عندما كتبت الحلقة اليتيمة المنشورة من سلسلة (معركة الشعائر) لم أتفاجأ ولم أتألم من طبيعة الردود التي كان بعضها جارحا بشكل شخصي ويدل على ان كاتبه لم يقرأ المقال او لم يفهمه .. ما خلا ردا واحدا آلمني كثيرا حيث ذكر كاتبه المرحوم الشيخ أحمد الوائلي (رضوان الله تعالى عليه) بأنتقاص وازدراء واصفا اياه بأنه (مجرد روزخون !).. وسبب ألمي هو ادراكي الى أي وهدة انحدر الذوق والانصاف في ذوات تعتقد نفسها من أهل الدين وهي تنتقص الرموز التي أجمعت الطائفة على أحترامها وتبجيلها ..
اليوم ، وبالرغم من كثرة الخطباء المفوهين وتباين أنماطهم الخطابية وأساليبهم في الطرح و مناهجهم الفكرية التي ينطلقون منها وتنوع مواضيعهم الخطابية التي لا تخلو من الممتع والمفيد ثقافيا واجتماعيا ..الا ان منبر الشيخ الوائلي يبقى متميزا ومعطاء ومتجددا حتى بعد رحيله بسنوات تسع.
وبحسب استقرائي لم أجد في الخطباء اللاحقين من يصل الى مستوى الشيخ الوائلي الفكري او يضاهي خطابه ومرد هذا التميز والتفوق الى ما يلي:
1- طبيعة الخطاب : فخطاب الشيخ احمد الوائلي ليس نقلا لمجموعة آراء في تفسير آية أو قراءة في مضمون مناسبة معينة او تأملات انشائية او استحسانات ذهنية تفتقر الى الدليل ، بل هو بحث (بالمعنى العلمي للكلمة) وحينما أقول بحث أعني ان كل كلمة تقال فيه هي رأي مدعوم بدليل وليس كلمات تطلق في الفضاء ! والبحث العلمي لابد له كي يكون مقبولا ان يستند الى منهجية واضحة المعالم مقبولة الاسس موضوعية محايدة ، فنرى ان هذه الخصائص اجتمعت في المنهج العلمي في بحث الوائلي بأجلى صوره مستندا الى الاستقراء والمنطق السليم والقراءة المنصفة التي لا تظلم المقابل وتحاكمه وفق أوضح ما يقول وتظهر مكامن القوة والضعف في الخصم والصديق ..فلا غرو ان يتميز بحث الوائلي بصفة الموضوعية التي جعلت قاعدته الجماهيرية تخترق حدود المذهب لتجعله في مصاف كبار خطباء الإسلام وشخصياته .
2- سعة الأفق : لا اعني بها الافق العلمي فقط (مع ان الشيخ المرحوم بلغ فيه مديات واسعة جمع فيها بين التعليم الحوزوي والأكاديمي بأعلى درجاتهما وأرقى مستوياتهما ) وانما الافق الفكري والاخلاقي الذي طبع خطابه بمسحة الوقار والتوءدة وقراءة مشاكل المسلمين بعين بصيرة وقلب مخلص وطرح موارد الخلاف والاختلاف بهدوء ونقد الاخر بإنصاف لا يخرج فيه عن اطار الأدب والاحترام .
3- تنوع المضمون وجودته: المادة الفكرية في بحث الوائلي دسمة جدا ، وكيف لا تكون كذلك وهي عصارة عقلية باحث موضوعي ، ابحر طويلا وغاص عميقا في عباب الفقه والاصول والتفسير والأدب والتأريخ وفنون شتى من المعارف وهو ابن حاضرة العلم وحديقة الادب والفكر النجف الأشرف ؟ فترى بحثه غنيا وافرا كل جمله منه مسندة الى مصدر ومدعومة بدليل من عقل او نقل ، وتجده يصول بين المواضيع صولة الفارس الشجاع في وغى الهيجاء يجمع اشتات البحث ويقرن النظائر الى النظائر ويقتبس الشواهد ببراعة الاديب (وما أقل الخطباء الادباء) فيصيب بها الغرض ويصل بها الى المقصود باجلى بيان وأسلس لغة ، لا يقصر في استعراض الرأي ولا يخشى ان يقوّي الرأي المتين وان كان من غير مذهبه ويضعّف الراي السقيم وان جاء في اصح كتبه . ولا يخلو بحثه من التفاتات منطقية او اصولية يدعم بها رأيه ويسند بها بحثه، او فقهية يجول فيها بين آراء المذاهب بموسوعية نادرة ويطرح رأي مذهب آل محمد (ص) مبرزا جوانب القوة فيه ومبينا أصالته واستناده الى جوهر تعاليم القرآن التي تخالفها كثير من الآراء الشاذة .
4- التجديد الخطابي : كان المرحوم الوائلي معاصرا لمرحلة تأريخية شهد فيها المنبر الحسيني الشريف تجديدا على مستوى الطرح وتحول من منبر رثائي مهمته الوحيدة استعراض الفجائع التي حلت بأهل البيت صلوات الله عليهم في واقعة الطف ..الى منبر ديني –اجتماعي وسياسي يتحدث عن هموم الامة ومشاكلها ويقدم الحلول الاخلاقية والشرعية والاجتماعية ، ومع تنامي الوعي الاجتماعي وزيادة اعداد المتعلمين ودخول التيارات الفكرية والسياسية الوافدة كان لزاما على المنبر ان يتنامى ويساير هذا التحديث ليس باستذكار مأساة الطف التاريخية والبكاء على ما لحق باهل البيت فيها ..وانما باستحضار دروسها ومواقفها لحماية المجتمع الاسلامي من موجات الانحراف الفكري والاخلاقي ..وهنا كان الوائلي من ابرز فرسان هذه الحملة فقد اسهم في صياغة الشكل والمضمون الجديد للمنبر الحسيني ..ففي حين انشغل معظم الخطباء في اواسط القرن المنصرم (فضلا عما سبقه) بتقديم الشكل التقليدي للمأساة الحسينية ..برز الوائلي كباحث يقرأ الكتب الحديثة ويناقش أصحاب المقالات والآراء بآرائهم ويقدم نموذجا متنورا للخطيب الحسيني الواعي الذي يحترمه حتى مخالفوه في الرأي والمعتقد ..وكفى بهذا الدور التاريخي شرفا وعزا له .
5- الشخصية المخلصة : لا ريب ان الشيخ الوائلي يعد نموذجا رفيعا من نماذج الخلق والورع والدين والترفع عن السفاسف ، وهذا ما طبع شخصيته وانعكس على خطابه ويتجلى واضحا حتى في حشرجات صوته وهو يطرح هموم الاسلام بنبرة متحسرة لا تصدر الا عن قلب مخلص يذوب حبا لهذا الدين وغيرة عليه ، او يناقش فكرا منحرفا بنبرة حادة شجاعة مسفها ذلك الانحراف ومبينا وجه الخلل فيه فكريا ومنطقيا وبشكل ساخر في كثير من الاحيان ! ولطالما اكد رحمه الله في كتابه القيم (تجاربي مع المنبر) - الذي اعتبر كل خطيب لم يقرأه مفتقرا الى الثقافة المنبرية الرصينة- أكد في هذا الكتاب على ضرورة تحلي الخطيب بالورع ومحاسن الاخلاق والاخلاص لله تعالى والترفع عن الماديات لكي ينال التوفيق في الدنيا والآخرة ..
والحديث يطول عن هذا العالم – الخطيب – الأديب – المفسر ولكن ما حز في نفسي وجعلني اكتب هذه السطور جملة امور :
أولها : استهداف هذا الرمز العملاق من قبل جملة من أصحاب عمائم الدجل والرياء وبشكل متكرر مما لوث ذهنيات بعض البسطاء فاصبحوا يرددون ما يقال دون وعي (وهذا ديدنهم) .
ثانيا: استذكار هذا المنبر العميد ليكون قدوة في زمن طغت فيه الماديات واصبح المنبر تجارة لدى الكثير من الـ (خطباء) ، وانحسر فيه المضمون الفكري وعادت قضية كربلاء لتكون مجرد قصة مبكية تطرح من منابر العاطفة لا العقل ، وتردى فيه مستوى بعض الخطباء الى درجة يصيح فيه على المنبر (اليوم أبجي ربكم !!) ولا تجد أحدا يرد هذه السفاهة !
ثالثا : إعتذرا و إنصافا واستذكارا لهذا الرمز الذي كان في ايام سود خلت سلوتنا النادرة من منبر الامام الحسين (ع) ونحن نستمع اليه في ظهيرة كل يوم من اذاعة الجمهورية الاسلامية يعلمنا ما كنا نجهله وما كان نظام القمع لا يريدنا ان نتعلمه ..فرحمة الله تعالى عليه وطيب الله ثراه وجزاه عنا وعن الاسلام وعن قضية الحسين خير الجزاء .
مقالات اخرى للكاتب