سيُظن بي سوءا كوني اتناول فوز الالمان المستحق بمونديال البرازيل في عقر تراب اميركا الجنوبية فيما غزة تلتهب . كلا ، رغم ان الموضوع يستحق ان يفرد له تناول خاص . فالحدث كبير وحسبه انه استقطب اهتمام اكثر من مليار شخص من سكان المعمورة اطال الله اعمارهم بخير وعافية وفيسبوك . قبل اقل من اسبوعين اذل لاعبو المانيا البرازيل بنتيجة كروية ساحقة . كان هذا امام الكواليس وعلى مرأى ومسمع الملايين بمن فيهم المكفوفون ، اما خلف تلك الكواليس فكانت برلين تهىء بحنق حقائب سفر مدير الاستخبارات الاميركية في المانيا تمهيدا لطرد شره من البلاد والعباد . والمتابع يتذكر التوتر الذي ساد العلائق بين الطرفين قبل نحو شهرين عندما طفت الى السطح فضيحة التجسس الاميركية على مكالمات الحاجة الحديدية انجيلا ميركل . لاشك ان ما بين المانيا والولايات المتحدة من عرى الشراكة والمصالح ما لا يفككه حادث عابر مثل هذا ، لكنه – لا شك - يلقي بقطرة حبر سوداء في مسيرة الروابط الثنائية التي لا ترضى المانيا الا ان تكون متوازنة وغير مخدشة بكبريائها الوطني الصارم . اكاد اجزم ان اكثر من نصف حكومات العالم لم تكن لتتصرف مثل التصرف الالماني لو انها واجهت مشكلة مشابهة . اما حرجا او خوفا من التداعيات . وهذا النصف ناقص واحد يفضل ان يبقي على علاقة حسنة مع واشنطن عاضا على نواجذه طاويا جناحه على الجراح ، هذا اذا كان يشعر انه جرح فعلا . الجميع يعلم ان سفارات الدول هي عبارة عن اوكار مخابرات و بؤر استخبارات من ابرز مهامها استطلاع الاوضاع ونقل ما تيسر منها للبلد الام . ولا باس في توسيع دائرة الاهتمام للبلدان المجاورة في حال توفر ما يثير الشهية . هذا امر متفق عليه ضمنيا بين دول العالم . ومن لم يصدق فليلق نظرة على ما نشر من تقارير السفارة الاميركية في طهران قبل سقوط صنمها الفهلوي ، ليرى الاهوال بأم عينيه . فالحكومات – خاصة الرصينة منها – لا ترسل الام تيريزا او المهاتما غاندي سفراء لها . فاذا حدث وكان السفير ملاك رحمة فان من بين اركان السفارة من يكفيه مؤونة شمشمة ولملمة الاخبار . انني على يقين بان المانيا لم تكن لتبدي رد فعلها القوي هذا لو انها كانت في زمن الضعف وانهيار القوى ، لانها حتى في زمن انهيارها كانت تتصرف بعقل ، والعقل يقول ان الضعيف لا يحترم . في ذلك الوقت كانت المانيا تضمد جراحها الغائرة وتعد العدة للظهور كقوة عظمى متوازنة ثم بعد ذلك تستطيع ان تقول قولتها الماضية في عالمنا المعاصر . من يطلع على ما تعرضت له المانيا من قهر في نهايات النصف الاول من القرن الماضي لا يستطيع ان يتخيل كيف يتحول ذلك الانهيار المتكامل الى "سوبر باور" يوشك ان يمسك اكثر من بلد اوروبي من الترنح امام تسونامي الانهيار الاقتصادي الذي تعرضت وتتعرض لها اكثر من عاصمة . المانيا التي لا ترتضي اليوم ان تهان اراضيها بالتجسس الاميركي هي نفسها التي تبرع الاميركان والانكليز بمليون جندي من اسراها - لوجه الله - لفرنسا لاصلاح ما دمروه في الحرب العالمية الثانية . وهي نفسها المانيا التي تكبدت خسائر بالارواح بلغت عشرين مليون قتيل . وهي نفسها التي اختفت معالم 75 في المئة من مدنها الجميلة ومساحاتها الخضراء . وهي نفسها التي احتفظ الروس بمئات الالوف من اسراها لاكثر من عشر سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية للاستفادة منهم كعمالة مجانية في اعادة اعمار الاتحاد السوفياتي . لكنها العنقاء المانيا التي نفضت عن جسدها الانقاض ودرست تجارب امسها القريب المريرة ومنحت لعقولها الممتازة المساحة الكافية للابداع ، ظهرت على الساحة من جديد كرائدة من رواد الفكر و الديموقراطية الحديثة في العالم المعاصر . كل ذلك انطلق بجدية بعد عام 1948 اي بعد ثلاثة اعوام من نهاية الحرب العالمية فقط . وهذا التاريخ هو نفسه الذي شهد ولادة الغدة السرطانية في جسدنا على ارض لا تتجاوز مساحتها عشر مساحة المانيا . ومنذ ذلك اليوم ونحن نتخبط من شر هزيمة الى ذل هزيمة ، ونتنقل من حضن نكبة الى مستنقع نكبة . لكن الله منحنا – كما نريد - جباها لا تعرق وعيونا لا تستحي و افواها لا تكف عن التشدق بالضجيج الخاوي ، وقادة ذادة عن السمسرة بالارواح ، واذاعات لا تتوقف عن احياء معالم المذيع المريع احمد سعيد . وما علينا الا انتظار المزيد من الاذلال والهوان مؤكدين قولة القائل : ما لجرح بميت ايلام . طاب رمضانكم وكل الشهور
مقالات اخرى للكاتب