كان (علاء العلاف) يتصف بخصال محددة مما يعني أنه يمثل ظاهرة من ظواهر البلد، وصنفاً من صنوف الشعب. وهو علَم على هذا الصنف، لذا يمكن أن نسميه (الصنف العلائي).. وهذا أفضل من تغليب اللقب فلا نقول (الصنف العلافي)؛ لأنه بصراحة قلق في لقبه؛ فمرة طبع له أحد الطباعين ورقة وغلط فكتب لقبه (المعلاف) بدل العلاف، فراقه اللقب الجديد- الخطأ مطبعيا، وسألني: ماذا تقول في علاء المعلاف؟ فقلت له: العلاف: الذي يعلف الحيوانات، والمعلاف: الذي يُعلفه العلاف، فهو من الخلق الثاني! فهمهم: لا أنا قلت علاف أحسن، وبقي على لقبه الأول.
كان متمنياً بلا سعي، ومدَّعياً ما يتمنى، وكان يغالي في الادعاء فيفرض نفسه فرضاً على الناس والأشياء، وهو يردد عبارة ظليَّة بعد كل رأي وقول ( صحيح لو ما أفتهم). وكان يتحدث كثيراً وعلى الرغم من اطراداته وتوسعاته في التفاصيل فانه لا يمتلك القدرة على طرح موضوع.. انه يدور فيحور (أي يرجع).. فهو أشبه بمحاولة سياقة دراجة هوائية مقطوعة (الزنجير) فراكبها يدوس الدواسة كثيراً دون أن تتقدم الدراجة دورة عجلة واحدة.
وعلى الرغم من قلة معلوماته، كان يسرق دور الكلام من أفواه المتحدثين فيهرب به إلى حيث يضيع الحديث، كما تسرق دجاجة حبة رز من فم دجاجة أخرى فتهرب بها بعيداً ثم تسقط من فمها. وكان لا يربع على ضلع فهو مهذار كثير الكلام، وقد أثبت بهذا فراغ عقله فالإمام علي (عليه السلام) يقول " إذا كثر العقل قلَّ الكلام" أي (إذا كثر الكلام قلَّ العقل) فما بالك بكلام خاوٍ خالٍ!!
ان هذا الصنف (العلائي) ادعائي، التصاقي، هلامي.. فمرة ادعى انه شاعر! وصار يخرج من جيبه كلما مرَّ بشعراء قصاصة عليها كتابات يسميها شعراً. وفي مرة اخرج ورقته وفيها ألفاظ لا تعرفها العربية كقوله (الضوء يتمجمج) فأصلحها له احد الجالسين إلى (يتوهج) فغرق الحاضرون في الضحك. فمدَّ يده فأخرج قصاصة أخرى فلقيت مصير صاحبتها، ثم اخذ يخرج قصاصاته كالدولاب فيلقيها مضحكة.. فبدت في تساقطها وتهافتها كذبانات تلقيها على الأرض مذبَّة. ثم جمع قصاصاته (ذباناته) وخرج.
ولكنه زاد بقاحة ووقاحة وإصراراً على انه شاعر؛ ففي مرة كتب " إنها حاقدة.. وأسنانها تجلس مع الأعداء" فقال له أحد المستفيدين منه (يغدِّيه بين حين وآخر) : "هذه سريالية!!"، فقال : " نعم، أنا سرياني!! "، فاستدرك عليه الذي (يغدِّيه بين حين وآخر): " سريالي.. سريالي..".
ولعلَّه أولم لمجموعة من الناقدين (الجوعى) فقالوا له:" سنعرِّفك بصاحب جريدة ينشر نتاجاتك (طبعاً بعد تصليحها). وقرأ على صاحب الجريدة (شعيره)، فأمال فمه بحزن لمعت معه صلعته حتى همَّ أن ينطحه (كلـَّة)، إلا انه راعى سمعته الثقافية، فأحجم.. فهمهم وتمتم:" لو تعوف الشعر أحسن.."، فقال علاء:" إذن جرِّب هذا.. وفتح فمه وصار يدير وجهه كمروحة أرضية محاولاً الغناء، فأخرج صوتاً منكراً يسطر الراس ويخنق الحواس، فغلي الرجل الصحفي الا انه فشَّ لاماً الموقف وقال بحنق :" هذا أحسن من الأول..".
لقد تنامى في نفسه هذا التشجيع وصار يقتنع بموهبته الغنائية. الا انه نمت معها مواهب أخرى قد تبدو متباعدة متباينة للغير، إلا أن علاء بمواصفاته (الادعائية) يجدها منسجمة متماهية كلها؛ فقد ادعى انه يستطيع قراءة التاريخ القديم ومن ضمنه ألواح سومر، ويحلَّ عويص مسائل الرياضيات التي يعجز عن حلها الاختصاصيون، ويتكلم الفارسية بطلاقة. فسأله أحدهم:" ماذا تعني كلمة (چي ميخوي) - وهي تعني بالفارسية ماذا تريد - فأخذ يبحث عن اللفظ العربي الدقيق المقابل للفظة، جامعاً إبهامه وسبابته بفتحهما وغلقهما باستمرار مع تمتمة وفيهقة ، ثم عثر بعد وقت وجهد (عليها):" إنها تعني الشخص عندما يكون في حالة مزرية"!! فحفظها هذا الشخص وصار يستعملها - تندرا - فكلما سأله أحد عن حاله يقول " چي ميخوي ".
ومرة استشهد بمثل مشهور يستخدمه النحاة ولكن حسب طريقته وخزينه الثقافي فقال " ربّ حشرة ضارة نافعة) والنحاة والعرب والعالم كله يعرفه (رب ضارة نافعة)!
وهو إلى هذا كله تاجر! طبعاً لا يتاجر بشيء أو سلع معينة كالتجار، بل بمتناقضات كأحواله. وفي مرة جلب الكهربائي المصري (سيِّد) لإصلاح مروحة في مشغل له، وهو عبارة عن غرفة ضيقة. ولما كان الوقت صيفاً والكهربائي سيِّد اضطر إلى قطع الكهرباء، فانه صار ينزف عرقاً مسيَّحاً.. فوقف علاء في باب المشغل وفتح فمه وصار يدير رأسه في كل الاتجاهات وهو يغني أغنية كتب كلماتها بنفسه لابنته فزلزلت المكان ثقلاً، ولاسيما لازمتها التي تقول (يلبُنيَّه.. يلبُنيَّه).. ولم يكتف بهذا بل سأل سيِّد (صوتي حلو لو يصلـَخ).. فتماسك سيِّد وصبر مجبوراً.. إلا انه مع استمرار غناء علاء صار صبره يسيح مع عرقه حتى نفد، فصاح :" عِلاء (بكسر العين).. إيـ.......ـه!!! تسكت وإلا حأطَّع الويرات وارميها بوشك"!!
لقد مضى وقت طويل لم ألتق علاء.. أو بالأحرى حاول هو الاتصال بي مرارا وتكرارا وإلحاحاً وإلحافاً ولكني تهربت من ثقله.. إلا أني التقيتُ (علائيين) كثراً يحملون خصاله مارة الذكر نفسها. وقد صدق ظني بأنَّ المتشابهين خـُلقاً يتدانون خـَلقاً ولو بشيء واحد. فهؤلاء حينما يستمرون في ممارساتهم (العلائية) يظهر لهم شبَه بعلاء.
وقد سمعتُ مؤخراً من صديق مشترك أن علاء ترك مواهبه التي أعرفها، فقلتُ له:" حتماً ظهرت عنده مواهب جديدة مماثلة".. ولم أعجب حين عرفتُ انه صار يدير صيدلية بعدما نبغ في معرفة الأدوية!!!
مقالات اخرى للكاتب