه البلدان ، وبالتالي فان "الموقف الشرعي" . لم يتغير .
الفتوى الدينية ، طالما كانت أداة بيد السياسيين ، تخدم مشاريعهم وخططهم ، في مجتمعات فطرية ، ما زال أغلب أفرادها يرون في رجل الدين ممثلا لله ، كلامه كلام الله ، ومخالفته معصية لاوامر الله . في ستينيات القرن الماضي اراد عبد الناصر مغازلة المعارضة الدينية الايرانية ضد نظام الشاه ، فأوعز الى الازهر بالاعتراف بالمذهب الامامي الجعفري وتدريسه في جامعته كما أنشئ دار التقريب بين المذاهب في القاهرة . وفي المراحل اللاحقة وبعد وصول رجال الدين الايرانيين الى السلطة كانت السياسة المصرية على تناقض معهم ، فاوقف تدريس المذهب الشيعي وأغلق دار التقريب ، وبات الانتماء الى المذهب الشيعي جريمة يعاقب عليها .
كثير من رجال الدين، يساهمون في تحويل الدين الى أداة سياسية ، ونجاحهم في هذا يعود الى تفشي الجهل وضعف الوعي ، وتجميد العقل لدى قطاعات واسعة من الناس ، الامر الذي يحوّلهم الى أدوات للقتل والجريمة خدمة لسياسات دول وأجهزة مخابرات إقليمية ودولية.
مقالات اخرى للكاتب