من الأعلى:
يسير مهموما, لا يكاد يسيطر على ساقيه, فالخبر كان صاعقا, قد رحل مهيمن, ابنه الذي انتظره خمسون عاما, ها هو جسد متفحم, قد تم حرقه في مستشفى اليرموك, بعذر شرعي "تماس كهربائي", فلا دية له ولا تعويض.
(( كم كنت جميلا مهيمن ابني بعينيك الواسعتين, صرخاتك الأولى أفرحتني, صرخات الولادة, نعم كان صوتك جميلا, أما صرخات احتراقك فرحمني ربي ولم اسمعها)) .
عمر مهيمن فقط يوم ونصف, قد اقتطعوا حياته, جلس الأب على الأرض منكسرا (( نعم نظرات مهيمن كان فيها شموخ وحب كبير, احتضنته فاهتز كياني, بالأمس فرحا بقدومه, وألان مختنقا من رحيله, رحلت مهيمن ابني وتركتني, هل علي الانتظار خمسون سنة أخرى لتعود, عذرا يا بني لم استطع حمايتك)).
عن جهة اليمين:
هو: يبحث عن قلمه الأسود, الذي خصصه للهجاء والنقد, كي يكتب كلمات "للحبيبة", فاخذ يكتب وهو يكاد يحترق غضباً:
- أيتها الغالية, كم اكره أبوك, انه رمز للطائفية, ما ذنبي أنا أن كنت شيعيا وأنت سنية, وهل الحب يفرق بين الطوائف, هل خصصت أغاني عبد الحليم لطائفة وأشعار ألجواهري لطائفة أخرى, تبا لكل من أسس الفراق بيننا, اعرف جيدا أن الأمر ليس بيدك, أفكر كثيرا في الرحيل.
هي: تقرا وتبكي, تحبه حد الجنون, تتحسس حروفه الدافئة, من نار قلبه المشتعل, لكن ماذا تفعل, وأبوها رفضه لأنه شيعي, بل قرر تزويجها لفالح الفيتر "ابن عمها", والعرس الخميس القادم, أغلقت باب غرفتها, وغرقت في عاصفة من البكاء الطويل, وارتسمت إمامها فكرة الانتحار.
من الأسفل:
طفلان يهرولان في الشارع نحو القمامة, حافيان بثياب متسخة, ووجوه لم ترى الماء والصابون منذ أيام الطفولة الأولى.
- هذه قطعة الخبز لي, انظر أيضا وجدت كيس من الطماطة, ستفرح به أمي.
- يا الله كم أنت محظوظ, انظر لقد وجدت نصف بطيخة, وقطع من البطاطا, اليوم سيكون غدائنا رائعا, أمي تطبخ بشكل جيد, لكن ثلاجتنا فارغة.
- انظر أنها صورة كبيرة, ترى لما هي في القمامة, هل تستطيع أن تقرا ما مكتوب عليها.
- تعرف أنني اقرأ بصعوبة, لكن مكتوب هنا "حكومة المالكي ستحقق الازدهار للشعب".
فقفز الطفل الأول ليتبول على الصورة.
مقالات اخرى للكاتب