شهدت المجتمعات الاسلامية في مطلع الالفية الثالثة ظاهرة فريدة من نوعها تتمثل في تنامي مشاعر التدين لدى ابناءها لا سيما طلاب الجامعات فضلاً عن الشرائح الاخرى كرد فعل على ما تشهده العالم من انحسار في الهوية الدينية والحضارية والثقافية جراء تحديات خطيرة أفرزتها العولمة بمختلف مظاهرها ، فأصبح التدين يمثل مظهراً من مظاهر التحصين الذاتي للمجتمعات كي تحافظ على هويتها المستقلة، باكتسابها الشعور الرابط بين أبناء الدين الواحد او المذهب الواحد . وأتخذت صوراً مختلفة بعضها تنمي وتعمق الارتباط الروحي للمجتمعات بدينها ومذهبها و تثري العلاقات الإنسانية و قيم التعقل وقواعد الحوار البناء ونزعة الحفاظ على الوحدة الإنسانية، والبعض الاخر صوراً معكوسة سادت فيها قيم التشدد والعنف والثقافة البدائية وكانت نتيجتها صراعات دموية خطيرة اضحت اشد خطراً من العولمة المضادة للدين والقيم . وبدأنا نستشعر ظاهرة التدين المتنامية في أوساطنا الاجتماعية بعد إفلاس المشروع القومي والاممي، وتحولت الانظمة الاقليمية الى ادوات قمعية وبوليسية انكشف زيفها في مقارعة الاحتلال الصهيوني وانفضحت اوهام دول الممانعة الى دول مصالحة وكانت نتيجتها (ثورات الربيع العربي) التي ركبت الموجة فيها التيارات الإسلامية على اختلاف رؤاها الفكرية ومنطلقاتها الثقافية. وقد تعرضت هذه التيارات التي تبوأت مراكز السلطة والقرار في بلدانها الى ضغوط اقليمية ودولية للتدخل في شؤونها مما سلبها حريتها واستقلالها وبالتالي افرزت أشكالا مفزعة من العنف بين قوى الإسلام السياسي جعلت الكثير من الناس يتخوفون من مستقبل هذا الصراع وانعكاساته على بلدانهم والمنطقة . وهذا ما نراه اليوم في تونس ومصر وليبيا ، وما يجري في سوريا الا نموذجاً لتراجع الاسلام السياسي في المنطقة . اعتقد ان التدين والرجوع الى القيم الاسلامية التي تبنتها التيارات الاسلامية سابقاً قد تختلف كلياً عما يجري الان لانها اتخذت طريق الدعوة والخطاب والتنظيم الايدولوجي في الاعتدال والوسطية ، الا ان الانظمة الشمولية التي حكمت بالحديد لم تعطي مجالاً لهذه التيارات في المطاولة وحكمت عليها بالموت اينما حلت بالمنطقة لا بل استمرت بمطاردتها والقضاء عليها ، وتعاونت فيما بينها لانهاء عدو مشترك مما ادى الى بقاء تلك الانظمة في الحكم فترات طويلة . وبعد انتهاء عصر التعاون الامني الاقليمي اطلق العنان للتيارات الاسلامية بالتحرك في دول المحيط الاقليمي واعطاءها صفتها الرسمية مما ساعدها على تقويض انظمة الحكم في بلدانها . واليوم بعد مسيرة التدين في المنطقة نجد ان التراجع والنقمة المتزايدة عليه تنذر بالخطر ليس على الاسلام السياسي فحسب وانما على الدين كرسالة وقيم انسانية
مقالات اخرى للكاتب