Editor in Chief: Ismael  Alwaely

Editorial secretary: Samer  Al-Saedi

Journalist: Makram   Salih

Journalist: Saif  Alwaely

Journalist: Ibnyan   Azeezalqassab

Editor: Aboalhassan   Alwaely

Reporter: Abdulhameed   Alismaeel

مقالات وأبحاث
الاثنين, أيار 1, 2023
الثلاثاء, نيسان 25, 2023
الأربعاء, نيسان 19, 2023
السبت, نيسان 15, 2023
الجمعة, نيسان 1, 2022
الأحد, آذار 13, 2022
الأربعاء, شباط 16, 2022
الثلاثاء, شباط 15, 2022
السبت, حزيران 3, 2017
السبت, أيار 20, 2017
السبت, أيار 13, 2017
الجمعة, أيار 12, 2017
الاثنين, أيار 1, 2017
1
2
3
4
5
6
   
إعادة كتابة تاريخ الثــورات العلـــوية.. القسم الاول
الخميس, شباط 18, 2016
د. محمد تقي جون

الإسلام بعد الرسول المقدمات
بعد وفاة النبي محمد (ص) انتهت المرحلة الإلهية للإسلام. وهي مرحلة تتسم بالجذب القوي للدين، لجدّته، ووجود الرسول، فكانت الآخرة هي الهاجس الأعلى. وهذه الحقبة كان الدافع فيها إلى الجهاد بقمته، كما أن أخلاق الناس وأفعالهم بشكل عام مرضية، وكأنَّ جذباً مغناطيسياً يدفع الناس والحياة برمتها إلى الله (جل جلاله). والمرحلة الإلهية توجد مع كل نبي وتختفي تدريجياً بعد موته. ويبقى الدين بعد زوال الجذب يمارس تأثيره بطبيعية من خلال تعاليمه وهديه، فيصل إلى مرحلة اختيار الإنسان الفعلي ليصحّ اختباره، وهي المرحلة التي يريدها الله ليعرف المؤمن من الكافر بلا جذب إضافي (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)(1).
وما إن توفي الرسول حتى طويت صفحة ذلك الإسلام، ليطرح – وشيكاً - إسلام آخر هو الإسلام الدنيوي ولكن لم تدنسه السياسة بعد. فعُقيب وفاة الرسول بدأ الصراع على السلطة بإطار ديني، ونَسي قطبا الصراع: المهاجرون والأنصار (المتآخيان) أو تجاهلا أن الرسول مات تواً، وانبريا يتشاجران على خلافته وهو لم يدفن بعد! بدل مراجعة الإسلام في مرحلته الجديدة، والحرص على تطبيقه وتمثيله بما يحفظ وحدة المسلمين التي هي أهم قيم الإسلام وأهدافه.
وكان السابق إلى موضوع الخلافة الأنصار (أهل المدينة)، فسرعان ما انتخبوا سعد بن عبادة أو هو طرح نفسه زعيماً للمسلمين بعد الرسول. وكان مريضاً فلم يقدر على الكلام، فكان يوصل صوته بالكاد لابنه، فيقوم هذا برفعه إلى الحضور(2)! وتلك مفارقة وعلامة فارقة لابدّ من جمعها إلى مفارقات وعلامات فارقات أخر لرسم صورة صادقة للمسلمين بعد الرسول.
وقبل أن يتم انتخابه وصلت الأنباء إلى مكة، فأسرع أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) وأبو عبيدة (رحمه الله) إلى المدينة وأبطلوا الأمر. وظهر أن تناقضاتٍ موجودة في الأنصار، وبقايا حقد وحسد لم يمحه الإسلام بين الأوس والخزرج، جعلت موقف سعد بن عبادة (شيخ الخزرج) يختل، فتراجع بعض الذين عوَّل عليهم سعد. ولوَّح القرشيون بمكانتهم ومكانة مكة الدينية أو لوَّحوا بعقدة ومركب نقص أهل المدينة تجاه أهل مكة. إلا أن الضربة الحاسمة كانت في قول عمر (رض):
" من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه، ونحنُ أولياؤه وعشيرته، إلا مدلّ بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط بهُلكه"(3). وتلك مفارقة وفارقة؛ فقد فهمت كل القوى ومنها عمر أن الرسول يمثل سلطة، ووراثته هي (الحكم). وليس - بوصفه نبياً - يجب أن تكون وراثته بشكل مختلف، كان عليهم أن يفهموه ويرسموه بدقة. ويرى محمد سيد گيلاني أن عمر كان في جداله في السقيفة ودفاعه عن خلافة أبي بكر (رض) أول من أحيا العصبية الجاهلية في نفوس المسلمين، وخوَّل نفسه الحق في الكلام عن العرب بأجمعهم، وأنه جعل النبي ملكاً له سلطان وله وميراث، وجعل لأبي بكر الحق في حيازة هذا السلطان، وفي الاستيلاء على هذا الميراث"(4).
ثم طرح الأنصار بعد فشل مبادرتهم مشروع (منا أمير ومنكم أمير) بحثاً عن شكل يرضي الطرفين، فالأنصار برأيهم هم من نصر الرسول والإسلام حين خذله القرشيون، والقرشيون يرون أنهم أوائل المسلمين، وعانوا وقدموا تضحيات كبيرة. ويؤيد طه حسين مشروع الأنصار هذا ويرى أن هذه الخلافة المزدوجة أقرب إلى الديمقراطية / الثيوقراطية العادلة. وقد كانت ستعصم الإسلام من الفتن، وتُوجد توازنا بين المضرية واليمانية. كما أن قيامها على أساس صحيح من الدين يصرف أطماع الطامعين، ويؤخر استحالتها إلى ملك قيصري أو كسروي(5).
والمشروع فضلا عن ذلك يستوعب كل من له سابقة في الإسلام، ويُرضي أصحاب الطموح فلا يبقى اختلاف. وإن وجود أكثر من أمير سيمنع التفرد بالقرارات وهو ما تورط فيه الخلفاء بتفردهم بالأمر. وفي هذه الحالة ستتحقق الشورى المتمثلة بالآية الكريمة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(6)، وان كان المشروع لا يمثل في حقيقته الشكل الإسلامي للحكم. وهذه المبادرة فشلت أيضاً لحرص قادة قريش الجدد على الملك الصرف بحرمان أهل المدينة من أي مشاركة: لا خليفة، ولا وزير، ولا أمير. وذكر الجوهري أنه بعد جلوس أبي بكر خليفة طلب إحضار من لم يبايع، فذهب عمر مع جماعة إلى بيت فاطمة (عليها السلام) وفيه علي والزبير، فاجبروهما على المجيء إلى أبي بكر والمبايعة، فبايع الزبير، وامتنع علي وقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وانتم أولى بالبيعة لي. فقال له أبو بكر: فإن لم تبايعني لم أكرهك(7). فعكف الإمام علي في بيته ولم يبايع ومعه بنو هاشم حتى توفيت الزهراء (عليها السلام) فبايع علي والهاشميون. ومثلما بايع علي أبا بكر كارهاً، كذلك بايع عمر وعثمان دفعاًً للفتنة. فعندما جاءه أهل الشورى فقالوا له: قم فبايع عثمان! قال: فان لم افعل؟ قالوا نجاهدك. فمشى إلى عثمان وبايعه(8). وعن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: كان إياس بن معاوية لي صديقاً فدخلنا على عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصدّيق (رض)، وعنده جماعة من قريش يتذاكرون السلف، ففضّل قوم أبا بكر وقوم عمر وآخرون علياً (رضي الله عنهم أجمعين)، فقال إياس: إن علياً (رحمه الله) كان يرى أنه أحقّ الناس بالأمر، فلما بايع الناس أبا بكر ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه وأن ذلك قد أصلح العامة اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة، يعني بني هاشم، ثم ولي عمر (رض) ففعل مثل ذلك به وبعثمان (رض)، فلما قتل عثمان، واختلف الناس وفسدت الخاصة والعامة وجد أعواناً فقام بالحقّ ودعا إليه(9). إن قراءة الأحداث في ذلك الوقت قراءة منصفة تظهر أن القوم قرؤوا من الإسلام (الحكم)، وان الإسلام الذي نصروه سابقاً تقلص كثيراً وانزوى في صدور قليلة تركت الكسب الشخصي بالإسلام وانصرفت تتعبد به بعيداً، كبلال الحبشي وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري. ولم يأبه الإمام علي بالخلافة بعد ما جرى، بينما لم تتوقف هستيريا الصراع بين الصحابة على الخلافة، ففي فراش مرضه وموته خاطب أبو بكر المهاجرين المتربصين بقوله: " والله إني لشديد الوجع، ولِما ألقى منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي. إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه إرادةَ أن يكون هذا الأمر له"(10). ونجد طلحة والزبير يطمحان إليها بعد قتل عثمان. وعند التحكيم طرح أبو موسى الأشعري نسيبه عبد الله بن عمر خليفة. ثم ظهر معاوية منافساً قوياً بعد التحكيم. وأرى أن الإمام علي مرَّ بمرحلتين مع الخلافة. في المرحلة الأولى طلبها لأنه رأى نفسه الأقرب إليها لسابقته وقرابته من الرسول وعلمه وجهاده. ولأنهم اختاروا أبا بكر على أساس القرابة من الرسول، فعلى هذا الأساس يكون الإمام علي أولى من أبي بكر بها لأنه أقرب إلى الرسول منه. بل كأنَّ قريشاً بهذا المبدأ أهدته الخلافة ثم سلبتها منه، لذا قال لقريش: " أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (ص) وتأخذونه منا أهل البيت غصباً. ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا لكم الإمارة؟ وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. نحن أولى برسول الله حيا وميتاً فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون"(11). وهذا الأمر أكده الإمام الحسن (ع) في رسالة بعث بها إلى معاوية: " فلما توفي (يقصد الرسول) تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلُّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه. فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، وأنَّ الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد. فأنعمت لهم العرب وسلَّمت ذلك. ثم حاججنا قريشاً بمثل ما حاجَّت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لهم"(12). وكان طلب الإمام علي الخلافة في هذه المرحلة مرده إلى عدم توضّح (واقع الخلافة العملي)، ونظر إليها بأنها استمرار لكل فعل رسولي رسالي مارسه النبي، أي أنها امتداد كامل للرسول الكريم. وكان النزاع على الخلافة من بعض الصحابة غير المستحقين لها واستثمارهم سابقتهم في الإسلام وتأثيرهم الروحي في الناس، وما جرَّ من حروب دامية، جعل الإمام علي يعيد النظر بوقت لاحق في موضوع الخلافة. ففي خطبته الموسومة بـ(الشقشقية) يذكر رغبته في الخلافة أول الأمر (أرى تراثي نهباً)(13) ورغبته عنها بعدما تكشفت له حقائقها (لولا حضور الحاضر، ووجوب قيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها)(14). لذا تخلى في المرحلة الثانية عن الخلافة فلم يوصِ بها لابنه الحسن وقال عندما طلبوا منه الوصية: " لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر"(15). وقد بيَّن عدم رغبته في الخلافة بعد عثمان في قوله يخاطب الذين اختاروه عنوة " والله، ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها"(16)!!
بين الخلافة والإمامة
أطلق لقب خليفة أولا في اجتماع السقيفة من القرشيين، ولا عهد للعرب بهذا اللقب فهم يسمون زعماءهم ملكاً وأميرا، لأنهم أرادوا إضفاء الصبغة الإسلامية على زعامتهمً. واخذوا لقب (خليفة) من آيات في القرآن الكريم مثل: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(17)، و(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)(18)، و(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)(19)، و(فكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ)(20)، حملا لهذه الآيات على معنى (الخليفةُ: من استُخْلِفَ مكان من قبله)(21). وزعم المفسرون أن الإنسان خليفة لله، وذهب آخرون هو خليفة للجن الذين سبقوه إلى سكن الأرض، ثم فسدوا فقالت الملائكة: إن الإنسان سيفسد كالجن. وبهذا الفهم فخليفة الرسول عنوا به (البديل من الرسول)!! ولما كان الرسول يجمع السلطة الدينية (النبوة) والسلطة الدنيوية (الحكم)، فخلافته بمعنى (البدلية) غير ممكنة، لأنها تصدق على جزئه الدنيوي فقط. وإذا قرأنا الآيات السالفة قراءة دقيقة نراها لا تعني البدلية؛ فلا يصح أن الإنسان خلف الله في الأرض؛ لأنه لم يضف إلى بنائه، بل (صنَّع) ما فيه المصلحة وبه الحاجة. فلم يحفر محيطاً ولا بحراً، بل نهراً وجداول لإصلاح حاله، ولم يبنِ جبالاً جديدة، بل نحت من الجبال أو من صخورها بيوتاً ليسكن فيها، وهو ما ذكره الله () صراحة في قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)(22). لذا الإنسان لم يخلف الله في شيء. أما الزعم بأن الإنسان خلف الجن، فليس لما قالوا إثبات، بل لو جادلناهم سنقول لهم: هل سمعتم أن من طبيعة الجن أن ينزفوا الدم؟ فمتى فسدوا وسفكوا الدماء؟! والصحيح إن الملائكة تنبؤوا بأن الإنسان إذا ملك وتصرف في الأرض سيفسد، لشدة ذكائهم، وبناءً على معطيات خلق الإنسان، وطبيعته الناتجة عن مادته الطين التي ستكون حاسمة في تصرفاته. والصحيح إن الخلافة في الآيات السالفة تعني (الملك والتصرف). وكأنَّ الإنسان في تصرفه بالأرض وتسخيرها له كأنَّ الله خوَّله ذلك فقام مقامه. وليس هو ملك تام أو تخويل تام؛ فالإنسان والأرض بيد الله. وهذا يعني خطأ اختيارهم لقب خليفة بمعنى البديل، وعلى الخطأ اللغوي بُني الخطأ الشرعي، فصار الخليفة بصلاحيات النبي. مما جعل لقب خليفة الأشأم في تاريخ الإسلام، فقد أفاض دماءً ما لم تفضه البحار ماءً. وواضح أنَّ المكيين خلطوا بين الخليفة والإمام، فأسموا من انتخبوه خليفة، وعندما عارضهم المدنيون احتجوا بحديث (الأئمة من قريش). فالخليفة والإمام هنا واحد. ولغة يختص الإمام بالعلم والدين والاقتداء، فالإمام " كل من اقتدي به وقدّم في الأمور... والنبي إمام الأمة"(23). وهو المعنى الذي تجسده الآيات: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)(24)، (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)(25)، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)(26)، ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(27)، (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)(28). فالإمام أخص بالدين، والخليفة أخص بالدنيا. فالشكل الأمثل للحكومة الإسلامية توزيع المهمة بين إمام (أعلم بالدين) وأمير (أصلح للحكم). ونحن إذا نحترم الإسلام ونصدّق أقوالنا في أنه دين فاعل في الحياة، قادر على تحقيق السعادة في الدنيا، كما هو قادر على تحقيق السعادة في الآخرة، فعلينا أن نفهم استيعاب الإسلام لمفهوم الدولة بشكلها الصحيح. وكل الدول الناجحة اليوم توزع السلطة ولا يستأثر بها ويسيّرها على هواه حاكم فرد كما وجدناه في شخصية (الخليفة المسلم). وفي الخلافة الراشدة أمثلة في العدل والديمقراطية واضحة كقول الخليفة أبي بكر الصديق (): " فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني"(29). وضرب الإمام علي أعجب الأمثلة الديمقراطية وفي أحرج القضايا وهي قبوله التحكيم وقبوله ترشيح أبي موسى الاشعري له لأنَّ قادته اختاروه ولم يكن يحبذه. وإذ كان الرسول يوحى له، ومنزلته لا يبلغها إنسان قط، وهو مكلف من السماء بأمر يفوق ما يكلف به الخليفة من الناس، فوجود هذا الخليفة خرافة كان يجب أن لا تصدَّق. ولكن المسلمين – للأسف – صدَّقوها، فكان ما كان من كوارث جرت عليهم واستمرت إلى اليوم. ولقب الخليفة حوَّل أناساً اعتياديين بين ليلة وضحاها إلى مقدسين تجب طاعتهم، ويكفّر الخارج عليهم مهما قالوا خطأ وأساؤوا عملاً كخلفاء الدولتين الأموية والعباسية، فأنتج دكتاتورية دينية أساءت إلى الإسلام والصورة التي أرادها لشكل الحكم. ولما كان الرسول لا خليفة له على الحقيقة "لا نبيَّ من بعدي"(30)، فموته يعني انتهاء مرحلة النبوة وهذه استكملت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(31)، ولم يعد المسلمون بحاجة لنبي خلف. ولكن يبقى خطه يستمر به (إمام) يختاره هو، يكون أعلم المسلمين بالقرآن وأحفظ للعلم الإلهي الذي توارثه الأنبياء. وكان الإمام الذي اختاره النبي هو (علي بن أبي طالب). وموت النبي محمد يعني انتهاء رياسته بوصفه حاكماً منظماً لأمور المسلمين، وهذا الجزء بحاجة إلى الاستمرار، وممكن اختيار الأمة من يمثله، يكون ذا مؤهلات قيادية وليست دينية بالضرورة. وقد وعى الرسول ذلك وحياً وفطرة، ووعاه الصحابة متأخرين حينما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض، وصار الصراع مكشوفاً على الدنيا. وهذا يقنعنا بأن الرسول أوصى قبل موته بالإمامة وسمَّى الإمام علي لها، وترك ولاية المسلمين لمن يختارونه لها، بأمل أن يحكم الحاكم المنتخب بإشراف الإمام الأعلم. وقد جوَّز أهل السنة وفرقة من الخوارج تسمى السليمانية أن يكون الإمام (الحاكم) غير مجتهد، ولا خبير بمواقع الاجتهاد، ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه في الأحكام، ويستفتي منه في الحلال والحرام. ويجب أن يكون في الجملة ذا رأي متين، وبصر في الحوادث نافذ"(32).
وتطبيق ذلك – لو أنه كان طبق – تفسير لقول الرسول الذي حاجج به أبو بكر الأنصار (الأئمة من قريش)(33). فإذا كان المقصود الخلافة فان خلفاء بني أمية وبني العباس ملوك جور وفسق وحاشا للرسول أن يعدَّهم خلفاء مرضيين. وإذا كان المقصود الإمامة فإطلاقها غير صحيح فأئمة الدين غالبيتهم موالٍ كالإمام أبي حنيفة والاوزاعي ومكحول، أو عرب من غير قريش كالإمام مالك فهو من بني أصبح، والنخعي من النخع، والإمام أحمد ومحمد بن الحسن من شيبان، والثوري من بني ثور. فلم يبق إلا أهل البيت وهم من شهدت لهم الأمة بالإمامة. ولم يستخلفوا عدا علي وابنه الحسن. وهذا يعني أن الرسول أوصى بالإمامة الدينية لعلي بن أبي طالب وذريته من الأيمة، وأهمل الخلافة الدنيوية. وتمييز الخلافة عن الإمامة لم يناقشه الأوائل تهرباً، كما لم يناقشه المعاصرون انصياعاً للأولين أو انصياعاً لتهربهم! وميَّز بينهما ابن خلدون بدقة علمية وإنصاف ديني بقوله: " قالوا ولما كان أمر الخلافة لقريش حكماً شرعيا بالإجماع.. وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخص من قريش بالنبي (ص) إما ظاهراً كبني عبد المطلب، وإما باطنا ممن كان من حقيقة الآل"(34). اختار الرسول الكريم علياً للإمامة وأعلمه بذلك. وصرَّح به يوم غدير خم أمام المسلمين في قوله "من كنت مولاه فعلي مولاه"(35)، فموالاة الرسول تكون بالدين خالصاً غير مشوب بدنيا. ولم يوصِ الرسول للإمام علي بالخلافة لأنَّ فيها جانباً دنيوياً هو سلطة وملك وما يجران من ظلم وحرام، فكره أن تختلط الإمامة الجليلة بالحكم الدنيوي. ومصداق ذلك أنه (عليه السلام) أطلق عليه مبكراً دون غيره لقب (الإمام). وثمة دليل حاسم على أنَّ الرسول لم يوص لعلي بالخلافة هو أن الخلافة اسماً ومنصباً عرفت أول مرة في السقيفة ولم يذكرها الرسول أو عرفت في وقته. وذكر الصدوق أنَّ النبي قال لعلي: إنَّ الله تبارك وتعالى خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة واختارك للإمامة(36). وإذا قرأنا رأي الإمام علي بعمق من خلال أفعاله، فسنجده غير آبه بالخلافة، عدا تلك المدة التي تلت وفاة الرسول. لذا لم يوصِ لابنه الحسن بالخلافة، ولكنه أقرَّ إمامته وإمامة أخيه الحسين: " ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا"(37). كما جعل الوصية المتوارثة في الإمامة حسب، فعندما غادر الحسين (ع) مكة إلى العراق ترك عند أم المؤمنين أم سلمة (الكتب والوصية) فلما رجع علي بن الحسين دفعتهما إليه(38). ثم استمرت الوصية بالإمامة وحرص الأيمة عليها؛ فناظر الباقر أخاه زيداً عندما نازعه على الإمامة. وأعلن الإمام الكاظم أنه الإمام زمن هارون الرشيد وهو يعلم خطر ذلك، وبالفعل قام الرشيد بقتله(39). واستمرت الإمامة على مبدأ الوصية إلى الإمام المهدي (ع). ويقدم الإمام الحسن أفضل مثال على التمييز بين الإمامة والخلافة بتنازله لمعاوية، فانه تنازل عن الخلافة وتمسك بالإمامة، أي انه تنازل عن السلطة له ليكون خليفة، وبقي على إمامته ليستمر إماما، فكانت الخلافة طارئة في حياة الأئمة بينما الإمامة هي الثابتة لهم. 
معجزتان علميتان للأيمة
للأيمة معجزات علمية كثيرة تدلل على إمامتهم، وكونهم ورثة العلم الإلهي الرسالي. وحسبنا هاتان المعجزتان للإمامين: محمد الباقر والحسن العسكري (عليهما السلام). 
الأولى:
في زمن عبد الملك بن مروان هدد ملك الروم بأن ينقش على الدنانير شتماً للنبي محمد (ص)، فجمع عبد الملك أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به. فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه. فقال: ويحك من؟ قال: الباقر من أهل بيت النبي (ص)! قال: صدقت ولكنه أرتج عليّ الرأي فيه. فكتب إلى عامله بالمدينة بإشخاص الباقر وطلب منه المخرج. فقال له الإمام الباقر بعلمه الإلهي الذي خفي على الجميع: تدعو في هذه الساعة بصناع يضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (ص) أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الثلاثة الأصناف التي العشرة منها عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب سنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل(40). فكان الحل الناجع الذي حفظ الإسلام والأمة الإسلامية من هذا البلاء.
الثانية:
وفي عهد الإمام الحسن بن علي العسكري (ع) وقع قحط في سامراء، فأمر الخليفة العباسي الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا الى المصلى للاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام متواليات إلى المصلى يستسقون فما سقوا. فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء، ومعه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب فلما مدَّ يده هطلت السماء بالمطر، وخرج في اليوم الثاني وهطلت السماء بالمطر! فشكَّ أكثر الناس وتعجبوا كيف يستسقي المسلمون في المصلى فلا تمطر ويستسقي النصارى في الصحراء وتمطر!! وصبَوا إلى دين النصرانية، فأنفذ الخليفة إلى الإمام العسكري وكان محبوساً، وقال له: الحق أمة جدك فقد هلكت! فخرج الجاثليق ومعه الرهبان في اليوم الثالث، وخرج الإمام مع نفر من أصحابه. فلما رفع هذا الراهب يده أمر الإمام بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين أصابعه، فإذا عظم أسود فيها، فأخذه الإمام وقال للراهب: استسق الآن، فاستسقى فلم تمطر! فقال الخليفة العباسي للإمام: ما هذا العظم يا أبا محمَّد؟ فقال: هذا عظم نبي من أنبياء الله تعالى ولأجله كانت السماء تمطر(41)! فأعاد هيبة الإسلام في النفوس وحفظ الأمة من الضلال. ولكل إمام فضل لا ينكر في حفظ الإسلام والتفريج على الأمة الإسلامية بحضوره العلمي الإلهي، بما يثبت أن أهل البيت إنما سخرهم الله للإمامة ولم يقدرهم على الخلافة والسلطة والحكم، لذا نجدهم من الإمام السجاد إلى الإمام الحسن العسكري يتركون السياسة لأهل السياسة وينشغلون بالعلم والهداية. فرفضها الإمام جعفر الصادق حين عرضها عليه أبو سلمة الخلال(42)، وقبـِلها الإمام علي الرضا على مضض. ووجدنا أئمة أهل البيت يبايعون طالبي الخلافة من العلويين وهو زيادة في الزهد فيها، ودليل على أنهم يطلبون ما هو أسمى.
  
إمامة وخلافة علي (عليه السلام)
بويع الإمام علي (ع) بالخلافة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رض)، فكان رابع الخلفاء الراشدين. ولكنه كلِّف بالإمامة الدينية لأعلميته منذ وفاة الرسول الكريم، وقد مارس إمامته بالرأي الصائب والقضاء المشكل والتوجيه بأمور والتنبيه على قضايا، ويشهد على ذلك قول الخليفة عمـر بن الخطاب: " لولا عليّ لهلك عمر" و " أعوذ بالله من كلِّ معظلة ليس لها أبو الحسن"(43). فكانت إمامته ثلاثين سنة، وخلافته أربع سنين وتسعة أشهر"(44). 
مثَّل الإمام علي الجانب الديني في خلافته، فأسقط على الخلافة إمامته. فكان يصدر عنها في تمشية أمور الناس وسياسة الدولة. وكل تصرف شخصي أو عام قام به عن إيمان ودين، وليس عن سياسة ودهاء. كما أخضع الجانب الدنيوي في الخلافة (السلطة) لجانب إمامته الدينية، فكان بالمحصلة إماماً أكثر منه خليفة. وقد ابتدأ خلافته بفعل خالٍ من السياسة وألاعيبها تماماً، مكتنز بالدين وواجباته، وهو طرد معاوية (الأمير القوي) من عمله في الشام، بدل إبقائه لضمان خلافة هادئة، حتى ولو بنية الغدر به لاحقاً. ويذكر عباس محمود العقاد مقيِّماً وضع الخلافة من خلال صراع الإمام مع معاوية بقوله: " إنَّ الكفاح بين علي ومعاوية لم يكن كفاحاً بين رجلين، أو بين عقلين وجيلين، ولكنه كان على الحقيقة كفاحاً بين الإمامة الدينية والإمامة الدنيوية. وان الأيام كانت أيام دولة دنيوية، فغلب الداعون إلى هذه الدولة من ضَرْب معاوية، ولم يغلب الداعون إلى الإمامة من ضَرْب الإمام"(45). وان أبسط وصف للصراع بين علي ومعاوية، أنهما قاتلا بسلاحين مختلفين تماماً: قاتل علي بسلاح ديني خالص، وقاتل معاوية بسلاح دنيوي سياسي خالص. فكانت الغلبة على الساحة لمعاوية؛ لأنه قاتل بأسلحته الحديثة (بالبدع) أسلحة علي التي صارت قديمة بتمسكها بالتسامح الديني، بعدما ذهب الرصيد الذي يتكئ عليه الأخيار في صراعهم مع الأشرار. وهكذا صراع علي مع بقية الصحابة وأهل السابقة كطلحة والزبير، فالصحابة النابهون الذين أفحشوا في الثراء صاروا يتطلعون إلى السلطة، وحتماً تحققها لهم الخلافة أو مناصبها الكبيرة، فأشر هؤلاء ظاهرة طلب الدنيا بالدين، ولهذا السبب تقاطعوا مع الإمام. وثمة تصرفات أخرى مماثلة قام بها الإمام كان منطلقها من الدين الخالص لا السياسة الماكرة تؤشر طبيعة خلافته مثل: سماحه لطلحة والزبير بالسفر إلى البصرة، وهو يعلم أنهما خرجا للغدر بعدما حرمهما من المناصب. وسماحه لجيش معاوية بالتزود بالماء بعد قطع معاوية الماء عن جيشه. وقبوله بالتحكيم مع علمه أن كلمتهم " كلمة حق أريد بها باطل"(46). ثم قبوله أبا موسى الأشعري ممثلا عنه في التحكيم مع علمه بأنه يكرهه ويضمر أشياء كثيرة ليست في صالحه، نزولا عند رغبة قواده. وهذه التصرفات وغيرها ليست من حزم السياسة، وهي من عزم الدين وخاضعة لاملاءاته. وقد اعترف الإمام علي بأنه لم يتصرف وفق معطيات السياسة التي توظف الدهاء والمكر دون حساب للدين الحنيف، وهو أدرى بألاعيبها، وأقدر على ممارستها واستغلالها للفوز بما تتيحه إمكاناتها، ولكنه يقف عند حدود الدين فلا يتجاوزه، كما يوضح ذلك قوله: " والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنتُ من أدهى الناس"(47) وقوله يخاطب العراقيين " وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أوَدَكم (يقصد السيف والمال) ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي"(48). فهو رجل دين أراد أن يكون امتداداً للرسول (ص) في غاياته ووسائله، ولكن المفارقة أن الدين انكمش في النفوس والحياة جداً وبسرعة قياسية، وتغلب الدنيويون والدنيويات كالحال قبل البعثة، واستفحلت السياسة الماكرة على الأخلاق الإسلامية، فصار الإمام علي كأنه أقحم في وسط غريب عليه، فكان كل وكده أن يحافظ على دينه وأخلاقه حتى يخرجه الله من هذا الوسط الغريب. وكان الإمام علي في حروبه – كما في قضايا الخلافة السلمية – يطبِّق القرآن الكريم، ويراجع آيه الحكيم بدقة حرصاً على عدم مخالفته والخروج عنه. فحروبه خالصة لله وليس لمطامح أو مطامع شخصية. فلم يكن يهمه النصر أو الهزيمة، بل رضا الله والتقرب إليه بما يجب عليه فعله، في سبب حدوث الحرب وتفاصيل أحداثها حتى نهايتها. وقضية التحكيم، واختيار المحكم الخطأ – وهو أبو موسى الأشعري - جعل الإمام علي مع تخاذل العراقيين يفقد السيطرة على أكثر مناطق حكمه، فجلس في الكوفة يخاطبها: " ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها، إن لم يكن إلا أنتِ تهبّ أعاصيرك فقبَّحكِ الله"(49). وكان الإمام علي غير محتاج للموافقة على التحكيم؛ لأنه أمسك النصر بيده، غير أنه لم يرد مخالفة قادة جيشه (وفيهم غير مخلصين) فينفرد بقراراته ويخالف الشورى. ولم يرد إضافة دماء تراق جديدة. وإراقة الدماء أكثر ما استوقفه فأوقفه وكان في ذلك واقعاً تحت أمر الآية الكريمة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا* وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)(50). أي إنَّ قتل المؤمن للمؤمن لا يكون بتعمد أبداً، ولا يقبل من الله إلا سهواً وعن غير قصد. وإذا قتل المؤمنُ المؤمنَ فجزاؤه الخلود في جهنم وغضب الله ولعنته! وكأنَّ الإيمان بالإسلام مثابة تحرز المؤمن من القتل لأي جرم يقوم به عدا الجرم الذي تحكم عليه الشريعة بقتله. وفي الأثر، سأل الإمام علي الرسول (ص): "يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم الا بحقها، وحسابهم على الله"(51). والمؤمن: هو من يظهر الإسلام ويصدّقه، والمسلم فقط: من يظهر الإسلام دون تصديق(52). وعلى الرغم من ثقة الإمام علي بأنه يمثل الحق في الجمل وصفين، إلا انه كان يكره قتال المؤمن، ويعلم أن أهل الشام ملبوس عليهم. فمال إلى الصلح وهو غير مقتنع به وبدعاته، رغبة في حقن الدماء فأول فرصة تتهيأ لحقن هذا الدم يفترصها. وللسبب نفسه قبل الإمام الحسن الصلح مع معاوية، وليس بما غرَّب وأغرب فيه المؤرخون والمحللون(53). وقد قيّم خلافة الإمام علي أناس مختلفون فلم يجدوه صاحب اتجاه في السياسة والملك؛ قال مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين: " إنَّ علياً ووِلْده لا حظ لهم في الملك"(54). وقالت الكاتبة البريطانية (مز ستورث أرسكين) " كان علي رجلاً محبباً، ولكن يظهر أنه لم يكن رجل سياسة وحكم"(55). ونحن نتفق مع الكاتبة أرسكين بأن الإمام علي ليس رجل سياسة، ولكن نختلف معها بأن الإمام كان عارفاً بالسياسة قادرا على استغلالها والانتصار بها على أعدائه، إلا انه كره ألاعيبها وأنف من وسائلها، وحرص على الدين دون الدنيا. وإذا اعترض معترض فقال: وكيف استطاع الرسول محمد (ص) التمكن من الحكم وهو صاحب دين؟ فالجواب: إن الأنبياء حالة استثنائية لا يقاس عليها؛ فالنبي ملهم من الله، تحوطه عنايته. فالرسول محمد (ص) دانت له العرب قاطبة، بينما لم يحقق أي من الخلفاء طاعة ورضا الجميع. واستطاع النبي داود (ع) حكم الأرض كلها وبعده النبي سليمان (ع) وكان مسخراً له الجن والعفاريت. فضلاً عن المغناطيسية الدينية التي تجذب الناس إلى الدين في حياة الأنبياء. 
  
نظريات الخلافة
كان العصر العباسي عصر الذروة في التجديد والتجريب والصراع. ففيه جددت اللغة وأضيف لها البعد الثالث وهو (المصطلح) لتصبح لغة حديث يومي وأدب وعلم. وتبع ذلك التطور العلمي والإداري والحضاري. وفيه جرِّبت أشكال ومضامين شعرية غير مألوفة، فولِّدت الأوزان وطغت الشكليات متمثلة بالبديعيات، فضلا عن ولادة مفاهيم نقدية جديدة على اللغة والشعر العربي كنظرية المعنى التي نادى بها نقاد فرس مثل عبد القاهر الجرجاني لتقلب نظرية اللفظ التي نادى بها الجاحظ وأضرابه. وبلغ فيه الصراع قمته متمثلاً بالثورات العلوية بالدرجة الأولى على الدولة العباسية، مما جعل الصراع سمة العصر على الأصعدة كافة العلمية والادبية والحياتية، اذ ألقت بظلالها على العصر حتى انحسرت في منتصف القرن الرابع الهجري. كما اشتدَّ الصراع الفكري بين الأحزاب الدينية والمذاهب الفقهية فانفتح الجدل والكلام بعدما تلاقح مع الفلسفة اليونانية(56) والمنطق الأرسطي بالتحديد، ليناقش تفاصيل تخص الدين ومسائل الفقه. 
وفضلاً عن قضايا الإسلام من الأحزاب المسلمة، تسربت إلى الحياة العباسية عن طريق الذين لم يسلموا تماماً نحلٌ تخص ديانات الشرق القديم، فصارت تتسلل ما وجدت مجالاً إلى الشعر والفكر والدين، كالغنوصية والمجوسية والمانية والمزدكية، فضلا عن المسيحية واليهودية، ولا ينكر أن التصوف تأثر بالديانة المسيحية. ومن القضايا الكبيرة التي نوقشت وتبلورت (نظريات الخلافة). وكل نظرية من هذه النظريات دعمتها وجهة نظر دينية وقوة سياسية، فكان لكل فرقة مقالة على حيالها وكتب صنفوها ودولة عاونتهم وصولة طاوعتهم(577). فقد ولد التسنن في حاضنة الدولة الأموية، ورعته الدولة العباسية في صراعها مع الشيعة. ونشأ التشيع بعد ثورة الإمام الحسين كما ذكرنا، وعاش في الخفاء وعلى مبدأ التقية، حتى جاء البويهيون فعاونوهم، ففي الكامل لابن الأثير: إن البويهيين حين استحدثوا (التشابيه الحسينية) لم يكن للسنة القدرة على منعهم لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم(59). كما عاونتهم الدول المنشقة عن الدولة العباسية كالحمدانية والفاطمية، ففي ظل حكم الحمدانيين ازدهر الفكر الشيعي والمؤسسات الشيعية(59). وقد رسخ هذه النظريات انتقال الصراع الحربي تدريجياً لعدم جدواه إلى صراع فكري يؤسس أو يدعم نيل الحكم. 
وهذه النظريات هي:
الأولى: 
حكومة الشراكة: وهو ما اقترحه أهل المدينة (الأنصار) في قولهم للمكيين "منا أمير ومنكم أمير"(60). وهي تنسجم مع هدف الإسلام الأسمى وحكومته المثلى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(61) وتتيح ممارسة الشورى في قراراتها وتنفيذها. غير أن الشكل الإسلامي الصحيح هو أن يشرف ويتابع هذه الإمارة المشتركة إمام أعلم بالإسلام والقرآن. وهذه النظرية مرفوضة من السنة والشيعة، وماتت في مهدها وعصرها ولم تظهر في العصر العباسي. وقد ذكرناها لأنها أول أشكال الحكم التي طرحت. 

الثانية:
القرابة والوراثة: وهي نظرية تذهب إلى أن العباس بن عبد المطلب هو الخليفة بعد الرسول. وهذه النظرية روَّجتها الدولة العباسية لإيجاد عمق تاريخي لدولتهم. وجاءت رداً على العلويين بجعلهم الخلافة حقاً ووراثة لهم. وظهرت فرقة تتبنى هذا الرأي هي (الراوندية) كان الجاحظ المنظر لها؛ فقد ألف رسالة أسماها (العباسية) سنة (210هـ) طرح فيها هذه النظرية. وقيل انه ألفها ليتقرب بها الى المأمون(62)، وقد انتهت الراوندية بموته(63). 
ونظرية القرابة غير صحيحة؛ لأن العباس بن عبد المطلب لا يصلح للإمامة لأنه ليس أعلم الأمة، بل لم تؤثر عنه آراء في الدين والفقه، ولا يصلح للإمارة لعدم قدرته عليها، فلم يُشهد له بسابقة في قيادة الناس. والقرب من الرسول وحده لا يكفي لتحمل مسؤولية جليلة كهذه. وتكون الأولوية للقرب مع الأهلية كتوريث إبراهيم (ع) ولديه إسحاقاً وإسماعيل (عليهم السلام)، وتوريث إسحاق ولده يعقوب (عليهم السلام).
الثالثة: 
الاختيار والشورى:
عُمل بها بعد وفاة الرسول (ص)، وتبلورت من قبل الأحزاب في العصر العباسي. وهي تقوم على بيعة صغرى وكبرى، فالبيعة الصغرى يمثلها اختيار شخص أو أكثر للخليفة، والشورى يمثلها أهل العقد والحل (المهاجرون والأنصار). في البيعة الصغرى للخلفاء الراشدين تم اختيار أبي بكر من عمر وأبي عبيدة. واختيار عمر من أبي بكر. واختيار عثمان من ثلاثة ضمن خمسة عينهم عمر. وتم اختيار الإمام علي بشبه إجماع من الناس " وقد تكون المرة الوحيدة في التاريخ الإسلامي التي وصل فيها الحاكم إلى منصبه نتيجة مبايعة شعبية"(64). وقد وصفها الإمام بقوله: " فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ، ينثالون عليَّ من كلِّ جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشقَّ عطفايَ، مجتمعين حولي"(65). وبعد هذا الاختيار المصغر يتم اختيارهم الشوروي من المهاجرين والأنصار (أهل العقد والحل) كما في قول الإمام علي: " وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً". وذكر ابن أبي الحديد أن كلام الإمام هذه يدل صراحة على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة (الخلافة) كما يقول أهل الكلام(66). وهذه النظرية تخلط بين الإمامة والخلافة، كما خلط السابقون؛ فهم أسموا من يتولى الأمر (خليفة) ورددوا (الأئمة من قريش).
الرابعة: 
النص: وهذه النظرية تبلورت في العصر العباسي عن طريق الفرق الشيعية استناداً إلى آيات قرآنية وأقوال للرسول منها (أقضاكم علي)(67) و(من كنت مولاه فهذا علي مولاه)(68). وهي تخلط الإمامة بالخلافة، وقد ميزنا في كلام سابق بين الإمامة والخلافة؛ فالإمامة بتقديرنا نصَّ بها الرسول على الإمام علي والأيمة من ذريته من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وقد مارسها الإمام علي ابتداءً من وفاة الرسول. ولا علاقة لها بموضوع الخلافة الذي نظَّرت له الأحزاب وصاغت نظريته بوقت لاحق. واختلف رأي الفرق في نظرية (النص) فقالت الإمامية: إنَّ الرسول أوصى لعلي نصا ظاهرا وتعيينا صادقاً(69). وذهبت المعتزلة إلى عدم وجود نص؛ لأنه لو كان النص موجوداً لكانوا فساقاً أو كفاراً لمخالفته(70). وقال أهل السنة والكرامية: إنَّ الإمامة تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين(71). وقالت الزيدية: وأما علي فهو أفضل الناس بعد رسول الله وأولاهم بالإمامة، لكنه سلَّم الأمر لهم راضياً، وفوَّض الأمر إليهم طائعاً، وترك حقه راغباً. فنحن راضون بما رضي، مسلّمون لما سلّم(72). وإذا قرأنا موقف الإمام علي أبان السقيفة نجده يطالب بالخلافة ليس بناءً على نص من الرسول، بل بناء على ما طرحه المهاجرون من أساس للخلافة يقوم على مبدأ (القرابة من الرسول)، فهو الأقرب للرسول من الموجودين، وقد حاجج المهاجرين بذلك. وهو بوصفه إماماً أقرب إليها، إلا أنَّ الخلافة طارئة في حياة الإمام الدينية، ولذا لم يهتم لها في نصوص كثيرة معروفة.وتصريحات الثورات العلوية في العصر الأموي وبداية العصر العباسي ليس فيها أثر للنص. فقد ثار الإمام الحسين بن علي (ع) بشعار (الإصلاح في أمة جده)، وثار التوابون توبة من عدم نصرهم الحسين، وثار المختار الثقفي بشعار (الرضا من آل محمد)، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد ثارا بشعار جديد بلورته الزيدية لاحقاً. وثار ابنا الحسن المحض: محمد وإبراهيم بشعار (المهدوية). وقد أظهرت الثورات والدول العلوية في العراق وإيران والحجاز واليمن والمغرب والأندلس حقيقة أن الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها قد وقر في أذهانهم أن آل البيت فيهم العلم والكتاب ومؤهلات وأهلية قيادة الأمة أفضل من غيرهم. ونظرية النص فيها اختلافات داخلية، فقد رأى بعضهم أن الرسول نصّ على الإمام علي وابنيه الحسن والحسين فقط، ثم (ينصُّ) الإمام على الإمام بعده، ورأت الإمامية أنه نصّ على اثني عشر إماماً بالاسم أولهم الإمام علي وآخرهم المهدي المنتظر(73). واختلفوا في الآلية فذهبت الجارودية (فرقة زيدية) إلى أن الرسول نصَّ على الإمام علي بالإشارة والوصف(74)، وقالت الإمامية بل نص عليه بالتسمية والتعيين(75)، وشذت الحشوية بالقول: إن الرسول نصَّ على إمامة أبي بكر بالتسمية والتعيين(76). وقدمت الثورات العلوية شروحا أخرى عملية للنص؛ فالكيسانيـة ذهبت إلى أن الإمامـة انصرفت بعد الحسين إلى أخيه محمد بن الحنفية. وزعموا أنها انصرفت بعد ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم. وقد استفاد العباسيون من ذلك فقالوا: إن الإمامة تحولت من أبي هاشم، الذي لم يعقــب، إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على أساس وصيته إليه(77) للحصول على الشرعية لدولتهم . وذهبت الزيدية إلى أن الإمام بعد الحسين هو ابنه علي بن الحسين، وبعده زيد بن علي بن الحسين، وبعده ابنه يحيى(78). وذهبت الإسماعيلية إلى أن الأئمة سبعة: علي، فالحسن، فالحسيـن، فعلي بن الحسين، فمحمد الباقر، فجعفر الصادق، فالإمام السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر(79). وكان إسماعيل قد مات في حياة أبيه لذا جعلت الإمامية الإمامة في موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق. واختلفت الإمامية بينها بعد موت الإمام الحسن العسكري في الوصية، فقائل: إنه أوصى لجعفر أخيه، وقائل: إن الوصية كانت من الإمام علي الهادي إلى ابنه محمد الميت في حياة أبيه، وانه أوصى لنفيس القائم بخدمته وهو بدوره دفعها إلى جعفر فهم يتجاوزون إمامة الحسن العسكري، وقائل: إن الإمام الحسن العسكري أوصى لابنه الصغير محمد وهو القائم المهدي(80) وهو الرأي الأثبت الذي اتفقت عليه الإمامية واستمرت إلى أيامنا. وذكر الإمام علي (الوصية والوراثة) لأهل البيت الخاصين قاصدا الإمامة وليس الخلافة في نصوص منها:" لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين، وعماد اليقين. إليهم يفيء الغالي، ويلحق التالي. ولهم خصائص حق الولاية. وفيهم الوصية والوراثة"(81). وقد فسّر الشيعة الإمامية الوصية بالخلافة وأكثروا في ذلك الجدل والاستدلال، وفسرها المعتزلة بغير (الخلافة)، ولكن بأمور أخرى أشرف وأجلّ. كما فسروا (الوراثة) بوراثة العلم وليس ميراث المال والخلافة(82). 
الخامسة: 
التفويض الإلهي: وهي التي ادعاها الأمويون ورعاها العباسيون. وقد استخدم الأمويون مختلف الوسائل الإعلامية المعروفة آنذاك: الشعر، والقصص، ووضع الأحاديث، في سبيل نشر نظريتهم وإقناع الناس بها(83). وتذهب النظرية إلى أن خلفاء الأمويين أصبحوا خلفاء بتفويض من الله، وعلى الناس التسليم لهذا الخليفة بكل ما أحب بغضّ النظر عن كونه حقاً أم باطلاً! قال زياد بن أبيه ناطقاً بها: " أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا، فلنا عليكم السمع والطاعة (فيما أحببنا)"(84). ويذهب عبد المجيد زراقط إلى أن هذه النظرية غريبة عن الإسلام ودخيلة عليه. وهي تختلف في خطابها عن خطاب الخليفة الراشدي الأول، فالنظرية الأموية تقول (لنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا)، ونظرية العقد – البيعة تقول " أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". وواضح أن النظرية الأولى تلغي مصدري التشريع في الإسلام اللذين تقرهما الثانية، وهما: الكتاب والسنة، وتضع مكانهما مزاج الحاكم(85). وقد أراد أتباع هذه النظرية إضافة خلفاء الدولتين الأموية والعباسية إلى الراشدين على أنهم ضمن (الأئمة من قريش) وتم منحهم القدسية ذاتها. وقد أسس معاوية رأس الدولة الأموية ومدوِّل الإسلام السياسي خلافته على الغصب والخديعة، واستقطب بقية الصحابة والتابعين ليلتحق – توهيماً – بالراشدين. وسنَّ نظاماً للخلافة يلغي أهل العقد والحل، بقيامه على توريث ولده الفاجر يزيد، فكان نكوصاً بالإسلام الى الجاهلية على يديه، واستمر هذا النظام الخليفي/ الملكي في الدولتين الأموية والعباسية وبعدهما في مماليك مصر، والدولة العثمانية، التي أجهز خلفاؤها على ما تبقى من قدسية الخلافة بما سنوه من قوانين يأباها الإسلام كفتوى وجوب قتل الخليفة العثماني جميع أخوته بعد اختياره منعاً للفتنة. وتعد خلافة معاوية مرحلة جديدة للإسلام، هي السلطان المطلق والملك العضوض. وقد وصفها الجاحظ فصدق وأجاد بقوله:" فعندها استوى معاوية على الملك، واستبدَّ على بقيّة الشُّورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سَمَّوْه عام الجماعة وما كان عام جماعةٍ، بل كان عام فُرْقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحَّولت فيه الإمامة مُلكاً كسرويّاً، والخلافة غصْباً وقيصريّاً، ولم يَعْدُ ذلك أجمع الضَّلال والفسق..فهذه أوَّلُ كفرةٍ كانت في الأمة. ثم لم تكن إلاَّ فيمنْ يدَّعي إمامتها، والخلافة عليها"(86). كما مثل مرحلة أخرى من الصراع على الحكم، كان من وجهة نظره بين أسرتين: الأمويين والعلويين أو عبد شمس وهاشم. كان معاوية يحمل هذا الصراع العائلي في نفسه، فاستقتل على الخلافة حتى نالها. ولأنَّه عائلي وليس شخصياً، فانه ورَّث الخلافة في ذريته وظنَّ أنها تبقى في أحفاده نكاية بالهاشميين وشفاءً لجرح تاريخي. وكان خلفاء العباسيين على طراز خلفاء الأمويين في الحقد والصراع مع العلويين، ومن ثم في تبني هذه النظرية.
السادسة:
الثورية: وهي النظرية التي وضعها الزيدية في العصر العباسي استناداً إلى مفاهيم وأفكار زيد بن علي في ثورته على الأمويين. وكان زيد يشترط في الإمام الخروج (الثورة) وليس الأعلمية، فدعا لنفسه مع وجود الإمام الباقر ثم جعفر الصادق (عليهما السلام)، وقد جادل أخاه الباقر في الإمامة ووجوب خروج الإمام بقوله " ليس الإمام من أرخى عليه ستره، إنما الإمام من أشهر سيفه. فقال له الباقر: على مقتضى مذهبك والدك ليس بإمام، فانه لم يخرج قط، ولا تعرض للخروج(87). وجعل إمامة ابن أخيه (الإمام جعفر الصادق) محصورة في الحلال والحرام فقط في قوله: " جعفر إمامنا في الحلال والحرام(88). ولأنَّ الإمامين الباقر والصادق أفضل منه، أجاز إمامة المفضول بوجود الفاضل: " يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم، فيرجع إليه في الأحكام، ويحكم بحكمه في القضايا"(89). لذا قال بصحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل منهما، فخالف الشيعة. ونتيجة لذاك تخلوا عنه، وقد اتهمهم بالغدر جزافاً فهو يعلم سبب تخليهم عنه.وكانت خلاصة النظرية التي وضعتها الزيدية بناءً على استقراء أفكار زيد الشهيد ربط الإمامة بالثورة: فكل: فاطمي (من أبناء الحسن أو الحسين)، عالم، زاهد، شجاع، سخي، خرج بالإمامة يكون إماماً واجب الطاعة(90). ومن هنا يتبين أن ثورة زيد لها جانبان: جانب عسكري أراد به الإطاحة بالخلافة الأموية وتسلمها ليكون هو الخليفة، وجانب فقهي أراد به مزاحمة أخيه الإمام الباقر وبعده الإمام الصادق على الإمامة وتنحيتهما ليصبح هو الإمام، فيكون الخليفة والإمام معا، قال محمد أبو زهرة: كانت ثورة زيد ثورة الفقهاء، والقراء، والمحدثين(91). 
السابعة:
الأهلية: وترى أن الخليفة الشرعي هو الذي تتوافر فيه صفات الخليفة الحقيقي دون النظر إلى أصله وفصله " فمن كان أتقى الناس لله، وأكرمهم عند الله، وأعلم بالله، وأعملهم بطاعته، كان أولاهم بالإمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم، عربياً كان أو عجمياً"(92). وأطلق هذه النظرية المعتزلة(93) تأسيساً على رأي الخوارج. ثم تبناها الإمام أبو حنيفة النعمان وهو ما ناسب العثمانيين لكونهم غير عرب فعملوا على نشر المذهب الحنفي(94). ونظرية (الأهلية) لا يعتدُّ بها لأنها أطلقت أساساً لإسقاط هيمنة قريش على الأمر بشعار (الأئمة من قريش).
الثامنة:
الإهمال: وترى أن الإمامة ليست لازمة ولا واجبة، ولكن إن أمكن الناس أن ينصبوا إماماً عدلاً من غير إراقة دم ولا حرب فحسن، وان لم يفعلوا ذلك، وقام كل رجل منهم بأمر منزله، ومن يشتمل عليه من ذوي قرابة ورحم وجار، فأقام فيهم الحدود والأحكام على كتاب الله وسنة نبيه، جاز ذلك، ولم يكن بهم حاجة إلى إمام(95). وهذه النظرية نشأت أيضاً في العصر العباسي وطرحها بعض من فرق الحشوية والمرجئة والخوارج. وهي لا تصح ديناً ومنطقاً، فالأمة يجب أن تقاد بإمام وحاكم.
التاسعة:
التعددية: وهذه النظرية ظهرت في العصر العباسي أيضاً. ويذهب أصحابها إلى جواز وجود أكثر من إمام في زمان واحد في بلدان متقاربة(96). وهذه النظرية مناقضة لمبدأ الإسلام، كما أنها تشتت الأمة وتذهب بقوتها وريحها. وفي القرن الرابع الهجري تحققت هذه النظرية بوجود ثلاثة خلفاء: عباسي وأندلسي سنيان، وفاطمي شيعي. وكان وجود هؤلاء الخلفاء الثلاثة السبب في ضعف المسلمين وقوة النصارى الذين تشجعوا فقاموا بالحروب الصليبية. لقد كان الأولى بالعرب أن يتوصلوا إلى شكل الحكومة بعد الرسول باستلهام القرآن الذي ينافس بل يتفوق بآرائه على آراء العلماء والمفكرين والمنظرين في كل زمان ومكان. وبالنظر إلى شكل حكومة (الخليفة) لا نجد أي علاقة لها بوصايا القرآن بشأن الحكومات، فالخليفة هو وحده يقرر، وهو واجب الطاعة على الحق والباطل، أي أنه أقسى من عبارة (نفذ ثم ناقش) بل هو (نفذ ولا تناقش أبداً). فأين منه قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(97). بل هو صورة بائسة للدكتاتورية.وإذا قارنا حكومة الخلافة بالحكومات المتمدنة المعاصرة - ونحن نقرّ بأن القرآن يقترح أفضل منها- نجدها هزيلة جداً. وهذا يقنعنا بأنَّ نظام الخلافة – باستثناء الراشدين - لم يكن موفقاً أبداً. ونظام الخلافة بفردانيته كان وراء كل الثغرات ونقاط الضعف التي أخذت – للأسف - على الإسلام، وهو لا يمثله. وبتصرفات الخلفاء الشنيعة يتذرع اليوم (داعش أمريكا وإسرائيل) لتشويه الإسلام. وقد فضحوا – من حيث لا يدرون – سلبية نظام الخلافة وليس الدين الإسلامي، وبرهنوا على حتمية وجود نظام حكم أفضل من نظام الخلافة يمثل الإسلام لم يهتدِ إليه المسلمون.
  
شعار الثورات العلوية
كان على الثوار العلويين عدا الإمام الحسين (ع) - لأنه من الأيمة - رفع شعار (الدعوة إلى الرضا من آل محمد) ليتم لهم الأمر والنصرة. ويقصد بهذا الشعار (أئمة أهل البيت) المسمَّون بالإمامة، أولهم الإمام علي صاحب الحق الأول في الخلافة وآخرهم المهدي المنتظر. وكل فاطمي (من أبناء فاطمة عليها السلام) عداهم، أو علوي غير فاطمي، أو ثائر غير علوي، لا يؤيَّد إلا برفع هذا الشعار الذي يعني أحد أيمة أهل البيت المعاصرين للثائر. فكان الثوار المنادون بالحق العلوي يدعون إلى أحد الأيمة لكي يصبحوا في أعين الناس ممثلين لحق العلويين وتراثهم من الخلافة. فإذا تنازل الإمام صاحب الحق، فللثائر أن يختار من هو مرضي السيرة بعد أخذ إذن الإمام ورضاه. وقد وجدنا المختار يدعو إلى الإمام علي السجاد أولاً، فلما رفض(98) دعا إلى ابن الحنفية. ووجدنا أبا سلمة الخلال حين أصبح بيده أمر الخلافة أرسل إلى ثلاثة ليستخلف احدهم، فجعل الأول الإمام جعفر الصادق، ثم عمر الأشرف، ثم عبد الله المحض(99).وهكذا فالرضا يعني أحد أيمة أهل البيت. حتى جاء زيد بن علي، وكان الإمام الرضا في زمانه هو أخوه محمد الباقر ثم جعفر الصادق (عليهما السلام) . ويبدو أن الإمام الباقر دعي إلى الثورة أو الثورة باسمه فرفض كما يدل قول له بأنَّ الناس تدعي انه المهدي. فلما قعد عن الثورة، وكان زيد يريد الثورة والحصول على الحق العلوي بوصفه من الدوحة العلوية والحسينية، دعا إلى نفسه بعدما دعا إلى الرضا في أول ثورته، واشترط في صحة الإمامة الخروج لا القعود، وتركَ الدعوة إلى الرضا من آل محمد. وزيد بعمله هذا وسّع من دائرة الرضا، فجعلها أوسع من دائرة الأيمة، مما جعل الزيدية بعده في العصر العباسي يشرعنون آيدلوجية جديدة للإمامة هي: كل فاطمي (بالإطلاق)، عالم، زاهد، شجاع، سخي، خرج بالإمامة يكون إماماً واجب الطاعة(100). فصار هذا شعارا جديداً للثورات العلوية في العصر العباسي. وهم يجعلون الإمامة بعد علي السجاد (ع) لزيد. ونجد الثورات العلوية في أغلبها تنطلق من المذهب الزيدي، فمحمد ذو النفس الزكية كان يعاصره الإمام جعفر الصادق، فلم يدعُ له بل جعل نفسه هو الرضا، ودعي بمهدويته لتقوية موقفه، ولكسب الشيعة غير الزيدية إليه.ثم نجد الثوار العلويين – وأغلبهم زيدية - منهم من يدعو إلى الرضا من الأيمة كصاحب فخ، فقال: " ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر فأمرنا بالخروج"(101). ومنهم من يدعو إلى نفسه، أو يفوِّض علوياً كاختيار (محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي) خلفاً لابن طباطبا قائلين له:" أنت الرضا عندنا، الثقة في أنفسنا"(102). ونجد أهل مكة يبايعون محمد بن جعفر الصادق أميراً للمؤمنين(103). وهكذا صار هذا الشعار حسب مبدأ وقناعة الثائر.
الكوفة والثورات العلوية
نبهت ثورة النفس الزكية وإبراهيم على أن الكوفة خالصة للأمامية، وأنها غير مستعدة لنصرة الثائر الزيدي الذي يدعو لنفسه ولا يرفع شعار (الرضا من آل محمد). فعندما دخل إبراهيم بن عبد الله الكوفة كان يظن أن الكوفيين سيستقبلونه استقبال الفاتح وينهضون معه نهضة رجل واحد، ومن ثم تسقط الدولة العباسية بيسر وسهولة. غير انه لم يُحفل به وان بكوا لخطابه، فصار يبحث عن حيلة للفرار وقد أصبحت الكوفة مصيدة له وفخاً، واندفع الجيش العباسي ليطبق عليه بالفعل، وبالكاد استطاع التخلص من مأزقه. والسبب ان ابراهيم دعا لنفسه ولم يدعُ للرضا. وإذا راجعنا تاريخ الكوفة الثوري نرى أنَّ زيد بن علي نهض معه الكوفيون عندما رفع شعار الرضا من آل محمد، ولما غيَّر شعاره ودعا إلى نفسه دخل الكوفيون معه في جدل عنيف انتهى إلى التخلي عنه وتسليمه إلى مصيره المحتوم. وعرف ابنه يحيى هذه الحقيقة فاختار خراسان وفي نفسه رغبة بالثورة في الكوفة(104). وحين نهض فيهم عبد الله بن معاوية بن جعفر داعياً للرضا من آل محمد تقبلوه، فلما دعا إلى نفسه أشاروا عليه بقصد فارس ونواحي الشرق(105). 
ونجد من الزيديين من يدعي المهدوية لكسب أهل الكوفة الإمامية معه فهو موضوع يجمع الشيعة. ومنهم من يرفع شعار الرضا من آل محمد فيكسب الإمامية إلى جانبه، كما فعل محمد ابن طباطبا وهو من أئمة الزيدية، فأنهم قاتلوا معه وانتصروا، فلما مات وفوَّض الأمر إلى محمد بن محمد نجدهم يتراخون عن أبي السرايا حتى تركوه يسقط لأنه لم يدعُ إلى الرضا. كما ثار في الكوفة يحيى بن عمر وهو زيدي بعدما رفع شعار الرضا وقاتل معه الكوفيون إلى النهاية. فالكوفة قاتلت مع كل ثائر علوي رفع شعار (الدعوة إلى الرضا من آل محمد) وتخلت عن كل من تخلى عن هذا الشعار.
  
المهدي المنتظر فكرة ثورية
هو أمل النفوس اليائسة، ونور الحياة المظلمة، وصوت الله الواضح بين مختلط أصوات الشياطين، والنصر المحتوم على الجبابرة المفسدين. وهو نهاية المطاف للحياة الموسومة بالشاقة والموصومة بالذنب، وهو الذي يعيد كرَة الأرض إلى يد بارئها فيتلقفها ويقول: هي ملكي! بعد لعبكم اللاهي وعبثكم الفج وتملككم الآثم أيها البشر!! وهو حلقة الوصل بين الدنيا والآخرة.والمهدي تنتظره كل أمة، الموحدون: اليهود والنصارى والمسلمون، وغير الموحدين: المجوس والهنود والبوذيين والمغول وغيرهم(106)؛ فلكل أمة مهديُّها. على أن فكرة المهدي تأخذ مدى أوسع عند المسلمين قاطبة وفي كل الأزمان. وهو عندهم قيمة دينية، وسياسية، وفكرية، وجهادية، ووعد بتحقيق العدالة الأرضية. وفكرة المهدي كان لها آثار سياسية وفكرية خطيرة في التاريخ الإسلامي(107). وهي في الحاضر ومستقبل الزمان تعني الاستعداد المستمر للثورة والإصرار على تحدي القوى الكبرى والمحتلة، وهو يعطي حتماً الأمل والصبر وعدم الاستسلام. وهذا الأمر وعته الأعداء قديماً وحديثاً فملؤوا صفاء فكرته غباراً وضباباً. أهم صفة للمهدي المنتظر انه (يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً)(108). ونرى أن المهدي في ضوء الآية (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)(109) يظهر عندما تكون البشرية قد وصلت إلى مستوى من الوعي وفهم الله بعد مسيرة طويلة من الإخفاقات والضلالات والتجارب الباهظة لتنسجم وتتعاطى مع الإمام. وتحقيقاً لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(110) نرى أن الأمم من خلال الاكتشافات والتجارب والأخطاء واللطف الإلهي ستعود الى الديانات السماوية كما نزلت بلا تحريف، وهي على خط واحد فكلها (إسلام), فتتوحد البشرية وتتهيأ لحكومة المهدي الموحدة. وقد جعل الله ظهور المهدي في آخر الزمان لأنه (سبحان) لم يرد أن يغير طبيعة الأشياء، فالشر المسيطر على الأرض والطبيعة الإنسانية لا يسمحان ببقاء الخير طويلاً، على هذا الأساس صاحبت التقوى الكاملة ظهور الأنبياء جميعاً ثم انحسرت شيئاً وشيئاً، وحينما حدث الطوفان جدد الله (عز وجل) الخير بنسل النبي نوح (ع)، وكان يفترض أن يبتر الشر إلى الأبد ولا تحتاج الأرض إلى نبي بعده، ولكن إذا طالعنا الأنبياء بعد نوح ستطول بهم القائمة كما تطول قائمة الجبابرة الأشرار. ويمكن القول: إن الله (جل جلاله) أرسل الأنبياء والأديان لتحقيق الخير وكسر قانون الشر (الأرضي) الذي يسيطر على الحياة والبشر فيحول كل شيء خيِّر إلى شرير. ويشتد الصراع فينتصر الدين ويغمر الناس والحياة بسعادة الإيمان، ولكن بالتدريج يضمحل هذا التأثير بعد أن تزحف عليه قوى الحياة المعاكسة، ولكنه يبقي (تعاليمه وهديه) لترسم الطريق المستقيم للناس.فليس من الواقع في شيء أن تصبح الحياة في الأرض مثالية يوماً ما، فهي منذ خلقت قانونها الشر، فإذا ظهر الخير فانه يظهر دفعة واحدة فيدمغ الشر ويدحره، ثم ينمو الشر في الخير تدريجيا حتى يستشري ويسود من جديد، ثم ينهض الخير مدفوعاً وليس نامياً فيطرح الشر مرة أخرى بالأنبياء، وبعد الرسول محمد (ص) بالصالحين التقاة. وتتكرر هذه الدورة الأزلية إلى نهاية الأرض لا يغير قانونها أحد أو شيء لان الله (سبحانه وتعالى) أرادها هكذا (للاختبار). وقد ذكر الله سبحانه استحالة رقيّ الأرض وان المثالية للآخرة (الجنة) فقط، كما في أقواله الكريمة: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(111)(أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)(112)(وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(113).من هذه اللمحة وغيرها يتأكد لنا أن الأرض في زمن الظهور لن تصبح مثالية، وإنما يسودها الخير بأعلى نسبه المتحققة ثم ينتهي عند موت المهدي لتعود الحياة إلى عادتها القديمة، ولكن هذه المرة تحين الآخرة.وفي جعل الله الإسلام خاتمة الأديان افتتاح لعصر جديد يدعو إلى المزيد من الثورة على الشر عن طريق استعمال التجارب الماضية والفكر الإنساني الذي افترض الله أو فرض أن يكون قد استغنى عن الأنبياء بفعل تطوره. وفي القرآن الكريم نجد تقديم (السميع) على (البصير) دائما، وفي هذا بيان واضح لدعوة الإنسان إلى الانتقال من مرحلة المشاهدة وطلب المعجزات إلى مرحلة استعمال الفكر المحض. وتصل ذروة تلك الثورة في ظهور المهدي فيتحقق المثال (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)(114).
المهدي قسيم العصر العباسي
تعود المؤرخون أن يقسموا العصر العباسي على خمس حقب هي: الحقبة الذهبية (132 - 247هـ)، وحقبة الحكم التركي (247 - 334هـ)، وحقبة الحكم البويهي (334 - 447هـ)، وحقبة الحكم السلجوقي (447 - 590هـ)، وأخيرا حقبة الاستقلال المؤقت (590 - 656هـ) وهي السنة التي اجتاح فيها المغول بغداد وأسقطت الدولة العباسية. ولسنا مع هذا التقسيم؛ فحقبة الحكم التركي ما هي إلا امتداد لما سبقها، فإننا لا نعدم فيها خلفاء وأمراء أقوياء كالموفق طلحة وابنه المعتضد، كما شهدت هذه الحقبة رقيا هو امتداد لرقي الحقبة قبلها. بل إن القاسم المشترك بين الحقبتين والذي يرشحهما أن تكونا معاً أقوى من أي قاطع مختلف بينهما، هو استمرار الصراع العلوي – العباسي بشأن الخلافة. مما يجعل الحقبتين حقبة واحدة هي (حقبة الثورات)، وهو ما ارتضيناه عنواناً على (الحقبة الأولى) التي تمتد من (132هـ) وهو بداية تكوين الدولة العباسية إلى (329هـ) وهو تاريخ انتهاء الغيبة الصغرى للإمام المهدي (ع)، الذي وضع حداً نهائياً للثورات العلوية أو التي تقام باسم العلويين تحت شعار صار ثابتاً هو (الرضا من آل محمد). ونسمي (الحقبة الثانية)، وهي من تاريخ الغيبة الكبرى إلى سقوط الدولة العباسية (حقبة الدولات) وهي: الدولة البويهية، والدولة السلجوقية، والدولة الخوارزمية. وبهذا يقسم الإمام المهدي – واقع حال – العصر العباسي برمته إلى حقبتين: حقبة الثورات العلوية، وحقبة الدولات.
تلفيق العباسيين مهدوية المسيح (عليه السلام)
روَّج العباسيون في صراعهم المرير مع العلويين أنَّ الذي يظهر في آخر الزمان هو السيد المسيح عيسى بن مريم (ع) بدلاً من الإمام المهدي، وذلك تهرباً من فكرة المهدي المنتظر التي أرعبتهم. ففي بدء صيرورة خلافتهم خطب داود بن علي ابن عمّ السفاح فقال: (اعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم)(115). وكانوا قد اختلقوا أحاديث بهذا الشأن على الرسول من ذلك ما رواه الدارقطني عن المنصور رفعاً إلى ابن عباس أن الرسول (ص) قال له: (إذا سكن بنوك السواد ولبسوا السواد، وكان شيعتهم أهل خراسان لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم)(116). كل ذلك دفعاً للفكرة المهدوية ومحاولة القضاء المبرم عليها. وعلى الرغم من ورود الإخبار عن ظهور السيد المسيح (ع) آخر الزمان في مصادر حديث موثوقة للفريقين، إلا أن هذا لا يمنع من نقاشه نقاشاً أكاديمياً تجريدياً.. فضلا عن أننا نجد الروايات والأحاديث بهذا الخصوص جاءت تأويلات وتفسيرات غير دقيقة لآيات قرآنية. طُرح السيد المسيح شخصية لآخر الزمان مرة مع الإمام المهدي " ينزل فيصلي خلفه (أي المهدي) وتشرق الأرض بنور ربها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب"(117)، ومرة بديلاً منه. والرواية على حالتين متناقضتين تعدّ أول تناقض في الموضوع. وفي الحالة الأولى نرى المسيح مقحماً على الإمام المهدي اقحاماً، فهو شخصية ثانوية تابعة لشخصية المهدي المتبوعة. والذي يدعو إلى التساؤل كيف يصلي نبي خلف إمام؟ والنبي درجة أعلى ومكانة أخص، وهذا يقتضي أن يصلي المهدي (الإمام) خلف عيسى (النبي) إن كان لابدَّ من لقاء الشخصيتين. وكان وراء فكرة ظهور المسيح في آخر الزمان تفسير أو تأويل قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)(118). فالآية في ظاهرها تبين أن السيد المسيح (ع) لم يمت، وإنما شبّه للناس انه مات. وهذا يعني أن السيد المسيح رفع إلى السماء وهو حيّ، ولما كانت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(119) و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)(120) فقد تطلب أن يبعث النبي عيسى من جديد ليعيش فيموت. فعيسى لم يمت أو لم يَرد موته، ولكي يتحقق موته جعلوا خروجه حتمياً، وليس أنسب لظهور فموت النبي عيسى غير آخر الزمان. وقد نسج الخيال وخطأ التفسير والتأويل فكرة رسخت في عقول المسلمين هي أن المسيح لم يمت، وانه شبّه له بشخص صلب مكانه، وانه – لعدم موته- سيظهر آخر الزمان.إلا أن الذي يفند ظهور المسيح بالكامل هو انه قد مات بالفعل صلباً كما يقول المسيحيون تماماً. وقد أنكر الإمام الرازي في تفسيره قضية الشبه ووجد فيه ستة إشكالات:الإشكال الأول: إن إلقاء شبه إنسان على آخر يلزم السفسطة؛ فكل شخص تراه قد يكون شبِّه له حتى الرسول محمد (ص)، فصحابته الذين كان يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا انه محمد لاحتمال انه القي شبَهه على غيره. والإشكال الثاني: إن الله (جل جلاله) وكَل بعيسى جبريل (ع) فكيف لم يمنعه منهم، وكان المسيح يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فلماذا لم يكن قادرا على إماتتهم وإلقاء الأمراض عليهم؟ والإشكال الثالث: إن الله (جل جلاله) كان قادراً على تخليصه برفعه إلى السماء دون الحاجة إلى إلقاء الشبه على غيره وإلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه. والإشكال الرابع: لا يليق بحكمة الله التلبيس على الناس وتجهيلهم بحملهم على الاعتقاد بشخص آخر انه المسيح. والإشكال الخامس: إن المسيحيين على كثرتهم وغلوهم في المسيح اخبروا أنهم شاهدوه مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك طعنّا فيما ثبت بالتواتر، فسنطعن بنبوة ووجود محمد وسائر الأنبياء. والإشكال السادس: إن المصلوب بقي حيا زمناً طويلا، فلو لم يكن عيسى لأظهر الجزع وقال: لست بعيسى، بل أنا غيره وبالغ في ذلك واشتهر هذا الأمر(121). وفسر الأستاذ يوسف درة الحداد الشبه بالاشتباه؛ مذكراً أن العبارة وردت (شُبِّه لهم) وليس (شُبِِّه له)، فهو اشتباه ولبس عليهم وليس تشبيه شخص بشخص بديل منه. وعليه، فتفسير قوله تعالى (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) أنهم لم يقضوا عليه قضاءً مبرماً، بل هو حي عند الله(122). وفسر فريق من المسلمين المعنى بأن اليهود لم يقتلوا مبادئ عيسى وتعاليمه بقتله وصلبه، ولكن خيّل لهم أنهم قضوا على تعاليمه بذلك، مع أنها ما زالت قائمة، وستبقى إلى يوم يبعثون(123). وبهذا فكلمة (مات) تعني موت الذكر وهو هيهات منه، أما ما تعرض له المسيح فهو الوفاة أو الفناء الاعتيادي لكل إنسان وتحدده كلمة (توفي) أو (فني). واللغة العربية تفرق بين الموت والوفاة أو الفناء؛ قال الشاعر لبيد بن أبي ربيعة وهو يحتضر لابن أخيه وكان يسميه ابنه " يا بنيّ، إنَّ أباك لم يمت ولكنه فني"(124). وأرى أن الذي يحسم الأمر برمته ورود وفاة عيسى بشكل صريح في آيتين هما: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي (مُتَوَفِّيكَ) وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)(125). و(وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا (تَوَفَّيْتَنِي) كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)(126). فالآيتان تتكلمان عن موت عيسى الفعلي بما لا يترك أي جدل أو بدل، وتولي الله أمر قومه بعده، وانه الحاكم بينهم يوم القيامة. وليس ثمة ذكر لظهور المسيح مع امة المسلمين. أما رفعه إلى السماء فبروحه وليس بجسده. وبموته لا يمكن أن يظهر مرة أخرى بينما المهدي لم يمت بعد فأمكن ظهوره في وقت يختاره الله. ودعا إلى الفكرة الثانية (صلاته خلف الإمام) تفسير قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(127) و(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)(128). فهذه الآيات (بظنهم) تحلّ إشكال تعاصر المهدي المنتظر مع النبي عيسى الذي جعلوا له ظهورا في الوقت نفسه، فهي تؤكد تسيِّد الإسلام وظهوره على الأديان كلها. فبصلاة النبي عيسى خلف الإمام المهدي تتحقق تلك السيادة والظهور، أو عندما يصبح عيسى قائداً للمسلمين سيتخلى عن المسيحية والمسيحيين لصالح الإسلام والمسلمين، وبهذا يظهر الإسلام على الأديان كافة!! وجاء في تفصيل أكثر: " فيدقّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام"(129). وجاء في صحيح ابن حبان " إن الله يهلك في زمانه كلَّ الأديان غير الإسلام"(130). وتحاول النصوص أن تضع حلولاً لكل التساؤلات؛ فالمسيحيون سيتحولون جميعاً إلى الإسلام حين يرون نبيهم قد أصبح مسلماً بل صار قائد المسلمين الأوحد أو المثنى، أما اليهود فالروايات تقتلهم جميعاً:" يَقتل (أي المسيح) الدجالَ وتتفرق عنه اليهود، فيُقتلون حتى أن الحجر يقول يا عبد الله المسلم هذا يهودي، فتعال فاقتله"(131)!! وبهذا يظهر الإسلام على الأديان ويصبح الكل مسلمين! وهذا تخريج ساذج للآيات القرآنية السالفة في التعبير عن فكرة الدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص، ذلك أن الإسلام المحمدي في نظر الله (عز وجل) غير منفصل ولا مكمل للأديان السابقة عليه، فكلها ترجع إلى أصل واحد (ملة إبراهيم) (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ)(132). والمقصود إرجاع الديانات الثلاث إلى أصلها المشترك الواحد، وقد ابتليت المسيحية واليهودية كلاهما بالانحراف والوقوع في الشرك؛ فقد أشرك المسيحيون بعيسى بن مريم (ع) فجعلوه مرة ابن الله (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ)(133)ومرة هو الله (قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)(134). وأشرك اليهود بعزير فجعلوه ابن الله (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ)(135)، كما أشركوا بالمال بعصيانهم حين كفروا بالسبت فكان المال بمثابة الشريك لله في العبادة والطاعة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ)(136). والإسلام نفسه أضيف إلى متنه ما جعله يحتاج إلى تشذيب، وآخرها داعش أمريكا التي طرحت نسخة مشوهة للإسلام هدفها تقويضه ديناً. وعن الرسول(ص):" ستتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار"(137). وبهذا في آخر الزمان ستكون الرجعى إلى (الإسلام الحقيقي بلا شوائب)، وهو يشمل الأديان الثلاثة؛ فكلها يتخلص من شوائبه ويرجع إلى حالته الأولى حين عرضه نبيه، وفي هذه الحالة ستتطابق الأديان الثلاثة وتكون ديناً واحداً. يضاف إلى تأكيد ذلك أن إلغاء اليهودية والمسيحية لم يتحقق في أعلى ظهور للإسلام وهو زمن الرسول محمد ()، بل إن الرسول أبقى على أهل الكتاب وصانهم مقابل الجزية، فكيف يقضي الإمام المهدي على هذه الأديان بعده؟! ويضيف إلى تأكيد عدم وجود علاقة للمسيح بشخصية آخر زمان (المهدي المنتظر)، أن السيد المسيح سيبقى مسؤولاً عن دينه وأمَّته؛ الصالحين منهم والذين على دينه الأصل وليس المحرف. ويدلّ على ذلك قوله (تعالى) : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا)(138) وقوله (تعالى) (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(139)؛ فالسيد المسيح لا يكون كطير يرعى عش غيره، بل يظل للنصرانية والنصرانيين. وبذلك تسقط فكرته قاتلاً للدجال وقائداً للمسلمين، والأصح هي فكرة المهدي، فهو مسلم وهو إمام ينوب عن نبيه لقول الرسول (ص): "لا نبيَّ من بعدي"(140). وستكون أكثر بعداً عن الحقيقة فكرة أن السيد المسيح هو المهدي المنتظر! فقد جاء في أحاديث مروية عن الرسول (ص) تذكر السيد المسيح بأنه " يطلب الدجال حتى يدركه بباب لد، فيقتله"(141)... ثم يمكث عيسى (ع) في الأرض أربعين سنة، إماماً عادلاً، وحكماً مقسطاً"(142). وبهذا يرفع اسم المسيح من القضية المهدوية التي ستكون بلا عيسى خالصة للمهدي المنتظر، وهو ما يقتضيه منطق الشرع والحق.وكانت فكرة أيمة أهل البيت عن المهدي هي انه الشخص الذي يحقق الحكم العادل في ظروف إيمانية مناسبة، فيتحقق دمج الإمامة والخلافة وقيام شخص واحد بهما، وقد تجسد ذلك في خلافة الإمام علي والإمام الحسن، إلا أن الظرف لم يكن ايمانياً لذا ترك الأيمة من السجاد إلى الحسن العسكري الخلافة واكتفوا بالإمامة انتظاراً للمهدي الذي يتهيأ له تحقيق ذلك بمثالية. وكان الناس يتوقعون في كل إمام انه المهدي، وكان رد الأيمة كلهم: إنَّ وقت المهدي والحكومة العادلة لم يحن بعد، كقول الإمام محمد الباقر: " يزعمون أني أنا المهدي، وإني إلى الأجل أدنى مني إلى ما يدَّعون"(143). ولعلَّ المظلومين ليس عن فراغ يرددون: متى يظهر المهدي وتأتي الحكومة العادلة.
المهدي يقود الثورات العلوية
طرح اسم (المهدي) في ثورة المختار الثقفي، وقد روَّجت له الكيسانية على أنه محمد بن الحنفية، لعدم استجابة الإمام علي السجاد (ع) لثورة المختار، وعلى هذا الأساس المهدوي ذهبت الكيسانية إلى أن الإمامة انتقلت من الحسين إلى أخيه محمد(144). وهكذا على يد الكيسانية وبتدبير خفي من المختار ولدت (المهدوية السياسية). ونجد شاعرهم (كثيّر عزة) يصرح بأن الإمامة انتقلت بعد الإمام علي لأولاده الثلاثة: الحسن فالحسين فمحمد (المهدي الغائب) الذي سيعود فيقود النصر الأخير:
ألا إن الأئمة من قريشٍ ولاة الحق أربعة سواءُ
عليٌ والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاءُ
فسبطٌ سبط إيمان وبرٍ وسبطٌ غيبته كربلاءُ
وسبطٌ لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواءُ
يغيب فلا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسلٌ وماءُ(145)
وكانت نهاية المختار نهاية عملية لإمامة ابن الحنفية (المزعومة). إلا أنها لم تمت أفكاراً وجماعات. وانقسمت بعد المختار الى فرق منها الرزامية التي تقول: إن الإمامة انتقلت من ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم، وإن أبا هاشم أوصى بالإمامة بعده إلى محمد بن علي بن عبد اللـه بن عباس(146)، لتتم لهم الشرعية في إقامة دولتهم. وهي أدنى شرعية حصلوا عليها إن كان أبو هاشم قد أوصى فعلا. وكان العباسيون قد رفعوا شعار (الرضا من آل محمد) تضليلا على الناس وأعدائهم، إذ كانوا يشتغلون على (التشيع العباسي) في إيران حيث بدأت ونضجت وانطلقت ثورتهم(147). بعد فشل ثورة المختار، ظلت المهدوية السياسية تبحث عن ثائر يتبناها، بعد أن صارت للناس شغلاً شاغلاً، وللأمويين هاجساً مخيفاً. وقد بلغت وقتئذٍ أوجها، فصار كل إمام من أيمة أهل البيت مؤملاً بها من الناس ومتهماً بها من السلطة، وهو ما يشي به قول الإمام محمد الباقر (u): " يزعمون أني أنا المهدي، واني إلى اجلي أدنى مني إلى ما يدعون"(148). وكان رد الأمويين بالمثل؛ فقد كلفوا شعراءهم بادعاء المهدوية لخلفائهم، فقال الفرزدق:
كَم كانَ مِن قِسٍّ يُخَبِّرُنا بِخِلافَةِ المَهدِيِّ أَو حَبرِ(149)
سُلَيمانُ المُبارَكُ قَد عَلِمتُم هُوَ المَهدِيُّ قَد وَضَحَ السَبيلُ(150)
وقال جرير:
فَقُلتُ لَها الخَليفَةُ غَيرَ شَكٍّ هُوَ المَهدِيُّ وَالحَكَمُ الرَشيدُ(151)
أصبحت المهدوية تعني (الرضا من آل محمد)، وهي عبور زمني من الحسين (الرضا) إلى المهدي (الرضا). غير أن ظهور (زيد بن علي) ثائراً على الأمويين لنيل الخلافة، ومتنافساً مع أخيه محمد الباقر لنيل الإمامة، عطل المهدوية إلى حين. إذ طرح زيد أيدلوجية تلغي شعار الرضا، وتجعل المستحق للأمر كله (الخلافة + الإمامة) هو الثائر وليس القاعد. وسار على سمته ابنه يحيى الذي ثار بعده. استمرت مبادئ ثورة زيد فتبنتها جل الثورات العلوية في العصر العباسي، فاغلبها زيدية. والسبب في رواجها أن الثائر لا يحتاج إلى الدعوة لأحد الأيمة، فقط يكفي أن يكون علوياً من الفرع الحسني أو الحسيني، لذا نجد المتنبي الشاعر يدَّعي النسب الحسني(152)، ثم يعلن ثورته بوصفه أحد العلويين، وكغيره من العلويين الثائرين في العصر العباسي التف حوله مؤيدون وناصرون(153). إلا أن المهدوية رجعت من جديد بعد ثورة زيد ويحيى مع أول ثائر في العصر العباسي وهو محمد ذو النفس الزكية، الذي ادعى أبوه له المهدوية. ولعله هو أو غيره زوَّر أحاديث نبوية تزعم أن محمداً هذا هو المنتظر(154). وبعده صار ادعاء المهدوية لكل ثائر وإمام منتظر منه الثورة بعلمه أو بدون علمه. وقد أجمل نشوان الحميري ذكر من دعي بالمهدي المنتظر في العصور الإسلامية، وهم: (علي بن أبي طالب) و(محمد بن الحنفية) عند الكربية، و(عبد الله بن معاوية بن جعفر الطيار) عند الحربية(155)، و(محمد الباقر) عند الباقرية و(جعفر الصادق) عند الناووسية، و(موسى بن جعفر) عند الواقفة، و(إسماعيل بن جعفر) عند فرقة من الجعفرية، و(محمد بن إسماعيل) عند المباركية، و(محمد بن عبد الله النفس الزكية) عند الزيدية، و(محمد بن القاسم الطالقاني) و(يحيى بن عمر الكوفي) عند الجارودية، و(الحسين بن القاسم الرسي) لدى الحسينية، و(المستورون فالأربعة) لدى الباطنية(156). وكان محتماً للمهدوية أن تتوقف في عام (329هـ) زمن انتهاء الغيبة الصغرى وبداية الغيبة الكبرى. إذ لم يعد ممكناً ادعاء المهدوية بعد ذلك، فالمهدي آخر الأيمة ولا إمام بعده فيصلح شعار (الدعوة إلى الرضا من آل محمد). ولعلَّ أحد أسباب اختفاء المهدي كثرة ادعائه بالباطل. ومثَّل عام الغيبة نهاية الثورات العلوية قاطبة، مما هيأ لظهور عصر الدول. إلا أن المهدوية عادت من جديد بظهور مهديين أدعياء لا يحصيهم إلا الله كما يقول ابن تيمية. ومن هؤلاء علويون ورؤساء ومتصوفة وساسة. ومنهم أبعد ما يكون عن التصور كـ(تمرتاش بن جوبان) احد أمراء التتار عام (722هـ)(157)! وادعى المهدية فضل الله حلال خور سنة (786هـ/1384م) ولبس أتباعه الكفن وكانت دعوته مبنية على انه خليفة الله كآدم وعيسى ومحمد اجتمعت فيه مثل الصوفية والشيعة لإنقاذ العالم بالدم(158). وكادعائه ادعاء السفارة عليه؛ فقد زعم عشرة أثناء الغيبة الصغرى أنهم سفراؤه عيَّنهم الإمام نفسه إلى الأمة(159). وكان هدف الادعاء قبل زمن الغيبة طلب (الخلافة العامة) كادعاء النفس الزكية، أو طلب (الخلافة الخاصة) كما فعل الفاطميون؛ فخلافتهم خصت الشيعة والمتشيعين دون غيرهم. وبعد الغيبة ظهر العجز عن جمع الأمة على الهدف الأول، بسبب انتهاء مدة آخر أئمة أهل البيت المعوّل عليهم في طلب الخلافة، فزالت دواعيه وانحجب في إدراك علماء وشرفاء الأمة، مما جعل ادعاء المهدوية لغاية دون الخلافة، كرياسة دولة أو الاستحواذ على مدينة أو جمع الأموال. وهذا بحد ذاته يفضح بطلانها، لان فكرة المهدي تقوم على قيادة الأمة وليس من اجل مكاسب متهافتة. ويرى ابن خلدون في تأريخه أن الذين يدعون هذه الدعوى إما أن يكونوا موسوسين أو مجانين، وإما أن يكونوا من طالبي الرياسة والملك فيجعلون هذه الدعوى وسيلة لذلك، وقد يكون بعض من ادعى هذه الدعوى من الصالحين ويريد إظهار الحق ويتخيل له أنه هو المهدي(160). وقد أورد ابن خلدون من أدعياء النوع الثاني طائفة ظهروا في المغرب في أزمان مختلفة منهم: التويزري المتصوف، خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة زمن السلطان يوسف بن يعقوب المريني، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من كدالة وكزولة، وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة وعلماؤهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحلَّ أمره، ورجل يعرف بالعباس ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة في عشر التسعين منها، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، وتبعه الدهماء من غمارة؛ ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره، ورجل من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعاً معظماً كثير التلامذة، جاء وأتباعه قاصدين أرض المغرب، لإظهار دعوى أنه الفاطمي المنتظر، فلما رأوا قوة دولة بني مرين قال لأصحابه: ارجعوا بنا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. ويرجع ابن خلدون فشل هؤلاء إلى أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لاسيما في المغرب(161). وفي اليمن ظهر أبو القاسم بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي مدعياً نيابته عن المهدي المنتظر ومبشرا بظهوره في اليمن(162)، وذلك في خلافة المعتضد العباسي (279- 289هـ). ويظهر أن ادعاء المهدوية توارث وتناسل في اليمن إلى زمن أبي العلاء المعري (ت449هـ) فهو يقول: " وما زال اليمن منذ كان، معدناً للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت بالتزين. وحدثني من سافر إلى تلك الناحية، أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مالٍ، يصل بها إلى خسيس الآمال. وحكي لي أن للقرامطة بالإحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه، ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرجٍ ولجام، ويقولون للهمج والطغام: هذا الفرس لركاب المهدي، يركبه متى ظهر بحق بديٍ. وإنما غرضهم بذلك خدعُ وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل"(163). وادعى المهدوية أيضاً المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين في المغرب(164)، فكان الخطباء يقولون بحقه على المنابر "الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الذي بشرت به في صريح وحيك الذي اكتنفته بالنور الواضح والعدل اللامح، الذي ملأ البرية قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"(165). وهكذا استغلت فكرة المهدي المنتظر من اجل مكاسب دنيوية بسيطة لا ترقى إلى طلب الخلافة فيما بعد.وفي العصر الحديث صار ادعاء المهدوية خلواً من الهدفين السابقين تماماً لا الخلافة ولا المكاسب المادية، بل لأسباب سياسية دولية كادعاء السوداني محمد احمد بن عبد الله المهدوية في الخرطوم عام 1881م مؤيداً من طائفة من المشعوذين. والملاحظ انه لم يدَّع لا خلافة ولا طلب مغانم، بل وجدناه بعد سيطرته على السودان يراسل: حكومة مصر، والسلطان عبد الحميد، وملكة انكلترا يعرفهم بمنزلته وبأنه سيملك جميع الأرض كما اخبره بذلك (سيد الوجود)(166). وواضح أن ظروفاً سياسية أوجدته؛ فقد تزامن ظهوره مع الهيمنة الأجنبية على دول الوطن العربي، ومحاولة بعضها التحرر من السيطرة العثمانية فاستغلت المهدوية لذلك. وكذلك ادعاء أحمد القادياني في عام (1891م) انه المهدي في الهند. ويرى البستوي استناداً إلى مراجع قريبة أن الحركة القاديانية أوجدها الانكليز لشغل المسلمين بها عن المقاومة ومشاعر الاستياء ضدهم اثر استشهاد الإمامين أحمد الرائي بريلوي وإسماعيل الدهلوي في معركة بالاكوت ضد الاحتلال الإنكليزي(167). وفي عام 1979 عندما صار توجه أميركا نحو الخليج العربي متوجاً بافتعال حرب الخليج بين الدولتين ذاتي النسبة الشيعية السكانية الكبيرة: إيران والعراق، ظهر (جهيمان بن سيف العتيبي) في مكة مدعيا أن صاحبه القحطاني هو المهدي مع ثلة ضالة من أتباعه، واستولى على الحرم المكي الشريف فاستباحوا الدم الحرام في البلد الحرام وفي المسجد الحرام(168). وقد انجذب نحو الحركة الكثير من شباب الحركة الإسلامية في مصر والجزيرة واليمن والكويت وغيرها متفاجئين بظهور المهدي. والأسباب سياسية واضحة جداً؛ فهذا الدعي لم يطلب خلافة ولا مالا، بل أراد السخرية وإيذاء رمز الإمام المهدي الذي يحسب له الغرب ألف حساب، ولا يعدونه قصة فنتازية كما يعده بعض المسلمين للأسف.
  
الثورات العلوية ونشأة التشيع
كان شعار الثوار العلويين (الدعوة إلى الرضا من آل محمد) واضح الهدف والدلالة على حصر الحكم بآل الرسول. والثورات العلوية ناهضت حكومات قائمة لها أيدلوجية. ولما كانت الحكومات القائمة والثورات العلوية كلتاهما تستندان إلى الشرعية الإسلامية، فحتماً ستستمدان أيدلوجيتهما من الشرعية الإسلامية مع سلب كل فريق منهما الآخر تلك الشرعية. ومن هذا نستنتج أن مصطلح (الشيعة) وليد الثورات العلوية وظروف الصراع الأيدلوجي الإسلامي مع الآخر. وإذا عدنا إلى تسلسل الزمن لتتبع مصطلح (الشيعة) سنجد أنه في زمن الخلفاء الراشدين بما فيهم الإمام علي لم يكن معروفاً بمفهومه الاصطلاحي، بل عرف بمعناه اللغوي وهو (الجماعة). ولم نجد الإمام علي يستخدمه في خطبه بمعنى (حزبه الخاص به) ولسنا نعتقد جازمين أن الإمام علي وهو (خليفة المسلمين كافة) يصنع حزباً خاصاً به ضمن المجتمع المسلم ويسميهم (شيعته). وقراءة تاريخه الحربي تؤكد انه لم يتعامل بفئوية، فجيشه في معركة (صفين) شمل الأتباع وغير الأتباع. ومنهم من آمن بالثأر للخليفة عثمان، وإنما أبقاهم في صفوف علي وجوب إطاعة وليّ الأمر. وقد أثبتت نتيجة صفين أنهم لم يكونوا مخلصين كفاية لتحقيق النصر، بل مكتفين بالمشاركة الشكلية والوجود غير المجدي. وعندما صارع معاوية علياً على الخلافة لم يجد لنفسه ميزان شرعية يَرجح
مقالات اخرى للكاتب

 
أضف تعليق
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
الاسم :

عنوان التعليق :

البريد الالكتروني :

نص التعليق :

1500 حرف المتبقية
أدخل الرقم من الصورة . اذا لم تستطع القراءة , تستطيع أن تحدث الصورة.
Page Generation: 0.42852
Total : 101