مع بواكير تشكل الوعي المراهق ، كانت تتضاعف الاسئلة المتمردة في ذهني بمتوالية هندسية . وكنت اعجب ممن لايطرح اسئلة حتى مع نفسه ... اسئلة ، الكثير منها بقي مكبوتا حتى اليوم خشية التفسيرات القاسية التي ربما تضعك في خانة مجحفة لا ترى نفسك جديرا بها . اتذكر جيدا اليوم ، عندما ارتقى الخطيب المنبري الاعواد وقد ترك كل بشائر القران وبدأ خطبته العصماء بـ "اقترب للناس حسابهم " ثم عرج على " يوم ترونها تذهل كل مرضعة " ثم انتقل بانسيابية الى " نزاعة للشوى " ، كل ذلك كان يمهد به لاقناع السامعين بقرب ظهور الامام المهدي كون الفساد انتشر في البر والبحر . ولأنه من كبار خطباء عهده ثقافة وصوتا واداء ، فان المجلس كان وكأن على رأسه الطير . صمت مطبق ولا صمت القبور ، لاتسمع فيه حسيسا ولا نجوى ، الا الانفاس الصاعدة بحسرة على التفريط ما في جنب الله ، و زميلاتها النازلة بخشوع مخيف . ها قد مر اكثر من اربعة عقود على ذلك التاريخ ، وخلال السنوات الاربعين يكاد لا يمر يوم الا و اسمع فيه عن تحذير من اقتراب موعد الظهور مدعوما بعشرات الروايات الجاهزة عند الطلب . غير ان مشكلة هذه الروايات انها مطاطية مطواعة "فلكسبل" وتصلح لعهد الاسكندر المقدوني كما تصلح لمرحلة حكومة المقبولية في بغداد . هذه الروايات تشبه الى حد بعيد وضع المصريين الذين توافدوا زرافات ووحدانا على العراق للارتزاق في ثمانينيات القرن الماضي . تحتاج لاستاذ جامعي ، يبرز لك شهادة دكتوراه . تحتاج لمنظف سيارات يبرز لك ديبلوم تنظيف "مايباخ" الالمانية ... يعني بتاع كُلّو !!! عندما حاججت احد زملاء العمل المسكونين بقرب موعد الظهور حدَّ تجمد العقل ، قلت له انني اصبحت يائسا من هذا الاقتراب ، لانني ازداد عنه بعدا منذ اربعين عاما . لكن زميلي الذي لا يعرف انني امضيت نصف عمري تحت اعمدة المنابر اعاد على مسمعي نفس القوانة : " لا وداعتك ابو مجيد ، الفساد الان بلغ ذروته وماكو مجال بعد ، حته الله ميقبل ". وحكاية الفساد - لايخفى عليكم - امر نسبي . فعند الامام علي بن الحسين"عليهما السلام" غفلة لحظة عن ذكر الله ربما تندرج ضمن حدود الفساد . فهل يستوي الناس في نظرتهم للفساد مع زين العابدين ؟ عندما ظهرت موضة الميني جوب صور البعض الامر وكان الامام المهدي استنفر سفراءه و وضع اخر لمساته النورانية على سيفه قبل الاعلان الرسمي عن الظهور . وعندما رحل الامام الخميني من العراق الى فرنسا عبر الكويت خرج من يخبرنا بان هذه الرحلة التاريخية هي استجابة لاوامر الحجة وقد همس بها في اذن السيد ابي احمد "رحمه الله" . ثم انتصرت الثورة الايرانية فاشرأبت الاعناق لتكون شاهدة على ظهور رايات الفتح المبين من خراسان . ثم تسنم الامام الخامنئي القيادة فظهرت روايات تشير الى ان هذه القيادة ستسلم المفاتيح للامام المهدي ، و تناقل الخطباء رواية مفادها ان قائدا مشلول اليد سيسلم الامام رايته ، في اشارة لاصابة المرشد الايراني في يده اثر هجوم بربري في طهران . ومع موت كل ملك سعودي او ظهور حركة تململ في مملكة النفط تظهر روايات تقرب الظهور فنتلمس اعناقنا رهبة وخيفة فيبتسم المستضعفون في الارض وكأننا المسكبرون . ومع كل حماقة ترتكبها الادارة الاميركية في التعامل مع ملفات الشرق الاوسط تلتمع السِنة و اسنة الظهور . و الحماقات لا تنتهي ، و معها تعسف الروايات لا ينتهي ايضا . ظهرت اثارات مثلث برمودا فتقافزت روايات الجزيرة الخضراء التي يقودها الامام المهدي . تعطلت اجهزة ضخ البنزين في الكويت فاتهموا الامام المهدي بتعطيلها بطاقة ماورائية خارقة . حتى الصحون الطائرة عصبوها براس الامام المنتظر ... وها نحن نعيش دوامة الرعب في كل لحظة من لحظات هذا العمر الفاگِس . أخر مهازل علائم الظهور واشراط الساعة ، كان هجوم آل سعود على اليمن السعيد جدا !!! لا ادري لماذا لا يتحدث احد عن هذه الروايات قبل ظهورها لنتاكد من انها نبوءة حقيقية . ما ان يحدث الامر حتى تجد الروايات المعلبة تتسابق الى اسماعنا منذرة بالويل والثبور وعظائم الامور من قرب الظهور . المهزلة ان احدا لا يعتذر عندما ينتهي الحدث من دون ظهور اي ظهور ... والحال ، ان اساس فكرة الظهور هو اشاعة العدل وزهق باطل ، اي انه بشرى اكثر مما هو تهديد او اشاعة رعب . حتى بشرى اقامة العدل الالهي بين البشر استكثروها على ادمغتنا وحولوها الى افلام هيچكوك... هل ثَم تلاعب بمصائرنا اكثر من هذا ؟ ترى في يد من اودعنا أمسنا المصادر و حاضرنا الملغوم و سنودع غدنا ايضا ... انها اكف عفاريت فلا تلتفتوا اليها . آمنوا بالله وكتبه ورسله واعملوا صالحا ، و الله ضامن لكم جنانا بوسع رحمته عرضها السموات والارض . امسنا صادرتموه بالتهديد . يومنا اختطفتموه بالوعيد . اتقوا الله في غدنا فهو ليس ملكنا ، انما ملك اطفالنا الحالمين بدين بشير ايضا وليس نذيرا فقط.
مقالات اخرى للكاتب