وسط متناقضات حياتية واجتماعية عديدة تسير عجلة اليوم في بغداد بوتيرة لاتعرف الإستقرار او الركون إلى حال معين، وسط هذه الوتيرة يقف المواطن محاطا بهموم لاتنتهي تبدأ من العمل وتوفير لقمة العيش حتى لحظة العودة الى البيت والبحث في شؤون العائلة التي مهما كانت صغيرة فأن همومها ومشاكلها كبيرة. أحد المشردين كان يجلس وسط ساحة الطيران وهو ينظر صوب جموع وحمامة فائق حسن يتمعن في وجوههم ويعاود النظر الى المارة وضجيج الشارع، يحرك يدَه بطريقة لاتنم عن شئ ويعاود النظر الى جدارية فائق حسن، ويعود بوجهه مرة اخرى صوب الجموع، التي تدور وتسير في ساحة الطيران، هذه المرة كانت حركة يده تنم عن استنكار ورفض لكن الذي يبدو إنه لايقوى على قوله واكتفى بتلك الحركة فقط، بائع عربة الحلوى الذي بح صوته وهو ينادي على المارة وبجانبه بائع اللبلبي وبجانبه عربة صغيرة تبيع كل عشر قطع من الحلوى بمبلغ "الف دينار" وبالطبع أغلبها مغشوشٌ او فاسدة أو منتهية الصلاحية، لكن المواطن الفقير يشتريها، على مقربة من النفق يجلس رجل قضى الكثير من سنين عمره في حروب خاسرة لم يجنِ منها سوى صندوق لصبغ احذية المارة وعلى مقربة منه رجل اخر وهبته الحروب مطرقة وسندان يصلح أحذية أصدقائه الفقراء. وحكايا الساحة وكل مايدور بها لاينتهي مثلما تمر تلك السيارات الحديثة باصواتها المنبهة وصفارات انذارها التي كان يؤمل منها ان تكون عونا لبائع الحلاوة واللبلبي وحلويات منتهية الصلاحية وصباغ الأحذية ومصلحها وآخرون يدورن في الساحات والأزقة والأحياء يبحثون عن لقمة عيش سرقة منهم بوضح النهار.
مطبات اصطناعية
الاستاذ علي الاوسي من سكنة حي الجهاد (الضباط) قال: تعاني المنطقة من تردي الخدمات البلدية فالمنطقة تم تبليط شوارعها قبل فترة بسيطة وبشكل غير جيد فبعد فترة وجيزة كثُرَتْ الحفر والمطبات بالشوارع. مضيفا: كما تعاني المنطقة من سوء توزيع شبكات مياة الامطار وعدم انسياب الشوارع بشكل صحيح، سيارات نقل القمامة شبه معدومة مما يضطر الناس الى رمي الاوساخ في الساحات لعدم وجود حاويات مخصصة لذلك.
الاوسي اشار ايضا الى ظاهرة انتشار المحلات بشكل عشوائي بين المنازل واستغلال الارصفة لعرض البضائع ناهيك عن الاوساخ التي يخلفها اصحاب المحلات حيث قام البعض منهم بسد الارصفة بشكل كامل من خلال بناء اقفاص حديدية ومشبكات، مستطردا كما انتشرت محلات الحدادة وتصليح المولدات وتصليح السيارات ومحلات الشواء بين المنازل وفي الساحات والارصفة دون رقابة مما يسبب الازعاج للسكان من الاصوات والادخنة ورصف السيارات على ابواب المنازل القريبة منهم ناهيك عن الكلام البذيء الذي يتبادلونه بينهم والعبارات السوقية. وفيما يخص دخول المنطقة اشار الاوسي كي تدخل للمنطقة عليك الاستدارة من مكان بعيد جداً رغم وجود استدارتان استدارتين قريبتين من المنطقة ولكن السيطرة القريبة قامت بسد هذه الاستدارات دون مبرر. كما ان انتشار المطبات الصناعية التي قام بعض السكان بوضعها بشكل غير قانوني وغير مبرر فيه الكثير من المبالغة ارهق السيارات ناهيك عن الزحام الذي يسببه. وعلى سبيل المثال احد الشوارع لايتجاوزطوله 120 متر فيه اكثر من خمس مطبات صناعية، الاوسي ختم معاناة اهالي الضباط في حي الجهاد باتفاق اصحاب المولدات في المنطقة بينهم بوضع تسعيرة موحدة حتى لا يستطيع المواطن الاعتراض فالجميع بنفس السعر ونفس التشغيل فأين المفر ونحن على مشارف الصيف وحرّه الصيف والحر.
العوز والضنك
اي تطور وأعمار وتنظيم لحياة مدينة ما يرتبط بالوضع الاقتصادي للفرد، حال بغداد وما يحدث فيها من تشويه وانتشار الأسواق الشعبية الغير منظمة وسط الإحياء والأزقة، هو نتاج هذا الوضع المتردي والمتذبذب. في السنين الماضية كانت ميزانيات البلد انفجارية لكن للأسف لم يحدث تحسن بوضع الفرد العراقي ليكون حال المدن ومنه بغداد بهذا الحال المأساوي. ترى كيف سيكون هذا العام مع العجز بالموازنة وانخفاض أسعار النفط وتقليص الدرجات الوظيفية وغيرها من فقرات نصت عليها موازنة 2015.
تقاطع الموت
اما منطقة بغداد الجديدة التي كانت من اجمل واحلى مناطق العاصمة واحد اسواقها الرئيسية، هي الان على غير ذلك تماما. خاصة عند تقاطع سينما البيضاء او ما يعرف بتقاطع الموت بسبب كثرة التفجيرات التي حدثت فيه. هذا التقاطع هو باب الدخول والخروج الى سوق الخضروات واللحوم في بغداد الجديدة حيث اكوام النفايات والاوساخ على جانبي السوق ناهيك عن الزحام طوال اليوم الزحام طوال اليوم.
الدكتور جميل التميمي ذكر ان الوضع في بغداد الجديدة يبدا بمعاناة الذهاب الى التسوق اذ ان التسوق في كل بلدان العالم فيه شي من المتعة باستثناء العراق فانك اولا ينتابك القلق بسبب الوضع الامني فهاجس التعرض الى انفجار او اي عمل ارهابي وارد جدا في بغداد الجديدة كونها من اكثر مدن بغداد التي نالها نصيب الاعمال الارهابية ربما لكبر سوقها اذا ما قورنت بباقي اسواق بغداد، مستدركا: حتى المريض عند زيارة الطبيب يجد صعوبة في الوصول الى عيادة الطبيب لان معظم الطرق مغلقة وقلة ساحات وقوف السيارات. الارصفة بدون استثناء احتلها الباعة المتجولون لذلك يجبر المواطن على النزول الى الشارع والمخاطرة بحياته.
واوضح التميمي بالرغم من ان هناك تحسنا طفيفا في القدرة الشرائية للمواطن وتطوّرا في تصاميم وواجهات المحلات باستخدام التقنيات الحديثة لكن هذا التحسن لا يتناسب مع سلوك البعض الذي شهد تراجعا ملحوظا في فهم حقوق الاخر وفهم تطبيق القانون فالشرطي على سبيل المثال هو اول من يتجاوز على المواطن بشتى الطرق بدءا بمضايقة الاخرين بمن فيهم النساء من خلال استخدام العبارات الغير لائقة وهم يحذرون الاخرين بمكبرات الصوت ولاي سبب كان.
قواسم مشتركة
الحال يفرض نفسه في أحياء وأزقة بغداد حيث باتت أكوام النفايات القاسم المشترك بينها جميعا، فلا يكاد حي أو زقاق يخلو من هذه الأكوام. مع مشترك أخر لايقل ضررا عن سابق تقطيع البيوت الى مشتملات صغيرة حيث تكون الحديقة المنزلية الضحية الأولى لهذا التقطيع، والذي غالبا ما يكون بسبب الحالة الاقتصادية والضنك الذي يعاني منه الكثير من الناس. والأمر لا ينتهي عند هذا؟!
مسجد لو حسينية
الاستاذ غازي سلمان تحدث عن منطقة سكنه حي اور قائلا: لا تختلف منطقة حي اور، الى الشرق من بغداد في معاناتها عن معاناة مناطق العاصمة الاخرى وتفاقمها، جراء عدم الاهتمام الجاد في الجوانب العمرانية والمرافق الصحية والبيئية والسياحية. مضيفا ان معاناة الناس لا تنتهي هنا، بل ما يجعل هذه المدينة الصغيرة، التي أنشئت بداية سبعينيات القرن الماضي، تعيش مظالم الاهمال في مناحي النظافة والخدمات العامة، وضعف الرقابة الصحية ورقابة امانة بغداد، مثل التجاوز على الارصفة في الشوارع العامة والازقة الفرعية من قبل اصحاب المحال التجارية حيث يستحوذون على الجزء المقابل من الرصيف وأضافته الى المحل، والأمر ذاته يحصل في حال بناء مشتمل يقتطع من منزل كبير.
سلمان اشار الى مسالة اخرى تنتشر في معظم مناطق بغداد وهي اقتطاع مساحات كبيرة من الارصفة واجزاء من الشوارع لبيع المواشي وذبحها. اما الباعة الجوالون للمواشي فهذه ظاهرة خطيرة جدا صحيا وبيئيا لكن للاسف لم تلتفت لها الجهات المعنية مطلقا. واذا بقي الحال على ما هو عليه دون تظافر وتعاون شعبي واهتمام من قبل الجهات المعنية فان الحي الصغير،"حي اور"، سوف لن يكون حيا مناسبا لسكن آدمي، مطلقا، في المستقبل القريب..
سلمان اوضح ان الجانب الثقافي مهم في توعية المجتمع وفتح ابواب التحضر والتقدم امامه، فهل يعقل ان حي اور يفتقد للمكتبة العامة، او اي صرح ثقافي اخر. وهو الحي الذي رفد الثقافة والفنون العراقية وشتى مجالات الإبداع الاخرى بالعديد من الأسماء الكبيرة والمهمة. كما ان الحي يفقتد لمتنزه عام ومراب نقل عصري وبناية لمصرف مالي تتوفر فيها ولو ادنى مواصفات الجمال المعماري، والاهم من كل ذلك لاتوجد مستشفى عام.
وفيما يخص بعض الساحات وامكانية استغلالها ببناء مستشفى عام او مراب عصري قال غازي ان توفرت اي مساحة جيدة من الممكن ان تستغل كمتنزه او مكتبة او اي مرفق خدمي وترفيهي اخر بسرعة البرق سيتم بناء حسينية او مسجد،!! وبمواصفات بنائية اقل ما يقال عنها انها عادية... وحتى الاسواق لا زالت على حالها صرائف وسقائف لاتصلح لشيء لكن حاجة الناس والعوز جعلهم يجلسون تحتها في حرارة الصيف وقيضه والشتاء ببرده وامطاره.
فارزة
بغداد يغسل وجهك المطر حين قالها الشاعر كانت قبلة المدن، الشوارع زاهية نظيفة والحدائق غناء والبنايات والدور مرصوفة بشكل هندسي راقٍ، كانت بغداد تتحدث عنها المدن والعواصم ليست كبغداد الأن، الحفر والمستنقعات، المطبات، العشوائيات، التجاوزات،الخروقات، وكل مايحدث بها الأن، وبالطبع لابد ان يكون لكل شئ ارتباطٌ بشئٍ اخر، فلو كان الوضع الإقتصادي جيد والمردود المالي ملائم لكل الناس مع توفر فرص العمل وإعادة إعمار البلد حتما ستختفي الكثير من هذه الخروقات والتجاوزات على المال العام المال العام هو مال الشعب وليس مال الدولة من شوارع وارصفة وساحات هذا مع اهمية تشريع القوانين التي تعنى بالتخطيط العمراني للمدينة والمحافظة على أحيائها وتراثها البنائي، فالمدينة التاريخية الكبيرة التي لاتحفظ تأريخها وتراثها لايمكن لها ان تستمر طويلا، ما نلاحظه الأن من تخريب وتشويه لمعالم بغداد يدعو الى الحيرة، فالجميع يتحدث عن ذلك لكن ما من جهة تعلن مسؤوليتها وتحد من هذا.
مقالات اخرى للكاتب