تأثر الناس بالشائعات ، يمتد عميقا في التاريخ الإنساني ، منذ ان كان الأنسان لا يفقه سرا من اسرار الطبيعة المحيطة به ، ولم يكن يملك الوسائل الكفيلة بتلبية حاجاته ،على بساطتها قديما ، وأرى ان الناس عندما بدأ يتشكل وعيهم الأولي ، دخلت الإشاعات في هذا التكوين على شكل المعتقدات الخرافية والأساطير ، حيث كان لضعفهم امام جبروت محيطهم الدور الفاعل في ذلك ، فالوعي ألإجتماعي كما معلوم هو إنعكاس للواقع ألإجتماعي . إذ يرى علم النفس الإجتماعي إن الشخصية تتأثر في تكونها باربعة عوامل تتفاوت درجة تأثيرها في بناء الشخصية نذكرها مرتبة حسب قوة تأثيرها :
1) العامل الإقتصادي
2) العامل الإجتماعي
3) العامل الجغرافي
4) العامل النفسي
فإذا تصورنا لدينا مستطيل مقسم افقيا الى اربعة حقول كما في الشكل
العامل الإقتصادي
العامل الإجتماعي
العامل الجغرافي
العامل النفسي
هذا المستطيل يمثل الشخصية ، ونجد ان العوامل الأربعة المؤثرة تقع في الحقول الآربعة ايضا كل حسب تأثيره ، ولتصبح هذه الصورة اوضح ، نفترض ان هناك قطرا للمستطيل ممتدا من الزاوية العليا الواقعة في جهة المستطيل اليمنى ( الجهة اليسرى للقارئ ) الى الزاوية المقابلة لها ، نجد ان تأثير العامل الإقتصادي يأخذ جزء كبير من الحقل الأعلى ، وتأثير العامل الإجتماعي يأخذ مساحة اقل ، فالجغرافي فالنفسي اقل ما يمكن . مع ذلك فإن الشخصية الإنسانية تقع تحت تأثير هذه العوامل . فقد قيل إن الأنسان وليد الظروف الإقتصادية الإجتماعية.
هذا الواقع يدفعنا الى القول ان معتقدات الناس وتصوراتهم غير المعقولة وايمانهم بالأساطير على مر الزمان مرده الى الشائعات وليس ابلغ مما ذكره العلامة بن خلدون في مقدمته الصفحة 3 ، 4 ، 5...... 11 حول ما يقوله المؤرخون امثال بن مسعود وغيره ( فكثيرا ما وقع للمؤرخين أو المفسرين وائمة النقل من المغالطات في الحكايات والوقائع لإعتمادهم على مجرد النقل غثا او سمينا ولم يعرضوها على اصولها ولا قاسوها بأشباهها.............. إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ..... )
خطورة الإشاعة أذن إنها تجد لها موقعا ، مؤثرا ليس فقط بين اوساط الناس البسطاء وانما تعدتهم الى المؤثرين في الرأي كما ورد عند بن خلدون في مقدمته .
مما تقدم يمكن القول ان عدم التأكد من صحة الخبر او الحدث الذي يُروى دون التأكد من مصدره ، ومعقوليته ، ومبالغته يخلق الإشاعة .
تعريف الشائعة : هناك تعريفان غاية في الأهمية للشائعة
الأول : تعريف العالمين الأمريكيين جوردن البورت وتلميذه بوستمان حيث جاء هذا التعريف في كتابهما المشترك سايكولوجية الشائعة :
الشائعة هي أصطلاح يطلق على موضوع ذو اهمية وينتقل من شخص الى آخر عن طريق الكلمة الشفهية دون ان يتطلب ذلك البرهان او الدليل.
الثاني : تعريف جون مازنوف في كتابه علم النفس الإجتماعي :
الشائعة : هي ضغط إجتماعي مجهول المصدر يكتنفه الغموض والإبهام ، ويحضى عادة باهتمام قطاعات عريضة من المجتمع
معادلة انتشار الشائعة كما وضعها البورت وبوتسمان في كتابهما المذكور:
إن إنتشار الشائعة يخضع لشرطين اساسيين هما :
1) اهمية الشائعة
2) غموض الشائعة
ولذلك فإن :
شدة سريان الشائعة = الأهمية × الغموض
اي ان الشائعة تنتشر انتشار النار في الهشيم كلما زاد غموضها وزادت اهميتها .
وسرية تأخذ الشائعة في الإنتشار اثناء الظروف التي يكون فيها الضغط النفسي والقلق العام على مصائر الشئ الذي تدور حوله الشائعة او في فترات التغيرات السياسية والإجتماعية ، وحين تكون هناك شحة في المعلومات من مصادر الإعلام في الدولة او في حالة تعمد الدولة او المهيمنين فيها على ضخ الكذب اوالمبالغة في المواضيع المعينة بهدف تضليل المواطنين . فيتم خلق الحكايات او الآخبار التي يتناقلها الناس بدون التفكير بمصداقيتها ، وفي الأغلب تكون هذه المواضيع مبالغا بها ايضا سواء بتهويلها او التقليل من شأنها .
مع تطور وسائل الإتصال ، وجدت الشائعات مجالا خصبا للإنتشار ، ويستخدم مروجوها ، مواقع التواصل الإجتماعي بشكل واسع ، مستعيضين عن الأسلوب الكلاسيكي ( النقل شفاها ) ، فنلاحظ الآن إنتشارا كبيرا للمواقع الألكترونية التي تضخ الشائعات والأخبار المضخمة عن داعش مثلا وتصورها بالصور الجبارة والتي تبث الرعب بمقاوميها، وتنشر اخبار الدعاية المضخمة لها لجذب الشابات والشباب لصفوفها .ويبدو إن هذا الأسلوب نجح الى حد ما في تضخيم داعش وخلق الأسطورة حولها.
ويتوقف الدارسون للشائعات ومنهم علماء نفس اجانب تم ذكر بعضهم في هذا المقال اضافة الى مختصين نفسيين عرب منهم الدكتور فرج عبد القادر طه الذي يعمل حاليا استاذا متفرغا بقسم علم النفس بكلية الآداب – جامعة عين شمس ، وكان سابقا مدرسا في الجامعة المستنصرية في بغداد ، وعمل ايضا في عدد من الدول العربية في جامعاتها ولديه تعريف مهم للشائعة : هي عبارة عن خبر او قصة او حدث يتناقله الناس بدون تمحيص او تحقق من صحته ، وغالبا ما يكون غير صحيح او يكون مبالغا فيه سواء بالتهويل ام التقليل . ويشير الدكتور محمد عبد الفتاح المهدي رئيس قسم الطب النفسي في كلية دمياط – جامعة الأزهر في مقاله الموسوم ( الشائعات في عصر المعلومات ) ....(1) الى التفسيرات النفسية للشائعة ويأخذها من وجهة نظر المدارس النفسية المختلفة : فمدرسة التحليل النفسي تعتبرها انها القادرة على تحريك كوامن اللاوعي والإنفعالات المكبوته بينما ترى المدرسة المعرفية إن عدم الوضوح في المعرفة يخلق الإشاعة . وترى مدرسة الأحتياجات إن الشائعة تشبع الحاجات غير المشبعة
من خلال متابعة ودراسة الشائعات المختلفة والمنتشرة بين الناس لوحظ انها تتركز حول الأخبار الإجتماعية والسياسية خاصة في ظل التوتر الحاصل الآن في الوضع السياسي المتركز حول استكمال التشكيل الوزاري ، وخاصة الوزارات الأمنية تسري الشائعات حول عدد من الأسماء وقدرتها على إدارة الملف الأمني ، او عدم قدرتها ويتم خلط الأوراق وذكر الجهات المؤثرة سواء كانت اقليمية ام محلية وفبركة تصريحات متعددة لبرلمانيات وبرلمانيين حول مختلف القضايا الساخنة ، وخلق الأساطير المعينة عن هذا السياسي وقدراته وعن تآمر اعداءه ضده لمنعه من تسنم هذا المنصب او ذاك ورفع شأن سياسي آخر او ربما يكون العكس التحذير منه ، وقد يلجأ مروّجو الإشاعات الى النكات للنيل من السياسيين او من منافسيهم . اذن عندما تستهدف الشائعة شخصية معينة ، يضع مروّجوها نصب اعينهم أما تشويه سمعته او رفع شأنه فالهدف من الشائعة تغيير موقف الناس سلبا او ايجابا من المستهدف ، وهناك الشائعات المتعلقة بتخويف الناس من ظاهرة معينة او نشر اخبار عن إجراءات مستقبلية قد تكون تفاءلية او تشاؤمية ، بعض الأحيان يكون الغرض منها كبالون اختبار ، او كما يقول المثل العراقي يرمي حجارة في الظلمة ، لقياس الرأي حولها ، كما يحدث لدينا عندما يفبرك خبر لمسؤول رفض الكشف عن اسمه حول انباء عن احالة فلان الفلاني على التقاعد او الى المحكمة ...... الخ .
إن مروّجي الإشاعات ، ولكي تظهر بالشكل القابل للتأثير والتصديق ، يختارون ، موضوعا مؤثرا في المجتمع ، او متوقع الحدوث ، للحاجة الماسة اليه ، كموضوع الكهرباء ، الأسعار ، الحج ، او اي موضوع آخر يتمنى الناس حدوثه ، ثم يرتبون العناصر المكونة للخبر ، وملاحظة مدى ملاءمتها لتمنيات المتلقين ، ثم يقومون بنشر الشائعة .
فلنفرض إن الشائعة حول البطاقة التموينية ومفرداتها : تتم دراسة امنيات الناس حولها ، ولنقل إنهم وجدوا إن رغبة الناس تجمعت حول زيادة مفرداتها ، وتحسين نوعية المواد فيها ، فالشائعة الأكثر قبولا حول البطاقة التموينية ، التي تنص حول وزير التجارة مثلا إنه قال سننوع الإستيراد للبطاقة بحيث نختار اجود النوعيات في الأسواق العالمية ، وسنزيد عدد المفردات خلال الشهر القادم . مثلا . نلاحظ هنا إن عناصر الشائعة متكونة من اعلى مسؤول في وزارة التجارة ، ومن مواد البطاقة التي سيزيد عددها ومن نوعية المواد التي ستكون من افضل ما موجود في الأسواق . ومن الملاحظ ايضا ان هذه الشائعة تصلح للمجتمعات التي تستفيد من دعم الدولة على شكل البطاقة التموينية او ما شاكلها ، بينما لا تجد مفعولها في الدنمارك مثلا .
العالم الدكتور محمد احمد النابلسي في كتابه "سايكلوجية الشائعة" يذكر انواع الشائعات فيصنفها الى :
1: الشائعة الزاحفة : وهي التي تنتشر ببطء وسرية كالشائعات التي كانت تروّج في
زمن صدام
2: الشائعة الإندفاعية : لديها سرعة فائقة في الإنتشار ، لأنها تمس موضوعا مهما وملحا
3: الشائعة الغاطسة : تنتشر وتختفي مع تبدل الظروف
4: الشائعة الأمل : تنتشر في الوسط الذي يتمنى حدوثها
5: شائعة الخوف
6: شائعة الخيانة : في زمن الحروب تنتشر
7: شائعة البعبع : كما يحدث عندنا الآن ، وكما حدث عن إمتلاك العراق لأسلحة
الدمار الشامل كما حدث قبل إحتلال العراق من قبل امريكا .
8: الشائعة العنصرية
9: الشائعة التمييزية
10: الشائعة المتحولة : فيها جزء من الحقيقة .
للشائعات تأثير قوي في المجتمعات ، فهي البارومتر الذي يشير الى نوع الأزمات والأحتياجات ، بل وحتى المعتقدات ، وكذلك المعنويات خاصة ايام الحروب ، وعند الإحتقان السياسي ، ولدينا في مجتمعنا كثيرا ما نسمع مثلا عن ولي معين ( مقام معين ) ، له القدرة الهائلة على حل المشاكل الأسرية ، وشفاء الأمراض الخطرة، تناقله بين الناس فيتحول الى معتقد، وكثيرا ما يصار الى كشف الأسرار العسكرية وحركة الجيش عن طريق الشائعات ، وكما لاحظنا الأنواع المتعددة لها ، نلاحظ ايضا تأثيراتها الإجتماعية المختلفة . ومن الأهمية بمكان هو عدم الأستهانة بالشائعة وعدم تبسيطها ، وفي حالة الحرب يجب عدم الإستهانة بقوة العدو وخططه وعدم تهويلها، اي النظر الى الأمور بواقعية وصواب ، وهذا يشمل وقت السلم ايضا في عدم التهويل والإنجرار وراء الأحداث ، وعدم التقليل من شأن الشائعة واعطاء احكام دقيقة ، وواثقة من صحة فكر الدولة وسياستها ، ومن الضروري ان يتم كشف اهداف الشائعات واهداف المروّجين لها ، والقيام بحملة تثقيفية ضدها تلعب فيها منظمات المجتمع المدني ، ووسائل الإعلام واشكال الفنون دورا هاما في ذلك ، يرتبط كل ذلك بسياسة اعلامية مدروسة وذات شفافية تشبع فضول الناس واحتياجاتهم .
مقالات اخرى للكاتب