من نافلة القول أن تحب لغيرك ما تحبه لنفسك لأنها من المبادئ الأخلاقية الأساسية في المجتمع العربي المسلم , التي أشار إليها الحديث الشريف : لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ . فالذي تبغضه لنفسك ينبغي أن تبغضه لغيرك لأن المسلم ينظر إلى الإنسان نظرة إنسانية بعيدا عن حب الذات وأطماع الدنيا .
وبهذا الصدد , يروي البعض من المتقاعدين في مقاهي مدينة بدرة النائية قصة شيخ جليل حضرته المنية فجمع ولديه يوصيهما :
* أنتما خلفائي من بعدي يا أبنائي , فقد علمني ديني أن أحب من يعيش في وطني ومدينتي وبيتي بالعدل والإنصاف لأن الله خلقنا من روح واحدة كهذه الجبال المحيطة بمدينتنا , وجعلنا نأكل من غلة واحدة ونشرب من كلال واحد زمنا طويلا , فجعل لنا أهلا وعشيرة وأصدقاء وجيران من أنفسنا , وهذه ثوابت لا يمكن التنصل عنها لأي سبب من الأسباب , بل ينبغي الحفاظ عليها لأنها شكلت لنا عالما بنظام متناسق ووجود خاص بنا . توقف الشيخ عن الكلام ثم التفت وهو يحدق في عيون ولديه ليرى أنهما لم يخرجا عن الإصغاء , بل مازالا تحت ظل المكان في تفاعلهما مع السرد . تابع الشيخ حكايته مع ولديه بعد أن تأكد من مشاركتهم الفاعلة قائلا :
* ولهذا , ياأبنائي ,عليكم المحافظة على سير الزمن الذي اختاره الله لكم والتعامل معه بواقعية شديدة فلا يجرؤ أحدكم أن يخرق نظامه أو وجوده بفقدان الحكمة أو العدالة فيأتي الطمع الذي يجعل من الماضي وإن كان مبنيا على الباطل سطوة على الحاضر فيجعلكم تخضعون إلى تلك السطوة لتزيحكم عن الواقع فيكون لكم من التناحر النصيب الكبير مما يتحمل عواقبها الأبرياء من عامة الناس , ولن يكون المتسبب بهذا التناحر بمنأى عن فقدان البعض من أفراده أو ممتلكاته أو حتى نفسه . فأنا أدعوكم للانتباه إلى ذلك ولا تسمحوا للماضي بالوثوب عليكم لكي تحافظوا على أرواحكم وممتلكاتكم .
بدت الحيرة والقلق ترتسم على وجه الأخ الأكبر وكأنه فقد الأمل في شيء كان يرومه لنفسه, فألتفت إلى أخيه الصغير يهمس في أذنه :
* إن كانت رحلته في الحياة قد انتهت فإن رحلتنا قد بدأت الآن لاستعادة أراضي أجدادنا ممن سلبها عبر الأجيال !
نظر الأخ الصغير إلى وجه أخيه الذي نقل علاقته بأبيه الذي يحتضر إلى مستوى آخر من الفهم فقال له هامسا:
* ولكنك لن تكون وحدك في ذلك النزاع الذي تسعى إليه, بل ستجر الجميع إلى الضّر وأعلم أن تراب الماضي لا يروى بالبكاء !
شعر الشيخ المحتضر بالهمس الجاري بين ولديه فقاطعهما قائلا :
* ها أنتما تتكلمان بلغة تحتضر مثلي , ومثل هذا الهمس النابع من الخوف إنما يورث التنافر في طبيعته ولا يبلغ نهاية سعيدة مع الوالي , مع أن الوالي نفسه تسلّم الماضي , الذي ربما لا يمت له بصلة , بعد أن أحتضر مثلي وملأ الغبار جوفه ونامت عين الشمس عن دهوره إلا من حاضره الذي نشكل جزءا منه الآن ولا نقبل لأحد أن ينتهكه .
أنتبه الولدان لكلمات أبيهم , الذي بدا مصرا على الحياة ومصرا على الفهم المنطقي في حديثه ,من دون أن يجهروا بأسئلة أخرى أمامه فصمتوا ليجعلوه مدركا أنهما لا يتناقضان مع رجل يحتضر في نهاية تجربته الشخصية لاسيما أنه نصبهما خليفتين له من بعده في حين أن الأخ الأكبر لم يبد عليه الحفاظ على علاقته مع أبيه فبقي مستترا خلف ملامح وجهه التي ألمحت بالهروب عن مقاصد كلمات أبيه لتحتفظ بآماله الطامعة .
بعد يوم واحد توفي الشيخ وتسنّم مسؤولية المشيخة الابن الأكبر ليبدأ هيمنته على عقول الناس البسطاء بالخلط بين الدوافع الدينية والاقتصادية والسياسية كما فعلت أوربا سنة 1095 ميلادية بالتجهيز لحملتها الصليبية لبلاد المسلمين باستغلال العامل الديني الذي تبناه القساوسة الكاثوليك والعامل الاقتصادي الذي أضاف القوة الدافعة في تجنيد الطبقات الفلاحية الجائعة . وهنا يبرز العامل الديني الذي تعزف عليه الآن بعض الحكومات في المنطقة وربما في العالم كسلاح لتغيير الماضي بالقوة من اجل تحقيق حاضر حلمي يسيل له لعاب طبقات شعوبها الجاهلة التي دخلت باب الموت الذي فتحته من قبل ولم تحقق منه شيئا.
بدأ الابن حربه ضد جيرانه وهو يحث الناس على القتال من على ظهر حماره حتى استدرجهم كما فعل بالضبط الراهب الفرنسي بطرس الناسك الذي قاد جيشا من المجرمين البغاة وبائعات الهوى من خلال رجال الدين الكنسيين لينضم إلى الجيش الصليبي لغزو مدينة القدس. فعبر بجيشه نحو الدولة السلجوقية وتحطم هناك وتم سبي نسائه ورجاله كالعبيد على أيدي الأتراك وتم بيعهم في الأسواق . فلم يدم حكم الابن سنة واحدة حتى قضي عليه وفر هاربا إلى السلطان العثماني في القسطنطينية. ويقال أن هذه الحكاية هي حكاية ملك ألمانيا كونراد الثالث الذي حكم ألمانيا مع أخيه فردريك الثاني وقد صيغت بأزمان وشخصيات عديدة . لم تستطع هذه الشخصيات تغيير الماضي وتصحيح أخطائه برغم القوة العاتية التي امتلكتها .
ولكن التأريخ يعيد الحكاية نفسها إذ أبطالها الآن هو جيش الفاسقين والقتلة واللصوص المكون من زناة أوربا والعرب الجهلة الذين استدرجهم رجال دين مارقين لا يفهمون شيئا من التأريخ ولا من العبر التي استنبطتها الشعوب. هؤلاء جاءوا ليصححوا تأريخهم الذي يرونه أسود إلى أبيض ولسوء حظهم العاثر أنهم جاءوا إلى العراق ليبدؤوا به فحلّت عليهم لعنة الحاضر الذي أبى أن يتغيّر كما يريدون وهم لا محالة يتمزقون على أرضه الطاهرة .
بقى أن نشير إلى بعض من شخصيات هذا الحاضر مازالوا يمتطون حمار بطرس الناسك ويطمعون في تغيير بعض أجزاءه من خلال استدراج شعوبهم لتصحيح ماضيهم الذي بني على باطل أو من خلال نهج آخر فلم يشكروا الله على جيرانهم المسلمين المسالمين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يؤذون الجار بالابتزاز السياسي لترجيح كفة ميزان ماضيهم رغم ظلمه وسطوته الباطلة عليهم لمئات السنين . فهل ترعوي هذه الشخصيات من الماضي وهي سادرة في سعيها إلى الدكتاتورية البغيضة التي لاتجر على شعوبها سوى الويلات ؟!
مقالات اخرى للكاتب