مدخل
======
بين تفجيري آب 2003 في مقر مكتب الامم المتحدة وتفجير تموز 2016 في قلب الكرادة المروع , ثلاثة عشر عام من الفشل الامني الذريع ومن الاصرار الغريب على البقاء عمداً في دائرة الفشل
برغم مامزقنا خلالها العاصمةَ بإجراءآت امنية وسيطرات وقطعات عسكرية وجدران وقطع شوارع وزيادة هائلة في عناصر الامن داخل العاصمة قد تصل الى مائة ضعف على ماكانت عليه عام 2003, مع توسع كبير في القطعات والتسليح والدبابات والطائرات والخبرات والرتب , حتى اصبحت بغداد اشبه بمعسكر كبير, فلماذا ياترى لم نحقق الامن لحد الان؟؟؟ولماذا لم نستطع منع الارهاب من ان يضرب اينما شاء ومتى ماشاء؟؟؟.
وماسنحاول ان نثبته هنا ان لا أمن بلا معرفة لنوايا العدو ومخططاته , فلا أمن بلا استخبارات.
==========
علاقة عكسية
==========
علاقة الامن (ونعني به الشعور بالامان) بالاستخبارات علاقة عكسية , فحين يكون العدو بعيداً عنك وعن تهديدك يرتفع امنك وينخفض دور استخباراتك , وحين يكون العدو قربك فلن تشعر بالامان وينخفض امانك وتكون طريقتك لتحقيق الامان من خلال الجهد الاستخباري العالي .
ولتوضيح ذلك نضرب مثلاً في الجبهة , ففي الجبهات هنالك ساتران بينهما ارض حرام تفصلنا عن العدو, فاذا كانت ارض الحرام بين الخطين الدفاعيين 2000 متر فيكون الامان قوياً بالرغم من الضعف الاستخباري الناجم عن بعدنا عن العدو وعدم تمكننا من رصد تحركاته لانه بعيد, وهكذا يزداد شعورنا بالامن كلما زادت المسافة بيننا وبين العدو لأن فعاليته في ايذاء قواتنا ستكون اقل , فلا يؤثر علينا باسلحته الخفيفة كالاطلاقة والقاذفة وجميع الاسلحة الخفيفة (اي يرتفع الامان), وفي ذات الوقت تتراجع امكانية رصد العدو فلانستطيع سماع محرك دبابة العدو حين تتحرك للهجوم (فتنخفض الاستخبارات) , اي كلما ارتفع الامن والامان فاننا نتمكن من الحصول على قدر كاف من الراحة بالرغم من المستويات المنخفضة من الاستخبارات .
والعكس صحيح , فكلما اقتربنا من العدو اصبح امننا ضعيفاً لاننا في مرمى نيران العدو بكافة اسلحته , وسنتكبد خسائر جسيمة لايمكن تقليلها الا بالاستعاضة عنها بالعمل الاستخباري الذي يمكننا من ترصد حركة العدو قبل ان ينقضَّ على قواتنا , فيكون خيارنا هو الاستخبارات القوية لان امننا ضعيف .
اي اننا حين نكون بمرمى نيران العدو وامننا ضعيف , فلاينفعنا الا ان تكون لدينا حيطة استخبارية قوية تمكننا معلوماتياً ان نتجنب الخسائر الجسيمة , فمابالك حين تكون الحياة لصق العدو , وتكون المسافة بيننا وبينه صفراً!!!!!, حينها يكون الامن صفراً وتكون الحاجة القصوى الى استخبارات قوية كي تمكننا من رصد مخططات العدو قبل ان يفترسنا.
فلو طبقنا تلك المعادلة السابقة على وضعنا الامني في بغداد مثلاً سترى ان العدو(الارهابي والانتحاري) يشبهنا ولا نميزه فهو عراقي ويحمل مستمسكات عراقية ويركب عجلة عراقية ويعيش معنا في المحلة والزقاق والمسجد والسوق بل قد يكون داخل المؤسسة الامنية او الحكومية او ان يكون عضواً في مجلس النواب (تفجير مجلس النواب مثالاً) , وفجأة يفجر نفسه , اي ان الامن مفقود وبمستوى الصفر لاننا لا نميز عدواً غريباً او ان له لهجة او لون او طباع مختلفة او زياً يميزه , هنا لن يكون لنا طريق لتحقيق الامان الا من خلال الاستخبارات , ومن هنا نقول كلما اقتربنا من العدو فإن امننا يصبح ضئيلاً وتتعاظم حاجتنا للعمل الاستخباري .
=============
الحلول العسكرية
=============
ان مكافحة العدو لها ثلاثة حلول هي :
1- الحلول العسكرية .
2- الحلول الامنية .
3- الحلول الاستخبارية .
وقد بينا في مقال سابق ان العمل الارهابي ينقسم الى نوعين , ارهاب سري اي خلايا ارهابية تعمل داخل المدن بالخفاء , وارهاب علني يكون بشكل يشبه الجيوش النظامية كما في حال جيوش داعش التي يقاتلها جيشنا الباسل في جبهات القتال .
بالنسبة للحلول العسكرية , فان طبيعة الاشياء تعلمنا ان الجيوش تتصدى لها جيوش بشكل علني في الجبهة , والعمل السري يتم التصدي له بعمل سري مضاد , وكما ان العلاج الطبي غير المناسب لايشفي المريض , فكذا الحال مع الارهاب حيث لاجدوى للعمل العسكري مع الارهاب السري لان طبيعة عمل كل منهما تختلف عن الاخر وادوات كل منهما تختلف عن الاخر.
لقد بنيت الجيوش لتقاتل عدواً واضحاً وعلنياً كحالة الارهاب العلني اثر احتلال الموصل والجبهة وقواطع المعركة وخطوط الصد والسواتر .
في تلك الحالة ترى الدور الهام والحاسم للجيش ولذا شاهدنا الانتصارات العسكرية للجيش في معاركه البطولية مع العصابات العسكرية لداعش .
اما وجود الكثافة العسكرية داخل المدن , فانها منهكة للعسكر ومقلقة للمدنيين وتدلل اننا لانمتلك اية معلومات عن العدو الذي يرانا ولانراه لانه يميز العسكر وهم لايستطيعون ان يميزوه .
فالعسكرة غير قادرة على مكافحة الارهاب السري اطلاقا, ولا يمكن منع الاطلاقة الخارجة من فوهة بندقية الارهابي حتى لو جئنا بالجيش كله الى بغداد ولكن يمكن ان نمنع الاطلاقة حين نستمكن مكان الارهابي استخبارياً ونعتقله او نقتله امنياً.
فالجيش يحتاج ان يشاهد العدو ويستخدم الاسلحة بانواعها (ثقيلة ومتوسطة وخفيفة), وان يكون له منطقة تحشد واسناد ناري وحقل الغام واسلاك شائكة .
ان استخدام الجيش داخل المدن هو تدمير لروح العسكرة وافساد المؤسسة العسكرية ووجودها , ويجب ان يعاد انتشاره خارج المدن ضمن مفهوم وعلم الجغرافيا العسكرية.
ان استخدام الجيش في المدن يتم بأوقات معينة ومحدودة وقصيرة جدا , واذا ما زادت فانها تؤدي الى فساد ضباط الجيش والتأثر بالحياة المدنية وتداخل الصلاحيات مع الشرطة والامن وايذاء المواطن وتؤدي الى شعور المواطن بالخوف وعدم الامان كما يفقد الجيش نصف او اكثر من قدرته القتالية عند الانتشار داخل المدن وتزيد الاحتكاكات مع المواطن ويتم فقدان حالة الضبط و استغلال القوة والسلاح للقيام بأعمال جنائية.
ولايخفى على القاريء اللبيب ان يلاحظ , ان اغلب المدن سقطت بيد داعش و كان فيها الجيش منتشر لعده سنوات ولم يكن مانعاً لسقوط المدينة , كما ان انتشاره لحد الان داخل بغداد لم يكن مانعاً من تزايد الارهاب والعمليات الاجرامية.
الانتشار العلمي والصحيح للجيش خارج المدن له فوائد كبيرة في حفظ الامن وزيادة معنويات الاجهزة الامنية وموازرتها, ضمن قلاع مستحكمة تكون جاذبة للارهاب وتستعدي الارهاب , ومن خلال عمليات نفسية يمكن توجيه الجهد الارهابي الى قلاع الجيش كما كان الحال مع لواء الذيب عام 2005 .
فلم يكن اللواء سوبرمان انذاك , لكن التركيز الاعلامي على اللواء وقيادته ونشر اخباره من قبل الامريكان باستمرار جعل الارهاب يفكر دوما بالانتقام منه , وبالفعل تعرضت مواقع اللواء الى الكثير من الهجمات والمفخخات في عملية استعداء قوية مما خفف الزخم على ضرب المدن وصنع في ذات الوقت عامل خوف للارهابيين خلف جدران قلعة مخيفة تثير فضول الارهابيين ومخاوفهم.
لقد اثبتت التجربة ايضا ان القلاع والمعسكرات مثل سبايكر والحبانية والبغدادي قد صمدت بوجه الارهاب ولم تسقط , ولو تأتى لشهداء سبايكر البقاء داخل المعسكر لما طالتهم المجزرة , ولو كانت قيادة عمليات نينوى وقطعاتها قد انسحبت الى معسكر الغزلاني لكانت الى الان تقاتل ويصلها الدعم ولكن دخولها وانتشارها في الموصل جعلها كمراكز الشرطة.
===========
الحلول الامنية
===========
اما بالنسبة للحلول الامنية , فان استخدام الامن بشكله الوقائي ,ولسنوات طويلة , اصبح بلا جدوى , ونحتاج الامن لكن باسلوب ذكي وعلمي وبشكل بنى تحتية لتقليص الخطر لا لمنع العجلة المفخخة التي انطلقت لتضرب مكاناً داخل المدينة والتي لايمكن منعها بالسيطرات ودليلنا الاف السيطرات في العراق والاف التفجيرات طيلة اكثر من عقد من الزمان , بل ان الطوابير على السيطرات الامنية تشكل الهدف المرجو للارهابي والانتحاري ليضرب التجمعات .
ان اجراءت الامن لها حدود ومنطق , وعندما تصبح غير مفيدة يكون الاصرار عليها نوعاً من الحمق والغباء , وعندما يتكرر الخرق الامني يتصاعد الغضب الشعبي وتتصاعد التساؤلات عن جدوى التحوطات الامنية الحكومية وتصبح القناعة العامة هو ان كل اجراءت الامن فاشلة وعاجزة, كما حدث ويحدث في بغداد , فالمواطن يعلم ويتكلم ويستهزيء بالسيطرات التي اصبحت منذ سنين دون جدوى.
================
الحلول الاستخبارية
================
ان الارهاب يمر بخمسة مراحل متدرجة تبدأ بالفكرة فالتنظيم فالاستعداد فالتخطيط فالتنفيذ , وتعد السيارة المفخخة والعبوة الناسفة والانتحار بالحزام ومجموعة الاقتحام والاغتيالات كلها من نتاجات المرحلة الخامسة والاخيرة في الارهاب .
فاذا امسكت الاجهزة الامنية اواعترضت وقبضت على عجلة مفخخة فهذا فشل وليس نجاح كما يتوهم البعض , لانه مؤشر من ان الارهابيين قد نجحوا في اربعة خطوات واننا لازلنا نقاتل الارهاب في مرحلته الاخيرة وسوف يرسل لاحقا عجلة اخرى , فنمسك بواحدة ولكن تنفجر اربعة عشر غيرها في يوم واحد , لان العجلة المفخخة كالاطلاقة التي تخرج من فوهة البندقية, لايمكن منعها.
فالارهابي فكر وعبّأ وغسل ادمغة اعوانه ودربهم ووضع الخطط وجهز العربة المفخخة ووضعها في الشارع , وصادف ان شك بالعجلة مواطن او شرطي او حتى سيطرة امنية , لافرق , وكشفت العجلة , ولكن ماذا عن كل من فخخوا وجهزوا ومولوا وخططوا , لاشيء , وماذا عن العجلات التي لم يشك بها احد , وهل نحن اجهزة دولة ام في جلسة لعبة محيبس رمضانية ؟؟!!!.
اما مايحدث في الغرب فان البنى التحتية القوية والاستخبارات الذكيه تقاتل الارهاب في المستوى الثالث اي في مرحلة الاستعداد وتمنع تجهيزه وتدريبه ومؤونه وسلاحه , فهو غير قادر على ان ينتج عجلة مفخخة بشكل سريع وسهل , اي ان مرحلة الاستعداد غير مكتملة عنده لكي يستطيع بعدها دخول مرحلة التخطيط ومن ثم التنفيذ.
والواقع ان الدول الكبرى تعتمد اعتمادا اساسيا على الاستخبارات وهي ذاتها تفشل في الخيار العسكري , فطالبان عندما ظهرت الى العلن تم تدميرها خلال ايام من قبل الجيش الامريكي ولكن هذا الجيش لازال منذ سنين يكافح الارهاب السري لطالبان في افغانستان دون جدوى .
فالجيوش غير قادرة على مكافحة عدو لا يشاهد بالعين, والامن ايضا غير قادر على مكافحة العدو السري , نعم قد يقيد حركته ويعيقه ويؤخره ولكن لا يقضي عليه.
نحن بحاجة الى اعتماد خيار الاستخبارات في مكافحة الارهاب السري , شريطة ان تكون الاستخبارات الذكية والفاعلة والتي تمتلك اذرعاً تخترق التنظيمات الارهابية .
اما الاستخبارات التي تعتمد الاخبار وما يدور في الصحف والاشاعات وتستند على الاحتمالات والفرضيات بدون معطيات فوجودها كعدمها .
فلو كان لدينا مائة مصدر حقيقي في داعش متوزعين في جلِّ اذرع داعش لكان الشعب العراقي يتذوق الامان دون عسكرة واجراءات امنية وفوضى وتحويل المدن الى معسكرات.ان الفرصة مواتية الان للاستثمار الاستخباري , فبعد وقوع داعش في الضعف نتيجه القتال فان الكثير من عناصر التنظيم تخاف من المجهول ويمكن من خلال مؤسسة استخبارية محترفة تجنيد المئات منهم في كل مفاصل التنظيم قبل ان ينكمش التنظيم ويذهب للعمل السري الخطير وعندها يصعب التجنيد اثناء العمل السري بحكم تقلص الاعداد والسريه المطلقه والاختفاء والفرصه الان سانحه لتجنيد ما نحتاجه من مصادر.
============
اهمية التناغم
============
ان كلا من الجهود العسكرية والامنية والاستخبارية مهمة في مقاتلة اي عدو ولاسيما العدو الارهابي الحالي الذي ينوع اذرعه مابين الارهابين السري والعلني ويجمع بينهما .
فالبناء الامني يجب ان يكون مقابل الارهاب بشكل قادر على استيعاب العدو الخفي والدخول الى منظومته السرية , فيجب ان تكون دفاعاتنا على عدة مراحل , دفاع استخباري غير محسوس ومن ثم شرطوي ومن ثم امني وبعدها قوات سوات وقوات خاصة عند الحاجة واخيرا استقدام الجيش للضرورة القصوى ولبضع ساعات فقط.
ويجب ان تكون الاستخبارات خط الدفاع الاول لمواجهة الارهاب ومن ثم المنظومة الامنية وتليها المنظومة العسكرية
وعلينا تجزئة التهديد الارهابي وعدم التعامل معه جملة واحدة , وان نتبادل الادوار بين المعالجات الثلاثة .
ان إعمال كل اساليب الاستخبارات الثلاثة .. الهجومية والدفاعية والوقائية كخط اول وساتر اول لمواجهه العدو , وعلى جهاز الاستخبارات الزحف على مراحل الارهاب من مرحله التنفيذ الى التخطيط الى الاستعداد وحتى مرحلة التنظيم ومنع البندقية من اطلاق الرصاصة.
من ثم يتم اثر ذلك تطبيق الامن بكل مستوياته . الامن الوقائي والامن الاحترازي والامن المعلوماتي بشكل علمي وصحيح دون افراط وتفريط وكخط دفاع ثانٍ, ليأتي بعد ذلك الانتشار الصحيح للجيش واعاده التنظيم وتطبيق علم الجغرافيا العسكرية ضمن الحصون وبالاماكن المناسبة ليكون الجيش الخط الثالث والداعم المعنوي لرجل الاستخبارات والامن
ليأتي بعد ذلك الدور الهام في تطبيق البناء والبنى التحتية للامن بالشكل المطلوب وزيادة الوعي الشعبي والدفاع الشعبي ضد الارهاب ومن ثم تشريع الضوابط الداعمة للامن والاستقرار ونزع قابلية وصول الارهاب الى كل العوامل المساعده للتخريب من خلال سد الثغرات بالشكل العلمي والصحيح , والله الموفق
مقالات اخرى للكاتب