في مدينة البصرة ، الواقعة جنوب القلب العراقي في محاذاة الحدود الميثولوجية لكوكبي عطار وزحل ونبتون ، كان يعيش زنجي اتى به اجداده الذين سكنوا المكان بعد ان اعلنوا توبتهم عن ثورة اشعلوها في العصر العباسي الثاني تسمى ثورة الزنج ، هذا الزنجي المتأفرقة ملامحه في كل شيء عدا روحه وشرايين دمه ففيها يسري بمحبة ماء شط العرب ، وحتى النخيل في التنومة لايطرب الى نغم ناي إلا أنغام نايه .
كان يسمى تومان البصري ، وهو ثاني مسمى أحببته وقد التصقت به المدينة لقبا والأول كان السندباد البصري .
تومان هذا حل ضيفا على شارعنا في الناصرية في حفل ختان اتى فيه معزوما لواحد من معارفه ، فكانت الحفلة في الشارع ، وكنت صبيا وقتها حين اسحرني العزف ورقص الرجل الذي التصقت دشداشته بجسده فبدى رقصه ممتعا وعجيزته خلفه تهتز مثل ذيل طاووس كبير الحجم ، وكان يعزف ما يختاره هو . وعندما اصر احدهم وكان مفوض أمن ويخشاه الجالسون أن يعزف ما يتمناه هو انفجر تومان في وجهه قائلا : لسنا عبيدكم ايها التيوس .
مرت الحادثة بسلام لأن المفوض كان اميا ولم يفقه معنى كلمة تيوس .
أتذكر هذه الحادثة وقد كثر التيوس في حياتنا ، وبالرغم من اننا احرار ابناء احرار في ثقافتنا وسلوكنا واحلامنا وتظاهراتنا وفقرنا وخبزنا وعلاقاتنا الغرامية إلا انهم يصرون على أن نكون نحن العبيد ازاء هياكلهم الورقية لشعورهم أنهم بثراء الراتب واساطيل السيارات والشركات وشراء العقارات والمناصب وتأسيس المولات وشركات الانتاج والابراج العالية وشراء اللوحات الغالية الثمن والاحجار الكريمة وفساتين دور عروض الازياء والسفر الى باريس وروما وبرلين ولندن متى شاؤوا ، بعقال او جبة او افندية أو بشورت قصير أو نقاب .
نعم في داخلهم يعيش التباين وينظرون الينا بأبتسامات ماكرة على اننا اصدقائهم وهم يعلمون جيدا أن الصداقة لن تكون واجبة وحقيقية بين انسان يملك 500 مليون دولار وآخر لايملك ثمن جهاز تكييف يقيه لهيب تموز ولايستطيع ان يشتري لابنه قميصا من قمصان نادي برشلونه يحمل الرقم عشرة الذي يحمله ميسي.
تلك المفارقة بين فلان الثري والمسؤول ورجل الاعمال والشيخ والامير والملك والنائب البرلماني ، وبين الفقير الموظف وعامل الاجور اليومية وعتال الميناء واطفال المناديل الصحية في تقاطع الطرقات هي من تبقي استعادة غضب ثورة سبارتكوس وزنوج البصرة والقرامطة قائمة ـ وربما تنفجر فيها حوصلة التأريخ وتحدث فوضى تلك العبارة التي اشعلتها كلمة سبارتكوس الروماني ذات يوم :لن نكون سائسي خيول لوجوهكم الكئيبة يا سنتورات روما .
وكما قالها تومان البصري لمفوض الامس :تحت لسنا عبيدكم ايها التيوس.!
ارتباك العلاقة بين السيد المتأنق الذي يقول لشعبه عبر شاشة التلفاز ان البدلة التي يرتديها الان ثمنها 3 الاف دولار كما فعلها نائب اسمه ( ح. م ) ذات يوم في لقاء رمضاني له بقناة الرشيد التلفازية ، وبين مواطن هده الجوع والبطالة ويشتري بدلته من بالات سوق قريب من نصب الحرية وتلك مفارقة ان تباع اللكنات قريبا من النصب الذي اراد فيه جواد سليم أن يقول للشعب ان الثورة تقتل الجوع قبل اي شيء اخر .
هذا الارتباك يضعنا عند حدود استعادة شكل الربيع العربي مرة اخرى ، الذي يبدو انه ليس ربيعا للجياع بالرغم من ازالة دكتاتورات عتيدة بل هو ربيع لانعاش طفيلين جدد وتكفيرين قساة وجهلة كما في داعش والقاعدة وغيرها .
تلك الاستعادة تحتاج الى فقه وثورة فكرية وديالكتيك يعيد للتأريخ صيرورة اخرى مستفيدين من فشل الثورة البلشفية الاولى في 1905 .ولكنهم استفادوا منها في ثورة اكتوبر 2017.
واي كانت نتائج ثورة اكتوبر إلا انها درس لأيقاظ الوعي واعادة تلك النغمة السحرية الثائرة في صوت ناي تومان البصري .
مقالات اخرى للكاتب