تظهر في تاريخ أي شعب بين الحين والآخر تحولات كبيرة في الاتجاهات السياسية كنتيجة طبيعية لحركة التطور الفكري للبلد ولا يختلف العراق وهو جزء مهم من تشكيل اكبر باتجاهين قومي كجزء من الأمة العربية وإسلامي كجزء مهم أيضا من الأمة الإسلامية التي تعتبر اكبر الديانات السماوية على وجه المعمورة وكثير ما حصل تصادم وصراع بين هذين الاتجاهين المهمين هو في الحقيقة وهمي مصطنع لأنهما لا يتعارضان أبدا فمن الطبيعي جدا أن يكون انتماء المرء لأي قومية وهو حتمي ولابد منه وفي نفس الوقت يعتنق دينا معينا ويمارس طقوسه المذهبية بكامل حريته طالما أنها لا تتقاطع مع حريات وممارسات الآخرين ولا تشكل اعتداءا على معتقداتهم ومعروف إن كثير من القوميات تعتنق الإسلام وكما كثير يعتنقون غيره والهند مثلا شعب واحد في ما شئت من الأديان ولكن ما تتمتع به شعوب المنطقة من طيبة قلب وصفاء نية وحسن ضن بالآخرين سمحت لجهات مغرضة وذات أهداف تخدم مصالحها بالتدخل وان تندس فتكون مثار للاختلافات والتقاطعات وكثيرا ما انتهت إلى العنف واستخدام السلاح لفرض فكر الانتماء الديني أو المذهبي في المجتمع وإخضاع الجميع بالقوة ولكن مهما حصل فان الفكر وان ضعف فهو لا يمكن أن يموت وبالأخص الديني ولنا في العراق مثلا واضحا عايشه اغلبنا خلال فترة حكم النظام السابق قومي الاتجاه في محاربة التنظيمات الإسلامية باتجاهيها المذهبي على السواء الشيعي والسني مع تحفظنا في استخدام هذين التعبيرين إنما كان الاستعمال لضرورة توضيح الفكرة .
إن ما يؤسف إليه كظاهرة حديثة في مجتمعنا العراقي هو استهداف نسيجيه الاجتماعي تحت تأثير المعتقد بعد عام 2003 وقد ظهرت تيارات للحكم يمكن إجمالها كالأتي :
* التيار الإسلامي وهو الأقوى حاليا وهذا بدأ يشكل مصدر إضعاف للدولة العراقية الحديثة المنشودة بدلا من شد أزرها وتقويتها لتطور الصراع بالاتجاه الطائفي بين مظلومية الشيعة السابقة وحاليا ادعاء مظلومية السنة وغيرهم من باقي الأديان وارتفاع درجة الصراع إلى العنف الشديد والإبادة الشعبية الجماعية وليس أدل على ذلك من التفجيرات المتكررة والدائمة التي تتبناها عصابات داعش الإرهابية القذرة المجرمة.
* تيار علماني وهو ما يمكن أن نضعه في المرتبة الثانية وهو يدعو إلى قيام دولة مدنية تحتفظ بطابعها الإسلامي وتستمد تشريعاتها من الدين الحنيف ويحاول الظهور بالاعتدال والوسطية ليبني لنفسه قاعدة شعبية تعوض انتشاره المحدود تقوم على التفاضل الشعبي بين الانتماء المذهبي واللا انتماء وهو في كل الأحوال خيار غير مضمون النتائج ونجاحه محدود طالما انه يسفه الثقافة الدينية ويفضل القوانين الوضعية على السماوية.
* تيار ثالث هو التيار القومي وهو عربيا الأضعف بينما تشتد قوته كرديا وتركمانيا حتى تطور وأصبح يشكل مصدر قلق لكثير من العراقيين لأنه بات يطالب بتقسيم العراق على أسس عرقية أو حتى الانفصال عنه وهو ما يعتبر بحق قطع العلاقة التاريخية الضاربة في عمق السنين وتمزيق النسيج الاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد وسيفشل في النهاية لان العراق واحد.
لقد تبنت تلك التيارات شعارات رنانة ومطالب جماهيرية رقصت من خلالها على حاجاتها مكنتها من النفاذ بين الطبقات الشعبية بعمق وقوة فبعد أن قاد التيار الإسلامي العملية السياسية في العراق بعد عام 2003 أصبح من الواجب عليه أن يضع نظرياته الفكرية في قيادة المجتمع موضع التطبيق لأول مرة وبلا جدال فإننا في الغالب الأعم كشعب مسلم مع احترام تام لخصوصية بقية الأديان بحاجة وتعطش لان نذهب بهذا الاتجاه لما نلتمس في ديننا الحنيف من تحقيق للعدالة الاجتماعية ونجاح الدولة والرقي بها ولكن هذا الوضع افرز مشكلة جديدة في إدارة مؤسساتها جاءت من نقص الخبرة في إدارة شؤونها وتلبية الحاجات الاجتماعية التي لا تتوقف عند حد معين خصوصا إن البناء الجديد الذي نطمح من خلاله إلى تحقيق دولتنا قام على أنقاض نظام كان يعاني من حروب طاحنة استمرت قرابة النصف قرن وحصار دولي ظالم استمر لعقد ونصف من السنين شمل كل نواحي الحياة خلف مآسي في الحاجات الاجتماعية الوطنية ودفع بنا إلى الوراء إلى ما قبل عصر النهضة وموازنات محملة بديون دولية باهظة إضافة إلى علاقات متوترة في كل الاتجاهات القومية والإقليمية والدولية بمعنى آخر كان لزاما على من يتصدى للحكم الجديد في العراق أن يرتقي بنفسه إلى عظمة المسؤولية وجسامتها فيتخلى عن الخاص إلى العام ويستثمر ويستنفر كل الجهود من اجل البناء الجديد ويعمل بأقصى طاقاته من اجل الارتقاء بالشعب الذي أتعبته الفترة السابقة إلى مصاف الدول المتحضرة وكان لزام على القادة الجدد تنمية القطاع العام وتطويره وإعادة الحياة إلى المنشآت التي تآكلت واستهلكت نتيجة المقاطعة الدولية والعزلة التي عشناها وكان لزاما على الدولة الاستفادة من الخبرات الدولية المعروضة لها خصوصا أنها كانت تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة السطوة الدولية الأولى والأعظم في كل شيء وكان لزاما على الدولة تعميق الانتماء إلى الوطن قبل أي شيء آخر لكننا مع الأسف وقعنا تحت تأثير الانتقام والثأر ففرطنا في كل شيء حتى إننا لم نستفد من تجارب العالم القريب أو البعيد وكيف استطاعت الشعوب إعادة بناء نفسها رغم إننا امتلكنا ثروات هائلة من واردات النفط فقط كانت كافية لبناء جديد ومتطور لكل العراق استنزفتها سوء الإدارة وفساد في كل الجهاز الإداري للدولة وصراعات داخلية بينية على خلفية المحاصصة في توزيع المناصب وهي نتاج طبيعي لقلة الخبرة وتعويض سنوات الحرمان والخشية من المستقبل المجهول وهي جزء من الصراعات التي عملت كل أجهزة مخابرات العالم على إدارتها وتقوية فتنتها ليس في العراق فحسب بل في كل دول المنطقة وهي لم تعد تخفى على احد ولا تحتاج إلى توضيح .
ببساطة تامة لم نتمكن من مراجعة تاريخ الثورة الإيرانية كمثال قريب للحكم الإسلامي معروف للكل حيث نجح الإمام الخميني رحمه الله في احتواء الشعب الإيراني وانتشاله من حالة الضياع التي تركه فيها شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي وهو أيضا خاض حرب طويلة ذاق منها الويلات والأمرين وحصار اقتصادي إلى وقت قريب وان كان اقل حدة مما عانيناه من الحصار لكنه نهض وأعاد بناء نفسه وتطوير صناعاته وإعداد نفسه للمستقبل وبناء جيشه لمواجهة كل الظروف الطارئة بل حتى نجح في دفع الولايات المتحدة بجبروتها وعظمتها وكبريائها إلى التفاوض معه والالتقاء معه على نقاط مشتركة .
إذن أين الخلل ؟
هل يكمن الخلل في الشعب العراقي الذي يمتد عمقه التاريخي إلى أقدم حضارات العالم وتعرض إلى كثير من الصدمات القاتلة وبقي صامدا أم في القيادة التي هيمنت على مقاليد الحكم فيه ؟
إن كلا طرفي المعادلة العراقية سواءا الحاكم أو المحكوم يتحمل جزء مما وصلنا إليه الآن فالقيادات لا تمتلك ثقافة الاعتراف بالخطأ وتجاوزه وإصلاح الآثار الناتجة عنه أو التنازل عن الحكم للأصلح وهي واقعة تحت ضغوط هائلة منها داخلي شعبي يطالب بالمزيد إضافة إلى طريقة المحاصصة في توزيع المناصب الحكومية على حد سواء العليا منها نزولا إلى الموظف البسيط وأسلوب التعيينات وتصل حتى إلى العسكري برتبة جندي أو شرطي بسيط وخارجية حيث تتحمل أجهزة الدولة التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية وضغوطاتها العالية كجزء من صراعات المنطقة بما يحقق مصالحها علما إن كل القيادات عملت بأسلوب كلاسيكي جامد متمسك جدا في الأطر الضيقة للمحاصصة واعتقدت أنها خلاف الطبيعة البشرية لا تصل إلى مرحلة الشيخوخة والهرم وأهملت بناء قيادات جديدة مزودة بوسائل وأساليب الحكم العلمية الحديثة المتطورة تستطيع أن تتجاوز أخطائها الحالية وتكون لها مصدات مستقبلية.
أما الشعب العراقي فهو يتحمل الجزء الأكبر في النتائج التي نعاني منها فنحن من صوت على الدستور ونعرف مواطن الخلل فيه ونحن من انتخب قادة الكتل السياسية ونحن في كل الأحوال جزء من الجهاز الإداري للدولة فنحن من يفسد ونحن من تقاعسنا كثيرا عن محاسبة المفسدين ونحن مطلبيون قليلي الإنتاج والعمل نميل إلى الراحة وإذا كان القانون يقيدنا في حالات معينة لكنا نحن من صنعناه ونتحدث عن تدهور التعليم والمعلم ابن الشعب وتدهور الصحة والطبيب من هذا الشعب وكذلك المهندس والشرطي والجندي الذي يتماهل في أداء واجبه فينفذ المجرم والإرهابي ويقتل الأبرياء باستثناء القلة وأبطال الحشد حيث عقيدتهم هي التي أنتجت فيهم الانتصارات الرائعة وحررت أراضينا من دنس الأعداء الغزاة وحتى المثقف والأديب والصحفي والكاتب والإعلامي قد تقاعس في تنوير الشعب ونصحه وتوضيح الحقائق والذي ينتقد حالة سلبية معينة لا يطرح البديل والحل بعد تشخيص المشكلة وهكذا في كل مجالات حياتنا.
يجب علينا أن نستلهم تجارب شعوب العالم كاليابان والألمان وغيرهم ممن دمرتهم الحروب ونستنهض الهمم في داخلنا لتحرير أرضنا وأهلنا من دنس عصابات داعش الرذيلة ولإعادة بناء بلدنا كل من موقعه ونتجاوز كل الخلافات البينية مهما كان نوعها بعد أن نتكل على الله العزيز الذي ندعوه بشدة لحماية شعبنا من كل مكروه فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
مقالات اخرى للكاتب