تصعد الذاكرة العراقية نحو يوم 14تموز 1958 وسط ضفتين ، الأولى ترفع نخب الثورة برومانسية وسط تصفيق لصلاحية الشعب على الأنتفاضة المورقة بأحلام الفقراء والمعدمين ،وسرعان ماتتعثر لحظة الأستغراق الحلمي على ايقاع البساطيل و صوت الرصاص لمجموعة الضباط والعسكر الذين سرقوها بنزق مدجن ، ثم أنحرفوا بها صوب مجزرة لم تزل آثارها تحكي قصة سفح الدماء والأرواح والأطاحة بالآمال... ، ثم تركوا أهلها ينظرون بسرية للقمر ،بأنتظار نزول الزعيم...! المحتشدون على الضفة الأخرى مازالوا يلعنوا ذلك القدر الذي غرر بزعيم شاب يدعى عبد الكريم قاسم ومجموعة من الضباط المدفوعين بهوى المراهقة السياسية ،لخيانة قسم الولاء للملك وشرف الأمانة ..، انهم يصفون ذلك اليوم المشؤوم بالجذر التاريخي لخراب العراق وخروجه من مشروع المدينة الفاضلة(اليوتوبيا) الى مستنقع المدينة الرذيلة (الديستوبيا) حيث تقيم الحروب الى جانب الفقر والظلم والمرض . ثورة 14 تموز او بدء موسم الخراب العراقي ، تأخذني نحو رواية {مزرعة الحيوان} للكاتب الأنكليزي جورج أورويل بأنتقاداته لفساد الثورة والحكم الشمولي، وممارسة أرهاب الدولة والقمع السياسي ، وهو ماحصل في العراق بدءا من تاريخ ثورة 14 تموز ولحد الآن . واذ تتناظر تجارب الشعوب والمجتمعات في مراحل الحلم و الظلم وكذلك في أوقات الثورة وانحرافاتها ، فأن الخيبة عادة ماتكون من حصة الجماهير التي تنفعل وتصطخب وتقدم التضحيات ولاتقبض سوى الخسائر . يقول الثائر الأرجنتيني العظيم تشي ؛ التغير يقوم به الثوار الشجعان ويحصد ثماره الجبناء والأنتهازيون . المأساة العراقية التي اشتقت زمنيا منذ يوم 14 تموز، دونت حكايا وقصص تروي حقيقة أستبدال الرموز بتضادها ، وانقلاب المفاهيم على اعقابها ،فالثورة مشروع أقصاء لبرامج الجمال والعذوبة وكل مايتصل بنقاء الحياة وبراءتها ، والتغيير طمس للضوء وسيادة العتمة وصولا الى واقع الفساد وموت الأمل ، وتموز او (دموزي) ماعاد ينهض من عالم الأموات ليأتي بالخير الوفير ، أنما هو مقبرة تهجع بها همسات الأحلام وهمهمات الألم لملايين المعذبين في بلاد الرافدين ، والحزنين ، والوجعين ، والخسارتين ،الأولى للتاريخ والثانية للراهن المكفن بخرافات الوهم الأمريكي وحصاد الأسلام السياسي . بين المعنى ، واللعنة ، تمر ذكرى 14 تموز ومازال الفقراء على سطوح بيوتهم ينظرون بخوف الى القمر بأنتظار عودة الزعيم ..!
مقالات اخرى للكاتب