لعقود مضت ونحن نتابع ونعاني بمحنة المنكسرين ما يكتبه المثقفون العرب من مقالات تشيد ب(الرئيس القائد) و (الفارس المغوار) الذي نذر نفسه لعودة الحق العربي المستلب وأمجاد الأمة التليدة وتجاوز كبواتها، بسبب المؤامرات على أيادي (الأشرار) و (الخونة) من العرب حكاما ومتخاذلين، وأنه سيعيد الأمور إلى نصابها وسيرفع رأس العرب بعد أن طأطأه (العملاء)، الرأس الذي سترتفع هامته من جديد بعد حقب النكسات العربية المتواصلة، كتّاب ابتكروا قاموسا جديدا ضد (المهانات)، وهم يعرفون أو يجهلون أنهم يعيشون بقوة في عمق المهانات والخذلان وتسليع الضمائر والمواقف وعرض الأفكار الماسخة في سوق النخاسة العراقي والعربي، فلا أرض مغتصبة عادت، ولا كرامة مضامة استعيدت، ولا شعوب مشردة هنأت بالعيش في أراضيها المستلبة، وضاع كل شيء، حتى تلك الحقوق التي كانت الشعوب المقهورة تمسك بتلابيبها، قد ساحت من بين أياديها وتحت أقدامها، فلا ذاقوا العنب ولا نالوا بالحصرم.
هذا المسلسل المهزلة منذ بدايته حتى انتكاسته، يدور في دائرة مفرغة من الضياع، مرت عليه أقلام رذيلة، وكتب صفراء، وجهود مضنية من الاستهلاك الاعلامي، وزعيق، ظل متواصلا ليل نهار، وأطنان من الوعيد والتهديد، جُندت له جماهير غفيرة، من الماء إلى الماء، لا تعرف لماذا هي تصرخ، فقط كانوا يسمعون ما يقرأ لهم وما يلقنون به، من أن الأمة على مشارف انعتاقها من الضيم المخيم عليها لقرون، وإن العرب سينالون الكثير بصبرهم وجلدهم وما بقي إلا القليل، وما عليهم إلا أن يكونوا طيّعين، وبآذان التلاميذ المنصتة جيدا، لما يقال ويكتب ويدبج لهم من شعارات ومقالات وما تنظم من مسيرات، لأنها السبيل الأمثل للوقوف وراء القائد ومن يتبعه من الفرسان الأفذاذ، ودونهم يهون كل شيء، فمسلسل الابادة للمارقين والرافضين والخونة والرعاع والعلوج، قائم على قدم وساق، والمشانق تعمل ليل نهار في خدمة الأهداف النبيلة للأمة، لأن طريق الكرامة يجب أن تعبده جماجم الأشرار، والمنحرفين، وكل من تسول له نفسه للوقوف بوجه قدر الأمة ومستقبل أبنائها الأشاوس، ولا غرابة ونحن نقرأ ما أبدعه شاعر البعث المهذار حين قال:
وطن تشيّده الجماجم والدم ..... تتحطم الدنيا ولا يتحطم
فلماذا تشيد الأوطان بالجماجم والدماء، وليس بالبناء والعلم ومسايرة التقدم؟! ولماذا يكون مستقبل هذه الأمة بالحروب والتطاحن الأهوج؟! وليس بالمحبة والتسامح والاعتراف بالآخر، ندا كان أم حليفا!!
عندهم لا معنى للعيش بلا كرامة، وعلى مقاساتهم هم، والسيوف العربية البتّارة، بماضيها التليد، تظل خانعة ومستكينة في أغمادها، والأعداء لرسالة الأمة الخالدة، من عرب وفرس مجوس وشعوبيين وصهاينة وحليفتها الشيطان الأكبر، وغير ذلك، يتربصون بمصيرها وتطلعاتها، إذن بات من اللازم أن تجري أنهار الدماء لتسجل بمداد الفخر بطولات أبنائها الميامين ليلوح فجر الكرامة من جديد، فلا ثروات، ولا بناء، ولا ثقافة، ولا تعليم، ولا عيش مندوف ب(الهزيمة)، ولا حريات، ولا رخاء، ولا... ولا... إن لم تكرس كل إمكانات الأمة لبزوغ فجر الحرية واستعادة أمجاد السلف الصالح من الأجداد الأبطال في ساحات الوغى، وليذهب كل شيء دون ذلك الهدف الأسمى، للجحيم غير مأسوف عليه...
تبنّى مثقفو الأمة الأشاوس، هذه الحماسة الجوفاء وهذا اللغط الأهوج، وهذه الشعارات الخرقاء، والتي لا تصدر إلا من أفواه الحمقى والمهووسين وفرسان الفجر العربي القادم، من البلداء، وغير الأسوياء، وسكان المارستانات العربية وما أكثرهم، بأوهام متخلفة وجاهلة، لا تعي وتستوعب وتفهم ما يدور حولها، ولا تعرف كيف تقرأ التاريخ، فهم بمعزل عما يجري في الكون، بعد أن وجد هؤلاء الكتبة أن الفرصة مؤاتيه للّعب على وتر البلادة التي يتمتع بها قائدهم الفذ، وبقية المخبولين من حكام الأمة، ليشتغلوا على هذا المنحى ليل نهار وبكل ما أوتوا من قوة، فهم رابحون بكل تأكيد، إذا ما وظفوا قدرات الأبالسة التي يحتكمون عليها، وهي الميزة الوحيدة لهم، للثراء السريع من السحت الحرام، فهم ما كانوا ليصدقوا أن تجارة رابحة كهذه نزلت عليهم من السماء، فالمداد موجود، ويراعات الخسة معروضة بأثمان بخسة في سوق الانحطاط العربي، وهم يتوحدون مع قادتهم لإنقاذ مصير الأمة، سيما أن العقول الرثة تستوطن رؤوسهم النتنة، فلماذا يترددون لهذه الغنيمة الماسية، وما الكرامة عندهم إلا رأسمال المفلسين والطوباويين والذين لا يعرفون من أين تؤكل الكتف ...
لعل كل هذا المسلسل العفن لم يكن غائبا عن ذهن وتفاصيل الكاتبة الموهوبة حقا، والتي نحترم منجزها المائز، الروائية أحلام مستغانمي، فكرست كتابها القيّم (قلوبهم معنا... وقنابلهم علينا) مستعينة بقولة الفرزدق مخاطبا سيد الشهداء، الإمام الحسين (ع) وهو متوجه للنحر هو وأصحابه، حين سؤاله للفرزدق: كيف وجدت أهل العراق؟ فأجابه: (إن سيوفهم معك وقلوبهم مع بني أمية)
فكانت استعارة ذكية ومعبرة...
الكتاب ممتع وشيق، يضم مجموعة مقالات راصدة، جلها تتعلق بما كان يحدث من محن وخطب وويلات في العراق، على يد الطاغية صدام ونظامه الفاشي، ومحموعة القتلة والساديين، أمثال ولديه وأفراد عائلته وأصهاره وعشيرته والخانعين من المقربين له، بحروبه الشرسة والقذرة ضد العراقيين، ومغامراته الغبية ضد دول الجوار وحروبه الرعناء حتى على من حوله، بلغة آسرة واسترسال نثري، تطغى عليه اللغة الأدبية وكأننا نقرأ قطع نثرية قريبة للصياغات الشعرية، بكثافة تناول بعيدة عن الاسفاف والملل. والتقاط صور بكفاءة عالية ودقة متناهية وموضوعية مسؤولة...
مقالات أحلام مستغانمي هي صرخة ضد استبداد الشعوب، وتحديدا ضد الظلم المخيف الذي طال كل شرائح المجتمع العراقي، طيلة حكم البعث الصدامي المجرم.
وهذا موقف لكاتبة تحتكم على ضمير حي وقلم نظيف، ما ساوم ولا هادن ولا ضعف، إزاء إغراءات صدام ومؤسسته الثقافية المشوهة، كبقية الأقلام المأجورة، كما تصرح هي وما تشي به تلك المقالات الجميلة...
كنا نأمل كقراء أولا، وضحايا للنظام المجرم، ثانيا، أن تكون الكاتبة مستغانمي منصفة وبعقلية العارف ببواطن ذلك النظام المرعب وما قام به من جرائم بحق الأبرياء من العراقيين وما جلبه من كوارث للعراق دون الدخول في التفاصيل المعروفة للقاصي والداني.
فهي ورغم ما تتصدى بمقالاتها لذلك النظام وما قام به من مظالم، يتحرك بداخلها ذلك الضيم العربي الذي بات وقود الفعل العربي الغاضب بسوئه وفضائله، بعيدا عن شوفينية البعث التي لم تكن شعاراته سوى ذر الرماد في العيون.
أجدني وأنا في لحظة بهاء واحساس بالأمان، من أنه لا زال من بين المبدعين العرب من يحتكم على ضمير ووجدان ومشاعر انسانية نبيلة، أن الكاتبة مستغانمي تتعثر من حين لآخر بانتمائها العربي المشوه، والذي لا يختلف عن مواقف بقية الجوقة الصدامية والتي كانت تدبج للعرس العربي أقلامها وكل ما أوتيت من كفاءة في المذلة والانحطاط، ما يهمها هبات القائد، حتى راح بعضهم يحسبون بأصابعهم لزوجاتهم عدد الملايين التي سيكسبونها من زمن الاستغفال العربي المبارك، مع الفارق في التوصيف بين هؤلاء الأراذل، وهذه الكاتبة المنصفة طبعا، ولا يمكن أن نحشرها في خانة الطبّالين...
ورغم الفارق بين هذه الكاتبة وبقية فرسان السحت الحرام، أرى أنها إما لاندفاعها العربي الذي يتحول إلى عاصفة من المشاعر غير الموجهة بشكل صحيح، أو لجهلها بتأريخ قائد الأمة المخبول، تنحاز له وتتعاطف مع مهاناته التي صنعها هو بنفسه، وخصوصا بعد السقوط والإمساك به وعرضه بشكل مهين ومنحط وهو القائد (الأمل)...
فتحتَ عنوان (والله ما أعدموا سوانا) تتهالك الكاتبة وهي تشاهد صدام وهو ذاهب لتنفيذ القصاص العادل به أول أيام العيد، وكأني بها تبكيه دما، وهي لا تعلم بأنه هو من قاد وأشرف وأوعز لجلاديه، بنحر الآلاف من معارضيه، وحتى بشبهة الشك من الأبرياء، بأرسال هذه الجموع الغفيرة إلى ساحات الإعدام المرعبة، من مقابر جماعية، لدفنهم أحياء، ونصب المشانق في الشوارع والساحات العامة، وإطلاق الكلاب المفترسة لالتهام أجساد الضحايا وهم أحياء، وتصفية البعض في التو والحين بمسدسه الخاص ودون محاكمات، حتى من المقربين له، ورمي المئات في أحواض التيزاب ليتحولوا إلى جزء من السائل، وهو من أمر بتصفية المعارضين على أيدي ذويهم، فالأخ يقتل أخاه والأب يقتل ابنه، والأم تشي بأولادها من (المارقين) و(الخونة) وهي من توصيفاته. ولا نريد أن نعدد تلك الجرائم والتي كانت تنفذ في الأعياد الصغيرة والكبيرة والمناسبات المفترجة وأيام رمضان والناس صائمون.
ناهيكم عما كان يقوم به الصبي المدلل وغير السوي، عدي من جرائم، تقشعر لها الأبدان بما فيها، رمى الأبرياء للحيوانات المفترسة لالتهامهم وهم أحياء...
وما قامت به عصابة البعث المجرم بتصفية ابن الشعب البار، الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، قائد ثورة تموز 58 ورفاقه الأبطال، المهداوي ووصفه طاهر وغيرهم، في يوم الجمعة 14 رمضان وهم صائمون، مثال على سادية هذه الشريحة البعثية المجرمة... والأمثلة المخيفة لا تعد ولا تحصى. فهل من المعقول أن تنسى الكاتبة أو تتناسى هذه الفظائع الصدامية، وتبكيه دما ليوم إعدامه، غير مأسوف عليه، رغم أننا لا نتشفى بالحدث، لأن التشفي من شيم الأراذل والأشرار، وهذه شيم بعثية. لكننا فقط نسوق غيضا من فيض ما فعله صدام بمعارضيه ومن كل الانتماءات العراقية.
فلماذا تعتبر يوم إعدام صدام، هو إعدام العرب جميعا.
هذه هي كارثة المثقف العربي بازدواجية المواقف وسرياليتها، ووراء الأكمة ما وراءها.
تقول الكاتبة (حتما أحتاج إلى وقت كي أستوعب ذلك المشهد. مشاعري مختلطة تجاه ذلك الرجل الذي اعتلى منصة الاعدام صباح عيد كانسان أعزل، لا يملك سوى الشهادة لمواجهة الموت، وقد كان هو الموت. رجل أصبح نحن جميعا. ولذا اختار أن يغادر كبيرا، ليفظ ماء وجهنا أمام وقاحة الكاميرات... وشماتة القتلة. في لحظته الأخيرة حقق انجازه الأجمل)
أقول للكاتبة العربية، إذا أراد صدام أن يغادر كبيرا لقاوم لحظة أسره حتى الرمق الأخير ولا يسلم نفسه بهيئته القذرة، وهو يصرخ بأعلى صوته مخاطبا المارينز المهاجمين: أنا صدام حسين رئيس العراق لا تقتلوني... فكان المشهد كارثيا...
هل أن الكاتبة سعت لإنصاف رجل بهذا القدر من التخاذل والجبن...
عندها لو فعل ذلك لأحترمه أعداؤه وكل ضحاياه. ولأهمس في أذن الكاتبة وهي الأعرف حتما بذلك، أن الطغاة ينطبق عليهم المثل العراقي (خنيثون خبيثون)
وأحيلها لرواية غارسيا ماركيز (خريف البطريارك) لتفهم جيدا معنى المثل الوارد أْعلاه.
ليس بودي أن أسرد أدلة أكثر لأن البياض لا يسمح أكثر. فقط أود أن أوجه شكري للكاتبة لمقالاتها الوثائقية وهي بمثابة شهادات منها لجرائم صدام وبطانته الفاشية.
ادعوا القارئ لتصفح الكتاب، لأننا نحتاج إلى شهادات من هذا النمط إنصافا للحقيقة ولكن بتنقية ضمير وبصيرة غير منقوصتين.
وتبقى المساحات السوداء رغم انحسارها والموزعة على متون الكتاب، تحتاج إلى كوابح لتبتعد عن المنزلقات التي وقع فيها جمهرة الكتاب المرائين.
ومستغانمي يقينا ليست منهم.