الموصل - لا شك - انها مدينة ذات أهمية ستراتيجية كبيرة جغرافيا وسكانيا واقتصاديا . المدينة تقع في شمال العراق ، وترتبط بحدود دولية ، كما تحاذي اقليم كردستان ، وتضم أطيافا عرقية ودينية مختلفة ، كما انها تكتنز ثروات كثيرة في باطنها ، وتشتمل على مجموعة من المصانع والشركات والمؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة .
تشكل عسكريا بوابة لعبور الإرهابيين من سوريا وتركيا ، وتعتبر ثغرة في أمن اقليم كردستان ، فيما توفر السيطرة عليها من قبل الإرهاب عمقاً للامداد اللوجستي القادم من خارج الحدود .
تم دحر الإرهاب عن المدينة على يد القائد العسكري ( ابو الوليد ) مع مجموعة من المنتسبين المدربين يبلغ عددهم تقريبا ٨٠٠ عنصر ، فيما تم أسر نحو ١٤٠٠ إرهابي وقتل العديد منهم . أصبحت المدينة بعدها امنة ، ويخشى الإرهابيون الاعتداء على فرد من العسكر ، فضلا عن التفكير في استهداف المدينة وقادتها .
تم تسليم المدينة لاحقا الى قيادات اخرى ، وتمركزت فيها قيادة للعمليات ، والتي يشرف عليها ( مهدي الغراوي ) . وفعلا قام الغراوي بضبط الأوضاع وفرض هيبة المؤسسة العسكرية ، حتى بدء حركات الاعتصام ، حيث طلب اعتقال المشاركين فيها باعتبار ان الكثير منهم مطلوبون للقوى الأمنية ، غير انه جوبه بالرفض ، فبدأت الأمور يفرط عقدها .
مدينة الموصل تختلف كثيراً عن الرمادي ، فهي مدينة تضم أطيافا عرقية ودينية مختلفة ، ويتميز أهلها بالمدنية ، وتضم مدنا مختلفة ديموغرافيا ، لذلك لا تعتبر امنة كثيراً للإرهابيين ، ولا يمكن توفير الحاضن المناسب فيها بصورة مناسبة ، بخلاف مدينة الرمادي ، التي تتميز بطيف ديموغرافي متجانس ، يميل الى البداوة والغنائمية ، ويتميز ببعد طائفي ، وتصحر فكري ، مما يوفر غطاء مناسبا للإرهاب ، ويمكّنه من إيجاد الحواضن المناسبة .
انا شخصيا متأكد ومعتقد بشجاعة الجندي العراقي وبسالته ، وقد رأينا كيف يحتضن بعض المنتسبين أجساد الإرهابيين الانتحاريين ليدفعوهم بعيدا عن إيقاع الضحايا ، فتتناثر أجسادهم حماية لأبناء وطنهم ، فيما يقاتل عناصر الجيش بروحية الانسان الذي يؤمن بوطنه ، ولو توفرت لهذا الجيش قيادة مناسبة مخلصة وجدية لأنتهى عصر الإرهاب منذ فترة طويلة .
لكن سقوط الموصل يخلق تساؤلات كبيرة ، بعيدا عن الاتهام ، لكن لا يمكن قبول سقوطها عسكريا دون طرح مجموعة من الأسئلة المهمة ، والتي تحتاج إجابات تنفع في تشخيص الخلل لاحقا ، كما انها تساؤلات عن حقيقة ما يجري ، وعن مسؤولية القيادة العليا للجيش . ونحن هنا نتحدث عن سقوط ( قيادة العمليات ) ، لا عن انهيار سرية او كتيبة .
قيادة العمليات - لمن لا يعرف واقعها - تقارب بنحو ما قيادة الفيلق في النظام القديم للجيش العراقي ، ومهمتها تنسيق المهام والحركات بين القطعات العسكرية والأمنية ، كما انها تشرف عمليا على سير المعارك على الارض . وتتوزع هذه القيادات على مناطق مختلفة من العراق ، مثل قيادات عمليات نينوى وعمليات الأنبار وعمليات دجلة وعمليات بغداد وعمليات بابل وعمليات الجزيرة والبادية وعمليات الفرات الأوسط وعمليات الرافدين .
للعراق اليوم جيش من 17 فرقة عسكرية تقريبا، مع فرق اقليم كردستان ، يبلغ تعداد الفرقة الواحدة نحو 14000 جندي . وقد تغير النظام العسكري في الجيش العراقي من الثلاثي الى الرباعي ، حيث أصبحت الفرقة تتكون من 4 ألوية .
وتتوزع الفرق على عموم العراق ، لكن يتكثف وجودها في مناطق الحدود مع ايران - وهذا امر مستغرب - وفي المناطق الساخنة وحواضن الإرهاب . وعلى الرغم من الخطر القادم من الحدود الغربية للعراق الا ان الكثافة العسكرية في الحدود الشرقية اكبر منها في الحدود الغربية ، ويبدو ان ذلك عائد لترسبات العقلية التاريخية لضباط الجيش العراقي - الذين تمت إعادتهم من كبار ضباط الجيش السابق - ، حيث يتمثل في ذهنهم عدو مفترض زرعه نظام البعث في خيالهم لا يمكن لهم تناسيه ، غافلين ان هذا العدو المفترض - ايران - هو اليوم حليف ستراتيجي للعراق ، لذلك تنتشر هناك الفرق عدة فرق ! . اما في الحدود الغربية فتنتشر الفرقة 7 وحرس الحدود .
عند استعراض توزيع القوات العراقية المنتشرة في المناطق الساخنة ابتداء من بغداد نحو الشمال نجد انها تشكل مطحنة كبيرة لكل من تسوّل له نفسه الاعتداء على حرمات هذا الوطن ، كما اننا سندرك استحالة ان تفكر قوى الإرهاب باستهدافها فضلا عن إسقاطها ، لكن يبدو ان هذه القوات تعاني أزمة قيادة حقيقية ! .
تتوزع في بغداد الفرق 6 و 11 و 17 ، اضافة الى الفرقة 1 من الشرطة الاتحادية ، و ثلاث فرق من جهاز مكافحة الإرهاب ، وهناك الفوج 9 كوماندوس . وهناك ابتداء من منطقة التاجي باتجاه ديالى الفرقة 9 المدرعة . والفرقة المدرعة يضم كل لواء فيها - أربعة ألوية - نحو 70 دبابة t72 او أبرامز ، و نحو 18 دبابة بي ام بي ، وهناك الأفواج الميكانيكية التي تضم نحو 40 ناقلة جنود مدرعة ، يساندها منصات هاون 113 .
في الأنبار تنتشر انطلاقا من الحدود الفرقة 7 ، تساندها قطعات من الفرقة 8 المستقرة في الديوانية ، بالاضافة الى ثلاثة ألوية مدرعة ، وهناك فرقة 1 تدخل سريع ، وفرقة من الشرطة الاتحادية ، وفي منطقة النعيمية قرب الفلوجة فرقة من قوات النخبة من جهاز مكافحة الإرهاب ، وهي القوات ذات التدريب العالي والتجهيزات الأحدث .
في كركوك تنتشر قطعات الفرقة 12 ، الى جنب قطعات قوات البيشمرگة الكردية وقوات الشرطة الاتحادية ، كما هناك قطعات تحت إمرة عمليات دجلة .
وفي مدينة تكريت تنتشر الفرقة 14 الميكانيكية . وتضم الفرقة الميكانيكية نحو 105 دبابة رئيسية و 27 دبابة ناقلة بي ام بي و ما يقارب 200 مدرعة نقل و 126 مدرعة استطلاع و 45 همفي ومدافع 122 ملم ومنصات هاون 81 ملم و 120 ملم ومدرعات سترايكر الامريكية الناقلة للجنود . وفي مدينة سامراء تتواجد قطعات الفرقة 4 ، بالاضافة الى الفرقة 2 من الشرطة الاتحادية .
في ديالى تتمركز الفرقة 5 ، و اللوائان 2 و 4 تدخل سريع ، كذلك الفوج 8 كوماندوس . وفي بعض مناطقها تنتشر قطعات من قوات البيشمرگة .
اما في مدينة الموصل - محور البحث - فتتمركز قطعات الفرقة 2 ، بالويتها 5 و 6 و 7 ، اما اللواء 8 فيتواجد في مدينة الفلوجة ، وهناك أيضاً الفرقة 3 في سنجار ، والتي يتمركز لوائها ٩ في تلعفر ، كما يوجد في الموصل اللواء 3 تدخل سريع ، والفوج 7 كوماندوس ، والفرقة 3 من الشرطة الاتحادية . فيما تضم مدينة الموصل واحدة من اهم مخازن الجيش العراقي في الغزلاني ، وهي مخازن ضخمة جدا وثرية . وفيها أيضاً عدة مطارات عسكرية . فيما تتواجد على بعض مناطقها قطعات من قوات البيشمرگة الكردية .
بدأت قيادة الجيش مؤخراً بتحويل بعض هذه الفرق من فرق مشاة الى فرق ميكانيكية او مجوقلة ، لذلك تضم الكثير من الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود ، والكثير من كتائب المدفعية .
واهم دبابات الجيش في هذه المناطق هي من نوع أبرامز الامريكية و تي 72 و 55 و بي ام بي و ، ومدرعات السترايكر و بي تي أر 80 و كاسكفال و دزك 3 و بادجر ، بالاضافة الى سيارات الهمفي ، وهي في الغالب مدرعات قوية ومسلحة . ويبلغ مجموع المدرعات التي تملكها القوات العراقية اكثر من 3700 ، تكون كثافتها العظمى من بغداد باتجاه الشمال الى الموصل . هذا بالاضافة الى العديد من انواع المدرعات والناقلات المسلحة الاخرى .
ويتوفر للقوات أعلاه غطاء جوي مناسب لمواجهة العمليات الإرهابية جداً ، لكنه غير فعّال واقعا بسبب هيمنة العناصر المناوئة للعملية السياسية على الكثير من مفاصله . حيث تتوفر مجموعة من المقاتلات والمروحيات ذات المنشأ والأداء والوظيفة المختلفة ، مثل F16 وسيسنا ، و UH , و MI 28 بنحو 30 طائرة ، و MI 17 v5 بنحو 32 ، و AG بنحو 24 ، و مثلها من طائرات EE ، وثلاثة انواع من طائرات Bell مجموعها تقريبا 60 طائرة ، و MI 8T بنحو 22 ، هذا بالاضافة الى طائرات جديدة تم استلامها مؤخرا .
اما حسب إحصاءات مؤسسة غلوبل فاير باور المنشورة إلكترونيا لسنة 2013 فقوة الجيش العراقية النارية هي ( 396 دبابة حسب إحصاءات 2012 بالإضافة إلى 2.643 عجلة قتال مدرعة مع 500 قطعة سلاح محمولة مضادة للدروع و 9000 عجلة لوجستية و278 طائرة مع 129 طائرة هليكوبتر فيما يمتلك 88 قطعة مختلفة من زوارق حربية ودورية وساندة مع عدم امتلاكه لأي غواصة أو فرقاطة أو كاسحة الغام ) .
ان الناظر لحجم هذه القوات وامكانياتها - التي أغفلنا الكثير منها ومن خصائصها بسبب عدم التخصص - لن يصدق أبدا انها ستنكسر امام عدو مماثل لها في العديد والعدة ، لما يحمله الجندي العراقي من بسالة وعناد وحنكة ووطنية ، فضلا عن تصديق انكسارها امام مجاميع من المرتزقة وقطاع الطرق والبدو ! .
ان الموصل كانت اكثر المناطق الساخنة إحكاما من قبل الجيش العراقي ، لأسباب ديموغرافية وعسكرية ، وتمتع قائدها مهدي الغراوي بالشدة والحزم في معاملة المتطرفين ، حتى اصبح للجندي العراقي هيبة تفرض على الجميع احترامه وخشيته . الا ان وصول قائد القوة البرية ( علي غيدان ) الى المدينة ومن ثم سقوطها صباحا - دون قتال - يثير تساؤلات كثيرة وكبيرة . ان علي غيدان هو وقائد عمليات صلاح الدين ( قاعدة سبايكر ) علي الفريجي و عبود گنبر المشرف على عمليات الأنبار من القادة المقربين للقائد العام ، لذلك نرى ان استسلام هؤلاء الثلاثة - دون تعرضهم لهجوم حقيقي او حتى إطلاق نار - طلسم خطير ، يجب حلّه .
ولمن لا يعرف حقيقة ما جرى في الموصل نقول : انه لم تتعرض قيادة العمليات لأي إطلاق نار ولم تستشعر وجود خطر حقيقي ، وهذا واضح جداً من خلال الصور التي وزعتها ( رويترز ) ، وتم استلامها من ( داعش ) فارغة من العسكر ، بأسلحتها ومعداتها ومخازنها العتيدة . وفي حين كان الجنود البواسل يقاتلون طلائع داعش كان القادة قد انسحبوا نحو ( ملاذ المطلوبين للعراق ) كردستان ، بعد ان هربت الحلقة الأهم ( صغار الضباط ) وأغلبيتهم من الأكراد والسنة العرب ! ، مما أوقع الجنود تحت طائلة التيه والحيرة ، ثم الصدمة بعد معرفتهم بهرب قيادتهم .
ومن يتصور ان القوة الداعشية المهاجمة قادرة على إسقاط الموصل فهو واهم جداً ، ونجيبه ان نفس قوات داعش اتجهت نحو قضاء ( تلعفر ) لإسقاطه - بعد انهيار الجيش - الا ان أبناء تلعفر نصبوا السواتر بجهود فردية للأهالي وحملوا السلاح ، وفشلت داعش في دخولها ، رغم انقطاع تلعفر عن اي دعم لوجستي ، ورغم حصارها الدائم ، فكيف تسقط هذه الماكنة العسكرية امام سيارات البدو فيما تصمد مجاميع شعبية صغيرة ؟! .
وقد غابت القوة الجوية وطيران الجيش تماماً عن ساحة معركة الموصل ، ليكون الجنود وحسب هم حطب المجهول ، مما جعلهم يتوزعون بين مقاتل ومتسائل وفارّ .
ولعل أسوأ منظر سيحفر في الذاكرة العراقية - بالأخص العسكرية - والذي لا يتناسب وتاريخ هذا الجيش المقدام هو الاستسلام المخزي لقائد قاعدة ( سبايكر ) علي الفريجي ، وانتشار صور هذا الرتل الجرار للجنود المساكين ، والذين يبلغ عددهم ما يقارب 4000 جندي ، تقوده سيارتان للبدو !!! .
وقاعدة سبايكر تتبعها قيادة عمليات صلاح الدين وكلية القوة الجوية ، حيث يعني سقوطها السيطرة على اهم قاعدة حيوية في المنطقة . وقد استسلمت امام بضعة سيارات داعشية بمجموعة من البدو ، قبل ان يطلقوا عليها النار ، حيث اخبر الفريجي الجنود ان هناك طائرات ستقلهم الى بغداد ، ثم بعد ذلك أبلغهم انهم مجازون جميعا ، وطلب منهم الخروج من باب القاعدة ، ليجدوا سيارات البدو بانتظارهم ، فقادتهم سيارتان في منظر مؤلم جدا ! . ولعل نكبة قاعدة سبايكر كافية لإعدام كل الكوادر العسكرية التي تسببت بانكسار هذا الجيش المضحي .
ويمكن القول ان كل المعدات والآليات والخزين الاستراتيجي لهذه الفرق العسكرية الضخمة اصبح غنيمة لمجاميع ( داعش ) البدوية ، بل ان هذه المجاميع سرقت كل الناقلات الكبيرة في مدينة الموصل ، بالاضافة الى مئات الملايين من الدولارات التي اغتنمتها .
اما منظر الخزي الاخر فهو موقف ( الأخوة ) الأكراد بعد انسحاب جنود الجيش الوطني العراقي - تحت وطئة الخذلان والغدر - ، حيث قايضوا الجنود على أسلحتهم مقابل دخول كردستان وملابس مدنية رثّة !!! ، فيما هم يبنون كردستان بأموال جنوب العراق !.
ولا استغرب هذا الموقف من شريك مفترض لا يملك هوية محددة للعلاقة مع باقي الشركاء ، وليثبت لاحقا ان الأكراد هم المستفيد الوحيد مع داعش من احداث الموصل وما تلاها ، حيث اقتضموا ( كركوك ) بالكامل ، واغتنموا عدة الجيش العراقي . والأنكى انهم يؤون - كعادتهم - الخونة من القادة الهاربين ، بعد ان تسبب صغار الضباط الأكراد في عمليات الموصل - مع ضباط من الموصل ذاتها - بانهيار منظومة الجيش العراقي هناك .
ان المؤسسات السياسية والعسكرية الكردية تثبت يوميا انها ( دولة مجاورة للعراق ) ، وتعيش معه مشاعر العداوة ، رغم انها تبني مؤسساتها بخيرات المناطق الجنوبية منه !.
وإذا كان هناك من يريد شواهدا لمقالتي فما عليه الا المتحدثين باسم المجاميع المسلحة المتطرفة من قلب مدينة ( أربيل ) ، كعبد الرزاق الشمري ، الذي قال بصراحة : ان داعش تمثّلنا ! . لذلك لن يشفع للساسة الأكراد ان قواتهم تقاتل المجاميع المسلحة اليوم ، لأننا حين نجمع المعطيات المتناقضة لهم سنخرج بنتيجة انهم يقاتلون لاقتضام أراضي جديدة ، ودفاعا عن مصالحهم .
اما المجاميع المسلحة فهي تقاتل اليوم طائفيا لا سياسيا ، والدليل انهم يقيمون في مدن الأكراد ويحترمون قواتهم وساستهم ، رغم ان الأكراد جزء من العملية السياسية والحكومة ، التي تدعي هذه المجاميع الإرهابية انها تقاتلها رفضا لظلمها ، بمعنى ان هذه المجاميع تستشعر العداء لشيعة اهل البيت لا اكثر ، وترغب بعودة الحكم القمعي للنظام البعثي المنحل ، بالتعاون مع الأفكار الهدامة الظلامية للقاعدة .
ان النخر في المنظومة العسكرية للجيش العراقي الجديد بدا واضحا بعودة كبار الضباط ( الصداميين ) من الجيش المنحل ، والذين كان اغلبهم ناقما على العملية السياسية والوضع العراقي الجديد ، حيث ارتبط الكثير منهم بالمنظمات الإرهابية ، سيما تلك التي شكّلها الضباط الموالون لحكم البعث .
بدأت - بخطوة سريعة غير مفاجئة - شبكة تموين الجيش بالانهيار عند استلام هؤلاء الضباط العائدون لمهام القيادة في الجيش العراقي الجديد ، ثم ظهرت مشاكل الوقود الرديء ، وبعدها انتشرت كل مظاهر الرشوة و ( التبرعات ) ، لتصل بهم الأمور الى ضرب شخصية وكرامة الجندي العراقي ، في عودة الى أساليب الجيش الصدامي .
ولعلّ ادعاء ان إعادتهم لأسباب مهنية مرتبطة بالخبرة وتماشيا مع المصالحة الوطنية اثبت كذبه وخطأه ، حيث لم تكن خططهم تنفع في خنق الإرهابيين او دفعهم بعيدا ، فضلا عن القضاء عليهم .
من المعروف عسكريا - اثناء مواجهة العدو - ان الجيش يعيش ثلاثة مراحل ، الصدمة وما بعد الصدمة واحتواء الصدمة ، لكن للأسف - رغم الإنفاق الهائل للجيش العراقي وتسليحه ومرور سنين وإعطاء المئات من الشهداء - لازال الجيش يعيش تحت هذه القيادات المترهلة مرحلة الصدمة ! .
ان اهم الأسباب لذلك تتمثل في عدم امتلاك الكثير من الضباط الكبار والقادة لهوية وطنية تعيش واقع العراق الجديد ، كما ان الكثير منهم لازال مرتبطا بالفكر الصدامي ، في حين يعيش بعضهم ارتباطات سياسية بعيدة عن المهنية والشرف العسكري ، تجعلهم جزءا من دوامة اللعبة السياسية وتصفية الحسابات ومشاريع تقسيم الكعكة . كما ان الغالب على مجاميع من هؤلاء الضباط الفساد الاداري ، الذي انهك الجيش وجعله تحت رحمة الصدف ، وقد إزاحت موجة الضباط الفاسدين اغلب الضباط الشرفاء عن طريقها وجعلتهم وقودا على الارض يتم حرقه قربان لعبهم ، ولعله لم يعد خافيا ان الحصة الأكبر للفساد الاداري تتمثل في مؤسسات وزارة الدفاع .
اما ستراتيجيا فهؤلاء القادة اثبتوا فشلا عسكريا كبيرا ، تشهد عليه هذه السنون التي مضت ، دون ان يستطيعوا إنجاز مهامهم ، بل انهم فاجئونا بنمو مطرد للقواعد الإرهابية كنا نحسب انه مستحيل ، حيث قواعد الإرهابيين التي يتدربون فيها وينطلقون منها امام ناظر هؤلاء القادة !.
ويمكن التمثيل لهذا الفشل ميدانيا بما جرى للواء 53 ، الذي انهار تماماً ليلة دخوله مدينة الرمادي - قادما من البصرة - ، بسبب سوء التخطيط ، بل انعدامه ، وارتجالية العمل العسكري ، وفقدان الدعم اللوجستي والغطاء الجوي بصورة تامة . حيث تم نقل اللواء من مدينة البصرة الى الرمادي ، بطريقة مريبة ، ودون تدريب من اي نوع للجنود الجدد ، وغياب القوات الساندة برا او جوا ، ودون معرفة المراتب بالأرض !.
ولمن يحتاج مزيد بيان عن واقع الترسبات الذهنية والفكرية التي يعيشها كبار القادة والضباط فليدرس خريطة توزيع القوات المسلحة العراقية ، حيث تتكثف قوتها على الحدود الإيرانية ، متمثلة بعدة فرق ، رغم انها حدود لبلد حليف ، فيما ليس على الحدود السورية الملتهبة ومنفذ دخول الإرهاب - منذ 2003 - سوى فرقة واحدة ، اما الحدود مع مصدر التمويل الرئيسي للعمل الإرهابي ضد العراق المتمثل بالسعودية فليس هناك سوى نقاط متباعدة من حرس الحدود ومجموعة حواجز سلكية ورادارية !.
فيما كان تسليم قيادة مدينة مقدسة ومحورية واستراتيجية مثل سامراء لشخصية مثل ( صباح الفتلاوي ) يثبت ان التخطيط العسكري بعيد عن الفهم الواقعية ، لان المدن الجنوبية تعرف ان الفتلاوي منشغل كليا عن ممارسة مهامه بسلوكيات شخصية مهينة للرتبة العسكرية ومسببة لنفور العناصر الأمنية منه ، لهذا لا نستغرب ان يقيم الإرهابيون مقر قيادتهم على مسافة كيلومتر واحد من ضريح الإمامين العسكريين في مسجد ( الرزاق ) ، ولولا قتال الجنود البواسل بعقيدة الدفاع عن المقدسات وحماية مرقد الإمامين لكان الفتلاوي اليوم في خبر كان .
اما نقل أفواج شرطة المهمات من المدن الجنوبية للقتال في الرمادي ، وبلا ستراتيجية او خطط مسبقة أيضاً ، فهو دليل قاطع وكافي ان منظومة القيادة و الضباط الكبار ليسوا اهلًا لإدارة الملف الأمني . حيث دخلت هذه الأفواج ساحة معركة لم يتم تدريبهم على خوضها ، وبلا معرفة للأرض والعدو ، وبلا تموين ولا عتاد ، ولا حتى ناقلات مدرعة ، بل تم نقلهم بسيارات عادية !.
اما القوة الجوية وطيران الجيش فحقيقة ما يعيشون مجهول حاليا ، حيث ينقل لنا عناصر الجيش ان الطائرات لا تقصف مقرات الإرهابيين او تجمعاتهم غالبا ، بل تقصف بعيدا عنهم ، وان الكثير من ضباط هذه القوة يرتبطون بعلاقات ( اجتماعية ) و ( طائفية ) مع الإرهابيين وحواضنهم !.
ومن الملفت هو غياب التعاون ( التركي ) مع الجانب العراقي ، رغم ان هذه المنظمات الإرهابية القادمة من سوريا - والتي عادت بغنائمها الى أراضيها - تحظى بدعم مطلق من الجانب التركي . ومن المحزن ان تركيا لها حصة مميزة من الكعكة العراقية اقتصاديا ، حيث ترتع شركاتها في خيرات العراق وأراضيه ، تحت ظل المؤسسة الحكومية العراقية المركزية والمحلية ، مما يثبت رعونة في إدارة وسائل الحرب ، ويظهر ضعفا سياسيا واضحا ، ويكشف عن صفقات تحت الطاولة بعيدا عن المصالح الوطنية للعراق .
ان محاسبة القيادات المتخاذلة وإعادة تقييم المنظومة العسكرية ودراسة نتائج رجوع الرتب ( الصدامية ) ووضعية الجندي العراقي تحت رحمة القيادات الفاسدة وحلّ اللوبيات التي تشكلت داخل الجيش والنظر في وضعية المؤسسات العسكرية الحيوية - كالقوة الجوية - من حيث الولاءات وحقيقة الشعور بالانتماء للعراق الجديد مهمة وطنية ومجتمعية ، لابد من ادائها ، والضغط باتجاه تنفيذها بكل السبل والوسائل ، ومن قبل كل المؤسسات الرسمية والدينية والشعبية والدولية الصديقة .
ان إيقاع الاتهام في الانكسار اللامنطقي واللامعقول لقيادات الجيش على عائلة ( ال النجيفي ) و ( مؤامراتها ) دون دراسة حقيقة القيادة في الجيش العراقي سذاجة من قبل الاعلام الذي يسير مع الموجة . فالقادة الثلاثة ( علي غيدان وعبود گنبر ومهدي الغراوي ) من الصعب جداً توقع خضوعهم لآل النجيفي ، هذا في الموصل ، اما خارجها فكيف نفسر انسحاب الفرقة المتواجدة في الزاب وحرق مقراتها ، وكيف نفهم تسليم قاعدة سبايكر وقيادة عمليات صلاح الدين وكلية القوة الجوية وتسريح 4000 جندي من قبل علي الفريجي ؟!.
ان الجندي العراقي شرس وعقائدي ، كما ان الدفاع عن حرمات ومقدسات البلد تدفعه لمزيد من التضحية ، وقد اثبت دائماً انه المقاتل العنيد ، ولا نشكك لحظة بجاهزيته وقدرته . لكنّ وجود منظومة قيادة غير واضحة الاستراتيجية والأهداف والولاءات يجعله عرضة لخطر كبير ، ويضعه في واقع غير منتج . والغريب ان الجندي يكون عرضة للمحاسبة ، فيما ينجو القادة برعونتهم وسوء أفعالهم ، بل يزدادون نفوذا !.
ان الدعوة ل ( الجهاد الكفائي ) رفعت معنويات أفراد القوات المسلحة وزادت من همتهم ، وتشكل ضرورة لدفع الخطر الناجم عن العقلية البربرية لأعداء العراق الجديد .
لكن - حتى نكون واقعيين ونتحرك بخطوات منطقية لا تفسدها العاطفة - من الضروري ملاحظة وإدراك ان الجيش العراقي لا يعاني مشكلة ( عددية ) ، بل انه يتمتع بالعدة والعدد ، لكنه يعاني أزمة قيادة ، ومشكلة ارادات . لذلك فدعوة الشباب العراقي للتطوع تحت قيادة نفس الوجوه العسكرية ( الصدامية ) دون مراقبة ومحاسبة ووضع النقاط على الحروف ستكون مجازفة كبيرة ، ولن تكون منتجة ما لم تتم محاسبة وإعادة هيكلة المنظومة القيادية للجيش . لان اي انكسار بعد هذه الدعوة سيفتح الباب امام الإرهاب لرفع المعنويات ، فيما يحدث انكسار جديد في الشخصية العسكرية العراقية ، وسيضرب عمق الوجدان العراقي وضوابطه القيمية .
وقد ظهرت - للأسف - بوادر ستسيء لهذه الدعوة في مراكز التطوع ، حيث طلبت القيادات الحالية لبعض مراكز التطوع الجنوبية من كل متطوع ان ( يُسلّح نفسه ) فيحضر سلاحه معه !!! ، كما اشترطت توقيعه على عقوبة ( الإعدام ) في حال الفرار !. فيما ترى بعض القيادات الأمنية تشكيل ألوية من المتطوعين وإبقاءها في المدن الآمنة ، مقابل إرسال ( أفواج الشرطة ) الحالية للقتال في المناطق الساخنة ! ، وهذه مجازفة كبيرة ، بعيدة عن الاستراتيجية العسكرية ، وتعيد نفس الأخطاء السابقة التي حدثت في معركة الرمادي ، حيث لا يمكن ادخال هذه الأفواج غير المدربة و ( الروتينية ) في ساحة معركة مع عدو ( مستميت ) يفوقها تجهيزا .
وهذا ما يثبت ان قياداتنا لازالت تعيش الارتجالية وتسير بالدفع العاطفي ( القاتل ) ، وغير ملتفتة لضرورة عصرنة هكذا دعوات عبر الإشراف على تنفيذ خطواتها العملية من قبل متخصصين وجهات وطنية تستشعر المسؤولية والخطر .
لذلك يجب تأمين الدعوة وجعلها عملية من خلال تشكيل ( جيش رديف ) ، لا يخضع لنفس القيادات ، ويعتمد في تشكيلاته على العناصر العقائدية ، ويكون عمقه في العشائر العراقية التي لها تاريخ جهادي ، ويستفيد من خبرة المنظمات التي قاتلت الاحتلال الامريكي بنضوج ، او التي حملت السلاح تحت راية العقيدة . فابناء العشائر الذين تطوعوا للدفاع عن حرمات الوطن ومقدساته يمتلكون من الحماسة ما تحتاجه ساحة المعركة ، كما يتمتعون بقدرات قتالية ناشئة عن خبرتهم في حمل السلاح ، فيما تتمتع العناصر العقائدية برغبة الاستشهاد في سبيل قضايا وطنها ومقدساتها .
ويمكن الاستفادة من الاتفاقيات التي أبرمت مع الدول الصديقة في تسليحه وتدريبه ، تحت إشراف مباشر من الحكومة العراقية .
والملفت للنظر والذي يبعث فينا تساؤلات مهمة هو غياب الوعي الكافي من قبل الحكومة المركزية او الحكومات المحلية في إدارة ملف الجبهة الداخلية ، كملف الأمن الغذائي والأمن الإعلامي ، حيث تغيب السلطات الرسمية عن حقيقة ما يجري في شارع المدن الآمنة ، التي يريد ( البعثيون ) و ( الانتهازيون ) ركوب موجة الأزمة لضربها ، تحت مظلة الأوهام او الطمع ، وهو امر يجب الانتباه اليه ومعالجته جذريا .
• الاحصاءات الخاصة بانواع الاسلحة والاليات وخارطة توزيع القوات للاعوام 2012 و 2013 , لذلك من الممكن تغييرها باستمرار .
مقالات اخرى للكاتب