مافتأنا نكيل الكلام المدبلج في الأستعمار والصهيونية والأمبريالية ،وننمق التآمر والمخططات والدسائس الأستعمارية و...غير ذلك من الكلام، التي تجبرنا أحلام في الطفولة عشناها في بطون الكتب الدراسية ،على ان نستمر بالحلم بها ،نحلم اننا جزء من أمة عربية واحدة ،تجمعها صفات ومشتركات قلما تتوفر لأمم الأرض ، وتاريخ زاهر ومنجزات لها أول ليس لها آخر وبطولات و......
لاأعرف لما عادت بقوة تخالجني هذه الأفكار وانا استقل الطائرة المصرية من بغداد متوجها ً الى القاهرة ،فلكليهما ،بغداد والقاهرة ، سحرا ً خاص في نفوس العرب رغم كل ما حصل ،لايمكن ان تسلبه أي مدينة أخرى ،وكانت اسماء لامعة من عمالقة الفكر المصري تحضر في مشاهد أعمال مدوية في مخيلتي ، ومناطق ترددت على مسامعنا كثيرا ً من خلال الأدب والفن المصري الذي يتصدر الأدب والفن العربي الحديث ، وكنت متشوقا ً لرؤيتها واقعا ً وعيانا ً ، عشرات الرؤى والأفكار المزدحمة التي لم يستوعبها الجدول الذي حاولت وضعه لسفرتي الى مصر ام الدنيا كما يقولون، سوف أزور مكان كذا وسأذهب الى مكان كذاوسأقوم و... ،وقطع مكبرالصوت داخل الطائرة خيالاتي لينبهنا اننا نستعد للهبوط .
كنت ممثل العراق الى ندوة قومية هامة تعقدها احدى منظمات الجامعة العربية في القاهرة ،وكنت أحمل كافة الأوراق الثبوتية الرسمية ، بأستثناء تأشيرة الدخول التي تكفلت بها المنظمة في رسالة رسمية ،وبالمناسبة هي منظمة محترمة من منظمات الجامعة العربية تجمع كل العرب على مشتركات تكاد تبتعد عن السياسة ،وكانت قد تعهدت بأستقبالي في المطار لتسهيل دخولي ،ولم اشك لحظة واحدة من اني سوف امنع من الدخول ، وياليت فقط أمنع من الدخول !
من الأحلام الوردية الى سجن غريب في المطار :
منعت من الدخول رغم اني أوضحت لهم اني أمثل بلادي لأجتماع هام تنظمه احدى منظمات الجامعة العربية ورغم جميع الأوراق الرسمية الثبوتية ،ودعوة المنظمة وتكفلها بتأشيرة الدخول !
بدأْت ٌ بالأتصال بوزارتي ،التي اتصلت بدورها بالمنظمة ،حيث تبين أن المنظمة قد ارسلت شخص لأستقبالي ،غير انهم لم يسمحوا له بدخول المطار ،بينما كانوا في المطار يقولوا لي انه يجب ان يأتي أحد من المنظمة لأدخالك الى القاهرة !
والى هنا رضيت بذلك على ان انتظر في المطار وأعود الى بلادي مع أقرب رحلة ، مع علمي أن كل مطار ومنها مطار القاهرة فيه فندق لأستقبال حالات المرور أو الطوارئ ، غير انهم بعد لحظات اقتادونا ، وقد اصبحنا أثنين ، حيث منعوا أستاذة في كلية العلوم السياسية في بغداد كانت تحمل دعوة من منظمة مصرية وفي طريقها الى شرم الشيخ ، وكانت تستقل نفس طائرتي .
إقتادونا الى غرفة تعرضنا فيها للتحقيق وتدقيق الأوراق وسين وجيم ثم تحولنا الى غرفة أخرى فيها شرطة من المطار حيث سحبوا منا جوازاتنا والموبايلات وأمرونا بالدخول الى غرفة أخرى ملحقة بالأولى،واحدة للنساء والأخرى للرجال ، فهمت منها انها سجن وهنا توقفت وطلبت مقابلة أي مسؤول في المطار،وذكرتهم من انهم يقومون بعمل مخزي وانهم يزجون بنا في سجن ،قلت لهم اننا نحسن اكرام وضيافة العرب وخاصة المصريين الذين عاشوا في بلادنا ولايزالون لعشرات السنين وبعضهم تزوج عندنا واستقر بالعراق ونحن نستغرب مثل هذا الفعل الشنيع ، خصوصا ً وان لكل منا صفة رسمية وجئنا بدعوة من جهة مصرية محترمة وان ما يقومون به فعل غير محترم ويبتعد عن اللياقة .
ولم ينفع ما قلت حيث وقف احدهم يحمل رتبة رائد وطلب تنفيذ الأمر والدخول الى الغرفة ، وبدأت خطواتي الى أول سجن في حياتي وآمل ان يكون الأخير ،ولو ان هذا من المستحيل ما دمت في بلاد العرب !
وصف السجن :
الباب لايجوز فتحه من الداخل ،حيث أغلق من قبل الشرطة من الخارج ،وكان صرير الباب علامة دخول أحد او نبأ جديد فتشرئب الأعناق صوبه طمعا ً في امل بالحرية ،ثم يواجهك ممر ضيق، فيه وعلى جانبك الأيمن باب المغاسل ، والتي هي الجانب المؤلم الذي يواجه الداخل الى هذا السجن الغريب ، حيث تعجب انها طافحة بالمياه الآسنة والقذارة والأبواب الداخلية لايمكن اغلاقها خلفك ،وعندما ترتب مكان لرجليك لقضاء الحاجة تبدأ مشكلة المياه ،حيث لايوجد ابريق ،بل صوندة مرتبطة بأنبوب الماء ومرمية وسط القذارة !
على الجانب الآخر هناك ثلاث مغاسل قد بنيت عليها تكلسات من الأوساخ الأسنة السوداء ، وفهمت بعد ذلك ان الذي لايستطيع ان يشتري ماء شرب فعليه ان يشرب من حنفية هذه المغاسل ،حيث لايوجد بديل آخر !
بعد إجتياز المغاسل من خلال الدهليز الضيق تواجهك قاعة كبيرة حوالي (10 × 8 ) متر ،ضلعان منها تحتوي على اسرة بطابقين ،عليها فرش وأغطية غير مرتبة وبعيدة عن النظافة والضلع الثالث يحوي اسرة بدون طابق ثانٍ وبدون فرش اتخذت كمقاعد من قبل النزلاء ، يحوي الضلع الرابع على تلفزيون في اعلى الجدار واسفل منه طاولة قذرة، والتلفزيون مثبت على قناة MBC الجنل 2 ،وكان الشئ الوحيد الذي يذكرك انك لاتزال في صالة المطار هو التبريد الذي يصل الى القاعة بدرجة بسيطة تخفف من أنفاس الأعداد الموجودة من النزلاء .
رفاق السجن ( النزلاء ) :
سلمت وجلست على أول سرير قريب من الباب ، وكأني لاأزال غير مصدق لكل ما يحدث ، وكأني لاأزال أعتقد بأني سأخرج بعد لحظات ، وتحلق بعضهم حولي مستفسرين ،وجاوبتهم بأقتضاب فلم أكن مرتاح وكانت حالتي النفسية لاتزال قلقة .
كانوا خمسة سودانيين وأربعة مصريين وليبي واردني وصيني ،وكانت قصصهم مختلفة غير ان الذي يجمعها هو الشك في الجواز أو في التأشيرة أو عدم وجود موافقة أمنية أو تشابه أسماءوماشابه ذلك !
كان الليبي أطول الموجودين مكوث في هذا السجن حيث مضى على سجنه ستة عشر يوما ً ، والبقية يتراوح بين العشرة أيام والثلاث أيام ،وكان هناك مصري ملتح يؤذن للصلاة ويصلي السجناء خلفه جماعة في الصلوات اليومية وعندما سألته كم يوم له هنا ،قال انه اليوم الرابع وسألته كيف يأكلون ويشربون ،فقال ان هناك عاملات نظافة سيأتين بعد قليل يشترين لك ماتحتاجه ولكن بسعر مضاعف زائدا ًعمولة ، وطبعا ً يظهر الشرطة وكأنهم لايعلمون شيئا ً عن هذا ولكنهم يغضون النظر عن المواد الغذائية وقناني الماء والعصير الداخلة !
قلت له ،وكنت ارغب في اجباره على التكلم ، ان هذا ظلم مابعده ظلم ،فحتى القتلة والمجرمون عندما يحبسون يوفر لهم المأكل والمشرب في السجن ،فلم ينطق بأي كلام سوى انه قال : الصبر ،ياأخي الله أوصانا بالصبر !
وكان أغرب سجين هو الصيني : كان فتى في حوالي النيف والعشرين من العمر،ويتكلم العربية بصعوبة ولايجيد الأنكليزية، وكان قد جاء الى القاهرة منذ أكثر من عشرين يوما ً ويقول انه يريد دراسة العربية والدين !
قلت له وأنا لاأزال أحمل بداخلي بعض الأنفعال : ان من الأفضل له ان يعود الى بلاده أو يبحث عن جهة أخرى غيربلاد العرب ،فسيتعرض فيها الى متاعب ،كونها تصنف اليوم ضمن الدول المتخلفة ،الدول التي لاتتمكن من الأهتداء الى طريق صحيح في الحياة ،وتبسم وهو يهز رأسه علامة الموافقة .
وبدأ الزمن يمر بطيئا ً وكانت الأفكار تزدحم في رأسي ،فكل الأحتمالات واردة حيث يغيب المنطق،وتصبح رهين أربعة جدران لاحول ولاقوة لك ،وبعد ان بدى النعاس وارهاق الرحلة يغالبني ،اجبرت على التمدد على احد هذه الفرش الرثة وانا ارتدي كامل ملابسي ،ورغم التعب فلم انم بعمق فبعد حوالي ساعتان انتبهت على صوت المصري الملتحي وهو يؤذن للفجر ،وهكذا انتهى يوم وبدأ يوم آخر في سجن المطار .
وفي الصباح الباكر حضر مسؤول رفيع من المنظمة ،قدم نفسه على انه عقيد وطلب مقابلتي وافتتح كلامه لي بقوله :
"Arial","sans-serif";mso-fareast-font-family:Arial;mso-bidi-language:AR-IQ" class="" id="yui_3_16_0_1_1436901838219_8251"- هنيئا ً ياعم لك بهذا الأهتمام من وزارتك وهذا الحب ، لقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بشأنك ، واستبشرت خيرا ولكني في نفس الوقت بدأت بالتفكير بمن ليس له أحد من هؤلاء النزلاء المساكين ، ورغم ذلك ورغم استمرار التداول مع أمن المطار بشأني فقد استمر سجني حتى الساعة الرابعة عصرا ً ،ثم سمحوا لي بالدخول الى القاهرة وأعادوا لي جوازي والموبايل ،قال لي الشرطي الذي سلمني الجواز والموبايل :
"Arial","sans-serif";mso-fareast-font-family:Arial;mso-bidi-language:AR-IQ"class=""- لقد كان واضحا ً لنا من الوهلة الأولى انك مسؤول محترم ولايمكن ان تكون غير ذلك !
عجبا ً اذن لماذا كل ماحصل ،ولكني لم أطول الحديث، شكرته وغادرت المكان غير مصدق كل مايحصل .
وكان مسؤولوا المنظمة بأستقبالي، وقد أعتذر لي المسؤول الأول فيها عما حصل بشكل مباشر في اجتماع منفرد ،ثم كرر الأعتذار في الأجتماع العام الذي ضم أغلب أقطار العرب ،والذين علموا بالحادثة ،وأصبحوا شهودا ً على ماحصل .
مقالات اخرى للكاتب