عندما كنت صغيرة، كثيرا ما كنت أسمع جدي يقول إن أربيل هي مدينة المساجد و تعج بالمتسولون ، وعلى غرار ذلك أستطيع القول إن باريس هي مدينة الكنائس وتعج بالمجانين فقد أنهكت أنظمة الحياة المجتمع الفرنسي لتؤدي بأفراده الى القلق ومن ثم الهلوسة والحالات النفسية المختلفة ، الأمر ليس مبالغا فيه كوننا نعيش في نظام رأسمالي قاس لايرحم ، وفي هكذا مجتمع اما ان تكون قوي العزيمة وتصمد في مواجهة الشدائد، وإما ان تفقد الإرادة فتخر يائسا وبائسا نتيجة ألارهاق الذي يهزم النفس ليؤدي بك الى فقدان ابسط القدرات الذهنية لتصل حد الجنون أحيانا .
أقول ذلك بسبب مشاهداتي ومراقبتي ومعايشتي للمجتمع الفرنسي عن كثب وما يحصل في جانب منه أحداثا تمس حياتنا جميعا ، قبل بضعة أيام ، وبعدعمل منهك في الجامعة، قصدت مساء وكالعادة الى محطة القطار وما ان وصلت المحطة حتى فوجئت بعدم وجود قطاريتجه الى باريس. بل هنالك اخرينطلق من إحدى المحطات بالضواحي متجها إليها لذا وبعد التدافع والتي كانت اشبه بمعركةحامية نجحت في الحصول على موطىء قدم في الباص، ومن هناك ذهبت الى محطة القطار، ولدى وصولي اليها فوجئت بأ فواج من الناس يتركونها والحيرة بادية على وجوههم ولا يعرفون كيف يعودون الى منازلهم ، فقد تم إقفال المحطة لعدم وجود قطار، وكان الزحام شديدا والسيارات لاتكاد تسير بسبب العراقيل واغلاق بعض الطرقات وتوهمت للحظة انني اجسد دورا في فلم امريكي مرعب أترقب كارثة ما، أخيراعدت الى المنزل مشيا والمسافة التي كنت اقطعها يوميا في نصف ساعة، قطعتها في ثلاث ساعات .
يومها وبعد استفساري عما حدث علمت أن رجلا في منتصف الاربعينات سجن نفسه في منزله و كان يطلق النار على جدران شقته لكي يهرب الجميع من البناية وعندها تدخلت قوات الامن والشرطة لتتفاوض معه وتقنعه بالخروج، يبدو ان الرجل كان متعبا و محبطا وما عاد يحتمل ضغط وقسوة الحياة ، بعد 10 ساعات تمكنت الشرطة من إخراجه بعد ان لجأ سكان المنطقة الى مدرسة قريبة وتم قطع جميع الطرق ومحطات القطار لأغراض امنية، الأمر قد يبدو طبيعيا للبعض وقد يقولون ان هذا ليس بالأمرالجديد وقد يحدث في أي مكان و يصيب أي إنسان ولكن عند التفكيرفي الأمر نجد ان شخصا واحدا استطاع أن يعرقل حياة المئات من الناس كما ان هذا النوع من الحوادث يزداد يوما بعد اخر .
بعد عدة أيام نعود لنسمع عن رجل أضرم النار في جسده على مرأى من الناس حالما سمع ان مؤسسة الضمان الاجتماعي حجبت راتبه، لأنه كان عاطلا عن العمل لمدة طويلة ليموت بعد فترة في المستشفى، و مختل آخر دفع مسافرا من على رصيف المحطة ما أدى الى وفاته اثر مرور القطار.
وتنتهي هذه القصص دائما بوصف وسائل الاعلام هؤلاء الأشخاص بالمختلين عقليا وانه تم اعتقالهم وحجزهم في مصحة للأمراض النفسية لمعالجتهم، لكننا كثيرا ما لانستطيع ان نميزما بين المجنون والعاقل، فغالبا وعند استجواب شهود تلك الحوادث يصفون هؤلاء الأشخاص بالعاديين ولا يعانون من مشكلات نفسية ، حتى بات الامرمقلقا ففي بعض الأحيان ينتابنا الخوف من أناس قد يبدون طبيعيين ولكنهم يتصرفون بغرابة و نتوجس ان الجميع من حولنا هم أناس غير أسوياء .
الامر في بعض المرات قد يكون طريفا ومثلما يقال شر البلية ما يضحك، فكثيرا ما أصادف شخصا في محطات المترو يغني بصوت عال ويسير ذهابا وإيابا ما بين المارة وكأنه ينشد النشيد الوطني بكل حماسة، أمر يبعث على الضحك وفي نفس الوقت يثير الحزن ومن اطرف المواقف التي شهدتها أن شخصا كان يرتدي بدلة ملونة وفي يديه باقة من الورود وبابتسامة بلهاء اقترب مني وانا أنتظر المترو ليقدم لي باقة الورد هذه وهو يقول " هل تقبلين الزواج مني ؟"
أمور غريبة وعجيبة تدفعنا الى التساؤل والتأمل وطرح أسئلة فلسفية عن هذه الحالات التي يصاب بها الناس، فبدلا من صنع أدوية لهؤلاء المرضى ، حري بانظمة هذه المجتمعات أن لاتخترع المرض لتبيع أدويتها ، او بمعنى آخرإن هؤلاء الأشخاص هم ثمرة ما يزرعه النظام بقوانينه ، وليست كل ثمرة بالضرورة تكونس يانعة وقابلة للاستهلاك..
مقالات اخرى للكاتب