لم يقصد أبن خلدون عندما تحدث عن العصبية القبلية، ودورها في بناء الدولة والمُلك، بأنها أساس ذلك البناء؛ بل أن مقصدهمن هذا التناول كان واضحا، بأن القبيلة في هذا النوع من البناء، أداة لحماية السلطان وترصين المُلك، كقوة؛ سيما وأن شكلا منظما مثلما هو في عهدنا للجيوش لم يكن موجودا، بل كانت الجيوش بالحقيقة جيوش قبائل، يستخدمها السلطان في الهيمنة والسيطرة والتوسع والإمساك بمناطق النفوذ..
الدولة الحديثة عنصر بنائها ليس الكيانات الاجتماعية المصغرة، بل أن مثل هذه الكيانات عوامل إعاقة، لبناء دولة منسجمة مع روح العصر؛ وتتحول الكيانات الاجتماعية الى مصدر لمشكلات معقدة، يصعب مقاربتها لعدم إنسجام مفاهيمها، مع مفاهيم بناء دولة قوية.
وليس المقصود بالكيانات الاجتماعية المعيقة لبناء دولة قوية، هي فقط تلك الكيانات المبنية على أساس قبلي، فمثل إعاقاتها تنتج أيضا، عن العصبيات المنطلقة من أساس مناطقي، أو إقطاعيات مادية، أو جماعات تمتلك وسائل القوة المسلحة لدوافع عصابية أو طائفية؛ فهذه الأشكال من العصبيات، تشكل موانع حقيقية وخطرة لبناء الدولة القائمة على سيادة القانون، وفي حالات كثيرة تستخدم هذه التجمعات، سيما القبلية منها، الدولة كأداة لتقوية نفوذها؛ وتتحول الدولة حينذاك الى تابع للقبيلة؛ والتاريخ القريب جدا هنا في العراق، قدم لنا نموذجا لسيطرة قبيلة واحدة، هي قبيلة رئيس الدولة صدام حسين على مقاليد الأمور، ثم ما لبثت هذه القبيلة أن إحتاجت الى توسيع نفوذها، فأستخدمت النفوذ المناطقي، الذي بات حاضنا للنفوذ الطائفي بالنتيجة النهائية..
ولا وجه للمقارنة بين الكيانات الاجتماعية التي ذكرناها، وبين التجمعات السياسية والتنظيمات المهنية، فهي تنظيمات نوعية لا تربطها عصبية، وهي وسيلة فعالة لبناء الدولة، وإثراء وجودها وتقعيد قواعده؛ ولم تكن مثل هذه التنظيمات يوما عامل كبح لبناء الدولة، وحتى في العصور القديمة، كان رؤساء المهن والأصناف وأصحاب الرأي والحكماء، هم أدوات بناء الدولة و المعينين لها دوما على أداء مهامها..
إن الحقيقة التي يتعين أن يتم التعامل معها بهذه الواقعية، في صلة الدولة بالعشائر والقبائل، هي أنها كيانات محترمة التقاليد والأعراف، إذا لم تتعارض مع مفاهيم بناء الدولة الحديثة؛ وأن تأبى العشائر والقبائل أن تكون أداة بيد الساسة، أو هراوة بيد السلطة، بل كيانات عالية المقام، تحفظ قيم المجتمع وتهتم بالتكافل الإجتماعي، بلا نفوذ يربك القرار السياسي ويعصبه لصالح قبلنة الدولة أو دولنة القبيلة..
كلام قبل السلام: وأقرأوا معي ما قاله أبن خلدون في مقدمته: (وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة…فهو التغلب والحكم بالقهر، وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها)...!
سلام..
مقالات اخرى للكاتب