كنتُ في زيارة لإحد المهرجانات التراثية السنوية التي تقيمها الجاليات العراقية في إحدى المدن المهجرية.وخلال تجوالي بين فعاليات المهرجان الذي لم يكن يخلو من الأطعمة العراقية المميزة، إنسابت الى أنفي رائحة طرشي النجف النافذة والتي لا تترك الفرصة للمتحسس أي مجال للهروب منها، وحيثُ لا يضاهيها بنكهتها وجودتها وماركتها المسجلة غير طرشي "طه المَلَكْ" الموصلية، فالتفت الى من رافقني قائلاً بعفوية صادقة ونقية وبدهشة: "طرشي النجف"!!!!، فنظرت نحوي البائعة الثلاثينية وقد إختفت من على وجهها علامات السرور وحلّ محلها التجهم ونظرت لي شزراً قائلة وبتردد واضح: "آآآني ما أعرف طرشي النجف، هذا طرشي ......؟"، فإستدركتُ الأمر وقرأتُ المخفي في عيون المرأة المحتجّة وبحكم متابعتي لما يجري في بلدي من عجائب العراق (السبعمئة) ومآسيها والتي فاقت عجائب الدنيا السبعة ومباهجها!!!، وبعد أن قرأتُ اللافتة الإعلانية التي تعلن عن الإسم الجديد لطرشي النجف!!، قلتُ لها بلطف: "هذا طرشي النجف، أستطيع تمييزه من رائحته ولونه وطعمه" بعد أن مدت يدها بحاوية صغيرة تدعوني الى تذوقه!!.
كررت مضيفتي بلهجة أقل حدّة والطف نبرة في تأكيدها على إسم الطرشي الذي تحولت "ماركته المسجلة" قسراً من طرشي النجف الى طرشي مدينة عراقية أخرى نعشقها جميعنا أيضاً!!، فعرضتُ عليها رغبتي في شراء عُلبة منه تشجيعاً لوحدة الإنتماء لكل المدن العراقية!!!، وبالطبع أظهرت البائعة كرمها العراقي ـ الحاتمي في زيادة الكمية وإختيار الأجود منه، فشكرتها على كرمها، وهذا ما حدث!!!.
تجولت بعدها في بقية أروقة المهرجان فرأيتُ عُلَب "الشنينة" المصنوعة من لبن أربيل أو السليمانية الشهير، والذي أيضاً تحولت "ماركته المسجلة" الى لبن لعلامة ليس لها علاقة بجبالنا الشَمَّاء ووديانها وروابيها الجميلة!!.
فهيأت نفسي لرؤية كبة الموصل وقد مُسِخَ إسمُها!!، لِيُكتب عليها أسم إحدى المدن لبلد إقليمي مجاور نكاية بالكبة وأهلها الموصليين!!، والذين جهدوا في إبتكارهم لمحتوياتها وصناعتها منذ عصر البابليين والآشوريين، وكما أخبرني عنها العديد من المؤرخين الأجلاّء، وحيثُ يفتخر أهلها لإنفرادهم في صناعتها كإفتخار "هارلاند ساندرز" بصناعته لدجاج الكنتاكي (KFC)!!.فالى أين أنتم سائرون بنا يا أهلنا؟!!، فإذا كان هذا هو حال البعض ممن يعيشون في المهجر والمفروض أنهم قد نزعوا جلباب النزعات العشائرية السلبية عند خروجهم من باب الطائرة التي أقلّتهم الى أوطانهم الجديدة هرباً من هذا التعصب القبلي، وحيثُ أجبرهم على ترك ديارهم ومحبيهم ووطنهم الأم، منشدين لحياة مريرة بغربتها وسعيدة بخلوها من هذه الصراعات ومآسيها، فما بال إذن حال أهلنا في الداخل؟؟؟!!!.ولو سلّمنا جدلاً بما يحاول البعض تسويقه الينا، وبواقع الحال المرير القائل علينا بالتقسيم فالدم قد وصل الى (الرچپ)، فهل سيكون لهذا التقسيم خلاص وراحة بال للجميع؟!!، أم العكس؟!!.وماذا سنقسم، هل نقسم المناطق أم المدن أم البيت الواحد أم العائلة الواحدة، فيكون للزوج من هذه الطائفة غرفتين وصالة وولدين، وللزوجة التي تنتمي الى الطائفة الأخرى ما تبقى من الدار مع إبنتيها!!!، وعندما يريد أحدهما زيارة الأهل من إحدى الطائفتين في المدن المقسمة عليه أو عليها أخذ تأشيرة المرور لعبور الحدود!!، أو ان على أحد الزوجين أخذ تأشيرة (الدخول) الى مخدع الطرف الآخر عندما تصرخ العاطفة مستغيثة بمستحقاتها الإنسانية في داخلهما طلباً (للإتحاد) كجسد واحد!!.أم نقسّم بغداد الجميلة والحبيبة الى كرخ ورصافة ونقطع جسورها الثلاثة عشر ونقطع ماء دجلتها الخالد بالحبل!!، وعندما تجتمع العوائل ويتواعد الأصدقاء والخلان على أحد أطرافه ليتناولوا السمك المسگوف ذو الماركة العراقية المسجلة، وحيثُ جمعتهم هذه الأكلة فيما مضى ومنذ مئات السنين دون تمييز، فيتفاجئ المجتمعون على المائدة بصرخة أحدهم من الجهة المقابلة محتجاً على (سگف) سمكته الرصافية التي عبرت بطريق الخطأ الى جانب الكرخ أو بالعكس!!!، وينشب عندها الإقتتال من جديد؟؟؟!!!.وما ذكرته لم يكن طُرفة أو نُكتة لتلطيف المقالة وجعلها ساخرة أكثر من سُخرية ما نشاهده في مجتمعنا العراقي الحالي، ولا مبالغة أدبية أو نظرة سوداوية من لدن كاتب هذه السطور.
ففي شهر أب من سنة 1980م وعند ذهابي الى الحبانية لإستلام جثة شاب جامعي قريب لي غرق في البحيرة، جلب إنتباهي تواجد مكثّف لقوات الأمن والشرطة في المستشفى، وشاهدت بأم عيني سبعة جثث مرمية في حافظة التبريد لأفراد من عشيرتين تقاتلوا فيما بينهم على خلاف كان سببه سمكة تمّ إصطيادها من أحدهم!!!، وحيثُ فقد الطبيب المناوب هدوءه ورزانته صارخاً بوجه أفراد العشيرتين الذين جاءوا لأستلام الجثث، مؤنباً لهم بأقسى الكلمات على جهلهم وتخلفهم لتمسكهم بقوانينهم البدوية.
ومن يضمن لنا من أنّ التقسيم سيحل المشكلة!!، وسينهي الصراع الطائفي الذي وصل الى الحدود الغير معقولة من لدن جميع الأطراف، وحيثُ تجاوز البعض فيه حدود الإنتماء الوطني وخطوطه الحمراء مرحبين بتدخل تلك الدولة الأقليمية بشؤوننا الداخلية والسيطرة على مقدرات البلد وشعبه، أو بإحتلال هذه الدولة الإقليمية العسكري لأرضٍ عراقيةٍ.
لذا قررت أن أعلن إحتجاجي ومن أعماق أعماقي بعدم زيارتي بعد الآن لأي مهرجان (وطني) آخر يكون موحداً بيافطته الخارجية فقط، ويكون من داخله ممسوخاً ومتشرذماً بأهله وتراثهم، كما وعاهدتُ نفسي أيضاً أن لا أشارك في أية فعالية تراثية ما لم يعود سمك المسگوف البغدادي وطرشي النجف ولبن أربيل وكبة الموصل ليتصدروا مائدتي العراقية.
مقالات اخرى للكاتب