الأزمة العراقية الحالية هي الأخطر، لكنها ليست بالجديدة، هي حلقة في مسلسل أزمات لا تعرف حلاً أو تسوية ما دامت السكة التي وضعت عليها عربة الدولة سكة خاطئة لن توصل لهدف بناء دولة عادلة موحدة، والسبب يكمن في النظام السياسي الطائفي الذي تم اعتماده بعد الخلاص من الدكتاتورية في 2003م.
تعتبر الدولة العراقية منذ 1921م وحتى 2003م سلطة عرقطائفية في جوهرها، في حين تعتبر الدولة العراقية بعد 2003م دولة توافقية عرقطائفية، والنظام العرقطائفي الذي تم هندسة العملية السياسية على أساسه هو المنتج للنظام الطائفي السياسي الذي يولد هذه الأزمات.
العرقطائفية
العرقطائفية، تخندق سياسي يماهي بين العرق/الطائفة/ السلطة لإحتواء وتوجيه الجماعة العرقية الطائفية ضمن إطار الدولة، هدفه أما احتكار الدولة لصالح عرقطائفي محدد، أو تقاسم الدولة على تعدد الأعراق والطوائف والإثنيات.
النظام التوافقي
يرتكز النظام التوافقي على مبدأ شراكة المكونات وليس شراكة المواطنين، فينظم الدولة على وفق هويات ومصالح مكوناتها العرقية الطائفية الإثنية، وتنظيم الدولة هنا يخضع لتوازن المكونات، وتوازن المكونات يعني توزيع الثروة والسلطة وإدارة الحكم توافقياً وفق مبدأ الشراكة المتسلحة بالفيتو.
التوافقية العرقطائفية
صيغة الدولة التوافقية هي التوافقية العرقطائفية في أصل الدولة، أي في أصل تكوينها وتشكيلها، فالدولة كمؤسسة وطنية يتم تقعيدها على أساس من الإعتراف القانوني بالوحدة العرقطائفية كوحدة مؤسسة للدولة، وكوحدة سياسية تامة الإعتراف والحماية والمصلحة، والرابطة العضوية بين الدولة ورعاياها هو المكوّن وليس المواطنة.
الخطير في التوافقية العرقطائفية وبالذات في المجتمعات البدائية التقليدية أنها تعمل بالتضاد من وحدة أمة الدولة، كونها تماهي بين العرق/الطائفة/الهوية/السلطة ضمن نظام المحاصصة الكلي للدولة، وهي صيغة تحول دون تماهي جمهور الدولة بالدولة، فتحول دون خلق الأمة الوطنية بالتبع. وعليه فمن التجني على الموطنة والديمقراطية القول أنَّ النظام التوافقي هو نظام سياسي وطني ديمقراطي، هو في جوهره نظام مكونات متمحورة على الذات ومنكفئة على الهوية والمتعددة بوصلة الولاء تعيش التنافس على ابتلاع الدولة أو تحاصصها على وفق مصالحها الخاصة.
الأمة السياسية الوطنية
الدولة أمة سياسية وطنية تقتلها التخندقات الفرعية (العرقطائفية) لقومياتها وطوائفها وإثنياتها، وهذا ما أبتلي به العراق منذ تأسيسه الحديث مما أدى الى قتل أمته السياسية الوطنية،.. فالعرقطائفية أبقته كتل بشرية عرقية طائفية لا تتحس وطنيتها وغير متماهية مع فكرة الدولة الأمة.
عندما تتحول الدولة إلى سلطة مكوّن (عرقي طائفي) لا سلطة جمهور (سياسي وطني) ستفشل كمشروع أمة/دولة وتنجح كمشروع عرقطائفي/سلطة،.. وهذا ما ابتليت به الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 وحتى سقوطها المدوي في 2003،.. فقد أريد لها أن تكون سلطة مكوّن عرقطائفي لا دولة جمهور سياسي، وهذا هو العامل الأساس الذي أدى الى ضرب وحدة أمة الدولة وتشرذمها، فابتلاع الدولة واحتكار السلطة والثروة وفق مبدأ المكوّن هو الذي أحيا الولاءات الفرعية ورسخ التخندقات العرقطائفية على أساس من الهوية والإنتماء الفرعي، فقد فقدت الدولة حياديتها وعدالتها وتمثيلها الصادق لجميع مواطنيها.. ففشلت في وحدة أمتها ووحدة بنيتها.
في 2003 دخلت الدولة العراقية عهداً جديداً، إذ تم تحريرها من مبدأ (سلطة المكوّن)، ولكن تم إدخالها هذه المرة في نفق (سلطة المكونات) من خلال اعتماد النظام التوافقي الذي يقوم على أساس من مبدأ المكوّن (العرقي الطائفي) وليس مبدأ المواطنة،.. لذا لم تتحرر (في العمق) الدولة العراقية من التخندق العرقطائفي الذي أنتجه فشل مشروع الدولة وفشل إعادة بنائها على وفق مقاسات المواطنة والمدنية والديمقراطية التعددية والتعايش والسلم الأهلي.
تجذر العرقطائفية
تتجذر العرقطائفية في الدولة عندما يتم أدلجة التنوع المجتمعي، وتتعقد عندما يتلبس الدولة عرق واحد أو طائفة واحدة، وتتعمق عندما تفقد الدولة حياديتها وصفتها الأبوية، وتعلو شأناً عندما تفارق المدنية والتحديث، وتترسخ عندما تسحق الخصوصيات الذاتية وتصهر الهويات الفرعية،.. فالدولة لا تعنى بصهر الهويات ومصادرة الخصوصيات.. هي إطار جامع للتنوع المجتمعي تخلق المشترك بين مواطنيها على أساس من الحقوق والواجبات المتكافئة لتحقيق المصالح الفردية والعامة،.. والهوية الوطنية هوية سياسية تعبر عن جميع الأفراد والجماعات والهويات الفرعية الداخلة في تركيبة الدولة، هي الروح الناتجة من التماهي السياسي بالدول وليس التماهي العرقي الطائفي الإثني.
الخطير في المشكلة العرقطائفية عندما تتكون بها ومن خلالها القوى السياسية المعنية بفعل الدولة، فعندها لا يعود للأمة السياسية من وجود، فستكون هذه القوى قوى ردة على مشروع الدولة وعلى أمة الدولة ذاتها. والأخطر عندما يندفع الخطاب المذهبي والفكري وراء تأصيل العرقطائفية على أساس ديني وثقافي.. فيتم توظيف المقدس الديني والموروث الثقافي لتبرير العزل والإقصاء والتخوين والتكفير والتفوق على أساس الإنتماء العرقطائفي.
تترسخ العرقطائفية أيضاً عندما يتم تأسيس الدولة على وفق استحقاقات المحاصصات السياسية-العرقطائفية لتتمذهب مؤسساتها بلون المذاهب السياسية التي تدمج العرق بالطائفة بالسلطة.. فينتج لدينا طائفية سياسية حاكمة.
السلطة في النظام الطائفي السياسي
السلطة تعاني الإنقسام لا التقاسم في ظل الطائفية السياسية، والدولة كأعلى شكل من أشكال السلطة ستفقد علويتها في ظل انقسام سلطتها.
التوافق في النظام الطائفي السياسي ليس توافقاً سياسياً صرفاً، بل توافقاً سياسياً ممثلاً للأعراق والطوائف في أصل تشكيل الدولة وإدارتها فيما بعد، لذا فالتوافق هنا هو مجمع سلطات متناشزة.
من الطبيعي سلوك منهج التوافق السياسي في ظل الديمقراطية التعددية، فهو وجه من أوجه إدراة الحكم وتقاسم السلطة (وليس انقسامها) بين الفائزين انتخابياً، ولكن أن يكون التوافق مختزناً لتمثيل المكونات العرقية الطائفية.. فهو الخطير وغير الطبيعي، لأنه سينتج توافقية عرقطائفية وليس توافقية سياسية.
السلطة في النظام الطائفي خاضعة للإنقسام وليس للتقاسم، وهذا هو الخطير بالأمر، لأنها ستعتمد التوافق اللاغي لمبدأ الحسم، وهو ما يقود لا محالة الى تشظي وحدة القرار ووحدة السياسة، والدولة لا تحتمل تشظي قراراتها وتعدد سياساتها.
السلطة في النظام الطائفي تعتمد على الإرضاء والتقاسم، وليس كل قضايا الدولة تقبل الإرضاء والتقاسم، فيصاب فعل الدولة بالشلل.
السلطة الطائفية سلطة صفقات لا يمكن تمرير سياساتها وبرامجها دون صفقات تحقق مصالح المكونات، وهو ما يحول دون انسيابية السلطة،.. وهي أيضاً سلطة قائمة على التخويف والتهديد بتعطيل مسيرة الدولة كون المكونات متسلحة بالفيتو كسلاح يمنحه التوازن بين المكونات.
السلطة الطائفية صيغة مخففة لإبتلاع القوى السياسية للدولة من خلال نظام المحاصصة الذي يعتمده النظام التوافقي الطائفي كأساس لشراكة المكونات.
هل العراق دولة عرقطائفية؟
بنسبة كبيرة، نعم، صيغة الدولة العراقية الحالية هي أقرب الى الدولة العرقطائفية، وهذا هو الخطير بالأمر.
تبرز الصيغة العرقطائفية للدولة العراقية من خلال اعتماد مبادىء التوافق والشراكة والتوازن بين المكونات،.. رسخ ذلك قانون إدارة الدولة وبعض المواد في الدستور العراقي الدائم،.. وتحرسه إرادة التوافق لمعظم القوى السياسية العراقية التي تعمد لجعل التوافق قاعدة لبناء الدولة وإدارة السلطة.
وضع الدولة
الجميع يقر بخطورة الوضع الفعلي للدولة العراقية، وبعيداً عن ملفات الأمن والفساد والإرهاب والتنمية... فإنَّ الخطورة تكمن بانشطار الدولة وانقسام سلطاتها وتنامي نزعات الإستقلال والإنفصال تحت عناوين الأقلمة والصلاحيات والخصوصيات والإستبعاد،.. وهذه هي عناوين مخففة لموت الأمة الوطنية للدولة، ولموت فكرة الدولة الواحدة،.. وهي من أهم معطيات النظام الطائفي السياسي المعتمد حالياً.
الخيارات
لا أرى من امكانية فعلية لاستمرار الصيغة التوافقية العرقطائفية للدولة العراقية الحالية،.. إنها صيغة أثبتت التجربة فشلها في الحفاظ على وحدة الأمة والدولة معا.
لدينا خيارات: إما الإبقاء على هذه الصيغة من بناء وإدارة الدولة فننتج نموذج دولة منقسمة على نفسها والمتشظية في سياساتها والتي تعاني أمتها من التصدع والتخندق والإحتراب الدائم،.. وإما الإقرار باستحالة تعايش مكونات الدولة فيصار الى التقسيم على أساس عرقي طائفي إثني،.. أو أن يتم إعادة إنتاج العملية السياسية على وفق اشترطات المشروع الوطني الديمقراطي المدني.
مقالات اخرى للكاتب