كنا صغارا لا ندرك شيئا في هذه الدنيا الواسعة لاننا كنا نحسب كبرها في البيت وقد تتجاوز الى المدرسة القريبة منه ، وكنا نجتمع (العصرية) نقصد به وقت العصر وننظر الى والدتنا وهي تحضر شاي العصرية اذ كانت لها طقوس ومراسيم حيث تتلهف الانفس ونعد الدقائق اذ كانت طويلة بعض الشيء كأنها ساعات ، وتبدأ بوضع ابريق الماء حتى يبدأ بالغليان ومن ثم تضعه في ابريق الشاي لتتصاعد منه رائحتها الممزوجة مع حبات الهال ، وبعدها تقوم بجلب الادوات الخاصة بالشاي الى غرفة الجلوس وبطريقة لا ارادية تتحول جلستنا الى اشبه بدائرة .
وفي ايام الشتاء القارصة برودته تتحول طقوس الشاي الى ما بعد وجبة العشاء وهنا تتغير بعض المراسيم اذ تتخلل الجلسة في وسط الغرفة مدفئة (علاء الدين) النفطية وتقوم عملية التحضير امام اعيننا وتغمرنا الفرحة عندما نشاهد الشاي قد اعتلى اقداحنا شيئا فشيئا الى ان تمتلئ، ونبدا باحتسائه واعيننا قد اسرها جهاز (التلفاز) لتنتظر بلهف( فترة برامج الاطفال ) والتي كان وقتها لا يتجاوز الخمس عشرة دقيقة ،صحيح قد تتخلل هذه الجو العائلي بعض (المنغصات ) وذلك بسكب قدح من الاقداح على سجادة الجلوس وتبدأ ثورة من الانفعالات سرعان ما تهدأ ويعود القدح الذي سكب الى حضيرة رفاقه الذي طغى اللون الاسود على اغلبها واكاد اجزم انها كانت ايام ولحظات جميلة قد لا تستطيع الايام محيها من ذاكرتنا .
وعندما بدأ عداد العمر يحتسب سنينه احتسينا افخر انواع الشاي واجودها ولكنها لم تشعرنا بذلك الطعم الذي كان يفرض علينا ذلك التجمع العائلي الجميل ، والذي كان يغيب عن هذا التعداد اليومي فان قدحه الفارغ يقوم بطلب اجازة زمنية له وياخذ بيده قلم ليوقع على حقله الخاص في سجل الحضور الموجود في استعلامات العائلة اذ يكون ضمن ادوات الشاي ونبدأ بالسؤال عن سبب غيابه فكم هي اقداحنا الفارغة في ادوات الشاي والتي غابت هي الاخرى ولم تعد لها وجود اذ يقدم الشاي في احدث اقداح لكنها تكاد تكون وحيدة ليس لها الا الجمال في الصنعة .
نحن لا نحتاج للشاي لانه متيسر لنا احتساؤه في كل حين ولا لمراسيم اعداده ولا حتى لادواته فما نملكه اليوم اكثر حداثة وتطورا لكننا نحتاج الى ذلك الكرنفال العائلي والتي تتصاعد منه روح الجماعة والتكاتف والذي يشعرنا بالامان والدفء الغائب رغم حداثة المدافىء والاجهزة الكهربائية المخصصة للتدفئة .
هل يا ترى لو تمكنا من اعادة تلك الاقداح الفارغة هل نستطيع لملمة الجمع
ام انه ماض وانتهى او بالاحرى قد مات ونعلم ان الاموات لا يعودون …؟
مقالات اخرى للكاتب