يعد الصحفيون والكتاب والمثقفون ورجال الدين ومنظرو الرؤى الفكرية ومن يعملون في مؤسسات الفكر والدعاية والاعلان ، بشتى صنوفها ، أحد أوجه تلك الستراتيجية التي تشترك في صناعة (فن التضليل) ومن يطلق عليهم (المتلاعبون بالعقول) ، وهي وان كانت توجهاتها قديمة، منذ ان سطع نجم البشرية، الا انها لم تكن بتلك الخطورة والتعقيد التي هي عليها الان، لكون من يعد تلك السيناريوهات وينفذ أدواتها الان ، مثقفون وادباء وصحفيون ورجال دين ، بعضهم على مستوى عال من الحرفية ، للعمل بين اوساط مهمة في الرأي العام.وتقف خلف (عمليات التضليل) و (الخداع) و (التلاعب بالعقول) جهات ومؤسسات، تعد في مطابخها، ملامح توجهاتها ونظرياتها، بين خفايا هذا السيل الرهيب من كم المعلومات المتعدد التوجهات والاغراض، وهو ما يشكل توجهات كثيرة بين أوساط الرأي العام من اجل جعل المتلقي يتناغم معها او يتوافق مع رؤاها، وفي خلق تيارات تحت اطار جمعي ، تجد أنها مرغمة احيانا على تقبل تلك الطروحات او تعمل على ترديدها، بين اوساط مجتمعية مختلفة المشارب والتوجهات وفي اوساط أمية الثقافة في الأغلب وفي أخرى بين اوساط مجتمعية تضفي على شخصياتها أهمية، وبوسائل اعلامية ودعائية بوحيها وتحت إدارة سلطتها.
ربما كان الكاتب الأميركي (هربرت شيللر ) محقا حين ألف كتابا ضخما في السبعينات من القرن الماضي ، بهذا العنوان:The mind manegers اي (المتلاعبون بالعقول) وهو كتاب لايوضح الكثير من الحقائق عن عمليات التلاعب بالعقول، لكنه يقف عند الكثير منها وبخاصة في الجانب الاعلامي والدعائي ، وهو لا يخوض فيما هو أخطر وهو الجانب الفكري او العقائدي، الذي يفوق الاعلام والدعاية خطورة ، ويتمثل هؤلاء برجال الدين والشعراء والكتاب الكبار وأصحاب العقائد والاستاذة والمفكرين ومن هم ضمن مدارس الثقافة والفكر، هؤلاء هم الاخطر في التوجيه والاعداد لستراتيجية ( التلاعب بالعقول ) كونهم أصحاب خبرة ودراية وحنكة ولهم مؤسسات تدعم توجهاتهم وأنشطتهم ، وفقا لغايات واهداف منها إضفاء صبغة وتلوين وتزييف للحقائق والرؤى بما يؤدي الى تكريسها في العقل البشري، وليس كما حاول الكاتب الاميركي هربرت شيللر ان يوضحه في كتابه المشار اليه (المتلاعبون بالعقول) إذ ان موضوعنا هذا أشمل واكثر عمقا واتسأعا ، وهو يحتاج فعلا الى مجلدات كتب وليس مقالات توضح حقيقة اهدافه والمخاطر الناجمة عنه، وبخاصة في مجتمعنا العراقي ومنطقتنا العربية ، التي راح العقل العراقي والعربي يخضع الى عمليات (غسيل دماغ) وغرس رؤى وتوجهات تخريبية تؤذي الشخصية العربية وتحاول الحط منها وتسفيه رؤاها وتوجهاتها ومسخ شخصيتها القومية والانسانية وتشتيت توجهات ملايين البشر الى عشرات الرؤى والمنطلقات المتضاربة المنقسمة على نفسها والمتمردة على مجتمعها ، والتمرد الثقافي والفكري هو الاخطر كون من يقوده مثقفون على مستوى عال من الحرفية عن وعي أو عن غير وعي، لاستدراج العقول ومن يلتقون معهم في الاهداف والتوجهات ، ويتناغمون معهم فيما يطرحونه بين ثنايا الافكار لتصبح حقائق ملموسة تخرض في أغلبها على الكراهية للآخر، ومحاولة افراغ الشخصية من طابعها الجمعي الاجتماعي لتنضم الى أقلية اجتماعية أو فكرية أو فلسفية تنحصر في اطار جماعتها او المحيط الذي تعمل فيه، ليكون بمقدورها ايصال رسائل التضليل بين ثنايا لغتها الشعرية أو القصصية أو السرد التاريخي للوقائع الذي يحتل أي السرد التاريخي العامل الاكبر في تشويه وقلب الحقائق وتزييف صفحات التاريخ وفقا لرغبة المتلقي في التلاعب بالمقدرات وممارسة عملية التضليل انطلاقا من دوره في كسب العقول من خلال مايطرحه على الجمهور بين ثنايا قصائده او مؤلفاته الشعرية والفكرية والادبية او من خلال الفيسبوك والمواقع الاخبارية والندوات والمقابلات التلفزيونية عن رؤى يريد تكريسها وهي رؤى موهومة أو وهمية ، لا وجود لها عمليا الا في أذهان من يريدون تكريسها كحقائق رغم انها تحمل من التزييف الشيء الكثير، طالما يخدم هدف الداعية في خلق جمهور موال له متناغما مع ما يطرحه بين ثنايا أفكاره وبما يريد ان يكرسه في الاسماع من اباطيل ليست حقيقة أو ليست اساسا في البنيان الفكري والأجتماعي العام ، وتجد ربما نفورا من كثيرين او تخلق حالة من الفرقة والانقسام والمعارك الفكرية تحت دعوات الحداثة والتوجهات الفكرية ذات الطبيعة الطائفية ، وتحت اطار الثقافة والتوجه الفكري الحر والتعددية السياسية ، التي كثيرا ما يختبيء خلفها ( المتلاعبون بالعقول ) في اغلب الاحيان .
هذه هي خطورة عملية (التلاعب بالعقول) فهي صناعة عقلية تعتمد (التضليل والخداع ) في غرس مفاهيمها أو تكريسها بين فئة من البشر ينتظر ان تتحول فيما بينها الى رأي عام ( جمعي ) وهو ما يشكل خطورة على العقل العربي العراقي ومحاولة تشتيت هذا الوعي وحرفه عن مساراته، او تحويل الشخصية العراقية الى شخصية تشعر بالانكفاء والانعزال من الداخل، وتستخدم أطر (المظلومية التاريخية) أو (الشعور بالتهميش) ) لدى الآخر للامتثال الى الرغبات والأفئدة والتوجهات، يقودها شخصيات عراقية على حرفية عالية من التوجهات ومن المكانة الثقافية والفكرية تنبش بين ثنايا الماضي او تعبث بحقائق التاريخ وتعمل على تزييفها وحرفها عن مسارها، وتحاول ايصال العقل الجمعي الى يقين بها رغم انها أباطيل أو مجرد وجهات نظر سطحية ليس لها أساس في الواقع، الا في نفوس من يحلمون بتغيير صفحات التاريخ وفقا لما يشتهون، أو وفقا للجهات التي تدعم توجهاتهم وغالبا ما تكون من خارج محيط البلد على أكثر تقدير.
والمتلاعبون بالعقول شخصيات تحتل ربما مكانة فكرية أو معنوية أو أدبية كبيرة في المجتمع، وقد يكون مؤسسات فكرية أو صحفية أو شخصية سياسية أو ادبية أو دينية أو فلسفية يختفي خلف رؤى وتوجهات، تكون أحيانا غير واضحة المعالم، واحيانا فيها من المصداقية والمقبولية ما يمكن ان تعبر عن إتجاهات الرأي العام في البلد او في النطاق الإقليمي والدولي، وهي تعمل وفق اطار من التضليل وخداع العقول على ايصال المتلقي لأن يتناغم مع توجهاتها أو ان يقبل بها او يتكيف معها، وبالتالي قد يقع أسيرا لتوجهاتها.وتعد الولايات المتحدة الاميركية ودول غربية اخرى وحتى شرقية واجهزتها الخاصة بضمنها روسيا احدى المطابخ العقلية لهذه النظرية ( المتلاعبون بالعقول ) ، وما يجري في منطقتنا العربية والعراق على وجه التحديد احد ضحايا تلك اللعبة القذرة التي راح العالم الغربي برمته يهرول وراء سرابها ليعزف مع السمفونية الاميركية والروسية والاسهام في ترويض العقل العربي وتشتيت رؤاه وتحويله الى كائن استسلامي لقدره لاحول له ولا قوة.
واود الان وضع هذا المفهوم امام القراء والمتابعين الاعزاء ، لكي تكتمل امامهم صورة مايجري الان من محاولات ترويض للعقل العربي وغسل دماغه واخضاعه للمشيئة الاميركية ولحملات الغرب المساندة لهذا التوجه الخطير في الحملات النفسية للحرب الظالمة التي يشنها الغرب على عموم منطقتنا وفي العراق الذي تعد حربهم على داعش احدى بوابات انطلاقات هذه الحرب غير المقدسة، كونها صنيعة امريكية اسهمت فيها ايران ودول وأنظمة في المنطقة، أرادوا تضليلنا وتأجيج الانقسامات الطائفية والمذهبية الى اقصاها واختلاق جماعات مسلحة غير معروفة الولاءات من مختلف المذاهب الاسلامية وتطعيمها بمقاتلين اجانب تحت شعار (الدفاع عن المذهب ) مرة او في استنساخ تجارب التاريخ المريرة مرة أخرى ، وايصالنا الى قناعة باستحالة قدرة الانظمة العربية على مواجهة التحديات بدون الاستسلام القدري للغرب عموما ولامريكا على وجه الخصوص على غرار النظرية البريطانية في الحربين العاميتين الاولى والثانية في سياستها المعروفة (فرق تسد) وما رافقها انذاك من السيطرة على مقدرات المنطقة.
فالمتلاعبون بالعقول، هم من يتحكمون بتوجيه عقول البشر ، بإتجاه أهداف محددة لغاية في نفس يعقوب، وأغراضها في الأغلب غير أخلاقية، إذ انها ربما في عملية إستخدامها تجري تزييف الحقائق وتشويهها، وتستخدم إسلوب الاستدراج والتوريط ، في قدرتها على جعل أذهان الآخرين ينساقون معها ، كونها تداعب شيئا دفينا في مخيلتهم أو أحلاما أو رؤى أو توجهات مرغوبة داخليا ، لكن المجتمع لايستسيغها أو تنفر منها الأغلبية الشعبية الواسعة ، كونها لاتلتقي معها في الاهداف والتوجهات إذ إن (التلاعب) صفة ملازمة لهذا التوجه ذات الطبيعة الفكرية والايدلوجية والمعرفية ، أي ان الموجه، يقوم بعملية ( تضليل وخداع ) لعقل المتلقي ، ولهذا فهو يمارس عملا دعائيا ، من خلال التلاعب بمقدرات البشر وتوجيهها الوجهة التي تخدم أغراض هذا المخطط ، أي (المتلاعبون بالعقول) ،وهو مايجري الاعداد له في مطابخ الدعاية والحرب النفسية الاميركية واجهزة ومراكز بحوثها الستراتيجية وهو يجري من خلال عمليات تهيئة جماعات مسلحة يتم تدريبها لغايات تخدم خطط الغرب في الوقت المناسب واضفاء اسماء ثورية وجهادية على توجهاتها وما ان تأتي اللحظة المناسبة حتى يتم تعبئتها ضد الانظمة من اجل ايصالها الى قناعة بانها تواجه خطر جماعات مسلحة ليس بمقدورها الدفاع عن نقسها بوجه تحديات خطيرة فتضطر لطلب مساعدة امريكا والغرب تحت غطاء مواجهاتها بالرغم من انها بعضها صنيعة امريكية شاركت بها دول اقليمية لابقاء الدول العربية مشتتة القوى تعيش حالة الانهزام بداخلها وليس بمقدورها ان تلتفت الى الداخل لاعادة بناء نفسها والهائها باخطار وتحديات داخلية وخارجية من نفس فصيلتها لكي لايكون بمقدور هذه الانطمة تحقيق مطالب شعوبها وبالتالي تبقى اسيرة تخضع للغرب وتبقى تحت رحمته وليس بمقدورها ان تعيش بدونه.
ولا يتسع هذا الموضوع الحيوي لمقال ، بل يحتاج الى العديد من المقالات، وربما كتاب موسوعي كامل، للإستدلال الى هذا العلم الحيوي المتلاعبون بالعقول) من علوم الحرب النفسية،وهو ما سأسعى الى توضيح الكثير من الحقائق عن خفايا توجهاته ومضامينه ، بشيء من التفصيل في مقالات لاحقة.
(1) ملاحظة : ( المقال من كتاب " فن تسريب الاخبار ..والحرب النفسية " للكاتب حامد شهاب صدر بداية عام 2016 عن دار الجواهري )
مقالات اخرى للكاتب