وهكذا سقطت مكة في إيد قصي بن كلاب، وبقت تحت سيطرته بـ بيتها الحرام، بـ تجارتها، بـ تحالفاتها، بـ علاقاتها الدولية، بـ خير ربها، بس يفضل عندنا ملاحظة وسؤال.
الملاحظة إنه مش بس الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية هي اللي بـ تأثر على التأريخ، لكن أحيانا فيه ناس بـ تبني روايات بس لإرضاء الرغبة البلاغية في صياغة الكليشيه والمثل والطرف والإيفيه والقلشة والإديومز والجمل المنورة اللي ليها وقع كده لما تسمعها أو تقراها.
الظاهرة دي بـ نشوفها كل يوم على مواقع التواصل الاجتماعي لما تلاقي حد مشير خبر علشان يقدر يكتب عليه القلشة اللي بقاله تلات أيام مجهزها، أو سامعها من أسبوع ومش عارف يستخدمها في أي سياق، حتى لو الموقع اللي ناشر الخبر موقع ساخر أو موقع مسخرة، وحتى لو هو نفسه متأكد إن الخبر مية فـ المية ما حصلش.
وده هـ يقابلنا كتير طول ما إحنا ماشيين في التاريخ الإسلامي، زي قصة إن قصي اشترى ولاية البيت من واحد اسمه غبشان الخزاعي بـ إزازة خمرة، وجمل! اشتراها منه في يوم كانوا قاعدين بـ يشربوا، فـ غبشان سِكِر جامد، فـ قصي اشترى منه البيت، هـ نلاقي الحكاية دي في كذا كتاب منها "البداية والنهاية" لـ ابن كثير، والأوائل لـ أبو هلال العسكري، وغيرهم وغيرهم.
ومن الحكاية دي طلع مثل، كان معروف بس اندثر: "أخسر من صفقة غبشان"، و"أخسر" على وزن "أفعل" زي "أكبر" و"أصغر" و"أحسن" و"أجمل"، وده ولع عربي إنهم يحطوا مثال لكل حاجة، زي "أجود من حاتم" اللي هو حاتم الطائي، مضرب المثل في الكرم والجود، وزي "أذكى من إياس" أو "أحلم من أحنف"، وزي ما هو واضح إياس وأحنف شخصين إياس مضرب المثل في الذكاء، وأحنف في الحلم زي رجاحة العقل.
نرجع لـ قصي اللي بـ تقول القصة إنه اشترى ولاية البيت من غبشان بـ "زق خمر وقعود"، وده طبعا كلام ما يدخلش مخ عيل صغير، ولا يصلح حتى إنه يكون بداية لاندلاع الاشتباكات اللي انتهت بـ التحكيم وطرد خزاعة وبداية الحكم القرشي، وتخيل كده محافظ القاهرة، حد خده الكاب الدور وسقاه ربع براندي واشترى منه إدارة المحافظة، كلام هزلي.
ولو الحكاية ليها أصل فـ مش هـ يكون أكتر من مكايدة للخزاعيين، وفتح باب معيرة للتاريخ. ولذلك، كان كل واحد عايز يهجو خزاعة ويشتمها يروح قايل الحكاية دي، مثلا:
أبو غبشان أظلم من قصي
وأظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصيًّا في شراه
ولوموا شيخكم إذ كان باعه
الترجمة:
أبو غبشان هو اللي غلطان مش قصي، وخزاعة هي اللي على باطل أكتر من ولاد فهر، فـ ما تلوموش قصي إنه اشترى البيت الحرام بـ الطريقة دي، ولوموا الراجل بتاعكم على إنه باعه كده. ودي حاجة زي الردح كده: "روح يا ابن الأبصر إيه عاملاه".
أما السؤال، فـ هو عن الشرعية اللي ادت قصي أصلا خوض الصراع ضد ولاد خزاعة بعد موت حليل، السؤال بـ صيغة تانية: إيه اللي خلى قصي يقدر من الأساس يفتح فكرة إنه أولى من نسايبه (ولاد حليل) بـ البيت؟
إحنا بـ نتكلم عن أسرة حاكمة بقالها قرون، وحتى لو كنت أنا كـ قصي بقى عندي فلوس وقوة وتحالفات فـ كل ده مش كفاية، خصوصا لما يكون الصراع على مكان مقدس زي كده. ولما يكون معروف إن العيلة الحاكمة اللي أنا واقف ضدها هي اللي أسست المكان وعملت تفاصيله، مازلت محتاج شرعية تدعمني.
الشرعية دي هي الأساس اللي اتبنى عليه كل اللي جي، وهي موضوع الحلقة الجاية.
استنونا
مقالات اخرى للكاتب