تمنى قاسم البصراوي أن يرى مدينته التي ما برحت مجبوسة في عقله ولسانه طيلة أثنتين وعشرين سنة قضاها هاربا خائفا من دولة الى أخرى وبجوازات سفر مزورة , وحقيبة ظهر فيها دفتر صغير وقصة لتولستوي وأشياء ما زال يحتفظ بها حتى يومنا هذا.. وبعد الغربة والمعاناة والفرار الى المجهول, ركن قاسم جسده على شواطئ مدينة أسبانية وصلها المسلمون في عهود الفتح ولا زالت أثارها قبلة للسائحين والدارسين والباحثين.. طلب هذا الشاب البصري اللجوء في أسبانيا مثله مثل الالاف من العراقيين الذين هاجروا في أرض الله الواسعة طلبا للامان المفقود , أو ما فرضته الحالة السياسية الصعبة على البعض من العراقيين الذين كانوا ملاحقين أمنيا لارتباطاتهم بأحزاب سياسية.. خلال فترة قصيرة أندمج قاسم بالمجتمع الاسباني وتعلم لغتهم, وفتح له محلا صغيرا للاكلات العراقية, ثم ما برح أن أستأجر مطعما حتى صار معروفا بأشهى الاكلات العراقية والعربية التي حرمنا منها طوال غربتنا مجبرين..
وسقط نظام صدام حسين..وأحترقت معه الملايين من الاسماء الممنوعة من السفر والاحكام الصادرة من محاكم التسلط والعبودية..وأستنشقنا هواء الحرية المجبولة بالدماء الطاهرة التي عبدت الطريق للاجيال القادمة نحو غد مشرق وضاء.. وداعا لتكميم الافواه والايدي المكبلة.. وخرج الشعب من أقصاه الى أقصاه ينشد وطن مد على الافق جناحا.. وراح قاسم البصراوي في هذا اليوم يوزع المشروبات والعصائر مجانا..وكانت دهشة الاسبان حينما غنى قاسم على العود أغنية لكريم منصور بس تعالوا.. وراحت السنين مسرعة وهي تشعل الشيب في رؤوس الشباب المهاجر, وأزداد أشتياق الاحبة وأتخذت القرارات المفاجئة بزيارة الاهل والاصدقاء, وتكحيل العيون , بالبصرة التي ما فتأت تغيب ولو لحظة عن قلوب المحبين.. وأستعد قاسم للسفر , وأراد أن يجعل سفرته مفاجئة لذويه وأحبته.. ذهب الى القنصلية العراقية لاستحصال تأشيرة دخول لكونه قد أسقط عنه ,وعلى مضض جنسيته العراقية.. وطار البصراوي وهو يحمل شوق أثنتين وعشرين سنة قضاها بعيدا عن مدينته وأهله وأصدقائه..
وعند فتح باب الطائرة كان قاسم أول من وضع رجله وشم هواء بغداد الحبيبة..وصل الى الكونترول وقدم جواز سفره الاسباني وفيه تأشيرة الدخول..سأله ضابط برتبة ملازم أول..هل تحمل الجنسية العراقية..أجابه قاسم والبسمة تفترش على وجهه.. لا .. أردفه بسؤال أخر..ما أسمك الثلاثي.. قال..قاسم حسين محمد.. وما أسم عشيرتك..أجابه مسرعا..وضع الضابط الجواز على جنب.. وبدت الحيرة تعلو وجه قاسم..وسأل الضابط..هل هناك مشكلة ما.. أجابه الضابط .. ستعرف كل شئ بعد قليل.. حضر أثنان يرتديان بدلتين أنيقتين وربطتي عنق.. سأله أحدهم.. جم سنة صارلك بالخارج.. أجابه قاسم وهو متعجبا.. 22 سنة.. ليش تسألني هذا السؤال.. لم يجيبا قاسم بأي شئ..
بعد نصف ساعة أخذ قاسم الى غرفة في مطار بغداد الدولي.. وتعرف على شاب كان مؤدبا وأخذ يمازحه ويبعد عنه التوتر والارتباك..وبعد ذلك أخبره هذا الشاب وهو من رجال المخابرات العراقية بالمطار.. أن هناك تشابها بين أسمه وأخر من المجرمين..تعجب قاسم لهذا الالتباس والتشابه وأعتقد أن الامر مر بسهولة..ألا أن رجل المخابرات أودع البصري في سيارة ثم وصل بناية قريبة من المطار.. وأودع قاسم في مكان قريب من مطار المثنى .. وكانت زنزانة تضم عشرة موقوفين ينتظرون التحقيق منذ ستة أشهر..
أربعة أشهر بالتمام والكمال قضاها قاسم في سجن للموقوفين, وتهمته تشابه بالاسماء ليس ألا.. وكانت الصدفة حينما عرف قاسم أحد ضباط السجن وهو من أهالي البصرة أيضا..وكان سببا في تمكين قاسم أجراء مكالمة هاتفية واحدة وكانت مع السفارة الاسبانية التي هرع أحد موظفيها بعد عشر دقائق فقط من الوصول اليه والاستفهام منه.. وفي اليوم الثاني خرج قاسم البصراوي من مكان التوقيف, وطلب من موظف السفارة الاسبانية الذي كان بأنتظاره, أن يوصله الى المطار.. وظل ست عشرة ساعة ينتظر بصالة المطار الى حين جاء موعد مغادرته الارض العراقية وهو يبكي مفجوعا وكله ألم وحسرة..
وما خفي كان أعظم
طلب قاسم البصراوي أن تنشر قصته وبدون ذكر الاسماء..وقد يأتي يوما تستبدل فيها أسماء العراقيين بأرقام أو كودات تجنبا لوقوع تشابه في الاسماء.. فالمجرمون يتنزهون في فضاء بغداد والمتشابهون في أسمائهم يقبعون ظلما وجورا.. يا معين!!
مقالات اخرى للكاتب